تاجا الذكر

منذ 2024-11-23

غنائمُ عظيمةٌ باردة لا تُكلِّف جُهْدًا ولا مالًا، وإنما تكلف نطقًا باللسان، قال مالك بن دينار رحمه الله: "ما تلذَّذ المتلذِّذون بمثل ذِكْرِ الله عز وجل"

أيها المسلمون: منَّ الله تعالى علينا بنِعَمٍ كثيرةٍ وآلاءٍ عظيمة، ومنها نعمة النطق باللسان، به نُعبِّر عما في صدورنا، وما نرغب إيصاله للآخرين، وغير ذلك من الفوائد الجمَّة المنوطة بهذا اللسان، الصغير في حجمه، الكبير في قَدْرِه، ومن عظيم نفع هذا اللسان أن الله تعالى جعله سبيلًا لمرضاته، وكسب الكثير من الحسنات، إذا استعمله العبدُ فيما ينفعه في معاده؛ وذلك بذكرِه تعالى، فلم يأمر الله تعالى في كتابه بالإكثار من شيء سوى ذكره عز وجل؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]، فذكره سبحانه طمأنينة للقلب وسكون للنفس كما قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

قال الحسن البصري رحمه الله: "تفقَّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتُم ذلك، وإلَّا فاعلموا أن الباب مُغلَق"، وقال مالك بن دينار رحمه الله: "ما تلذَّذ المتلذِّذون بمثل ذِكْرِ الله عز وجل"، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "في كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقَّتة، والذِّكرُ عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة، بل العباد مأمورون بذكر معبودهم في كل حال، قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قِيعان وهو غِراسها، فكذلك القلوب بورٌ خراب وهو عمارتها وأساسها، فهو جِلاء القلوب وصَقْلُها، ودواؤها إذا غَشِيَها اعتلالها، به يزول الوَقْرُ عن الأسماع، والبَكَمُ عن الألسن، وتنقشع الظُّلمة عن الأبصار، وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يُغْلِقْه العبد بغَفْلَتِهِ، وبالذكر يصرَعُ العبدُ الشيطانَ كما يصرع الشيطان أهلَ الغفلة، وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر، كان كالجسد الذي لا روح فيه"؛ أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه)).

 

والذاكرون الله تعالى كثيرًا هم أهلُ السَّبْقِ؛ أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمرَّ على جبل يُقال له: جُمْدانُ، فقال: «سِيروا، هذا جُمْدَانُ، سبق الْمُفرِّدُون» ، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»، وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «ألَا أُنبِّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إعطاء الذهب والفضة، وأن تَلْقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» ؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ذِكْرُ الله عز وجل»، وأخرج البيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ((آخرُ ما فارقتُ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قلتُ له: أي الأعمال خير وأقرب إلى الله؟ قال: «أن تموت ولسانك رَطْبٌ من ذكر الله عز وجل»، والآيات والأحاديث في فضل الذكر، والأمر بالإكثار منه، كثيرةٌ.

 

وأعلى ذكره سبحانه وتاجُه قول: لا إله إلا الله؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «قال موسى: يا رب علِّمني شيئًا أذكرك به وأدعوك به، قال: قُلْ يا موسى: لا إله إلا الله، قال: يا رب كلُّ عبادك يقولون هذا، قال: قُلْ: لا إله إلا الله، قال: إنما أريد شيئًا تخُصُّني به، قال: يا موسى لو أن أهل السماوات السبع والأرضين السبع في كِفَّةٍ، ولا إله إلا الله في كِفَّةٍ، مالت بهم لا إله إلا الله»؛ (رواه النسائي وابن حبان).

ومن فضائل هذا الذكر العظيم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كان له عَدْلُ عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحِيَ عنه مائة سيئة، وكُنَّ له حِرزًا من الشيطان سائرَ يومه إلى الليل، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما أتى به، إلا من قال أكثرَ»؛ (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «من قال إذا صلى الصبح: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كُنَّ كعدل أربع رقاب، وكُتب له بهن عشر حسنات، ومُحِيَ عنه بهن عشر سيئات، ورُفع له بهن عشر درجات، وكُنَّ له حرسًا من الشيطان حتى يُمسِيَ، وإذا قالها بعد المغرب فمثل ذلك»؛ (رواه الترمذي والنسائي بسند صحيح)، وأخرج البخاري عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الذكر العظيم بعد الصلاة المكتوبة ثلاث مرات، وعشرًا بعد صلاة المغرب والفجر، والأحاديث في فضل هذا الذكر العظيم كثيرة.

 

أيها الفضلاء: أما التاج الثاني من الذكر، فهن أحب الكلام إلى الله تعالى؛ أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن سَمُرة بن جُنْدب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «أحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرُّك بأيِّهن بدأتَ»، وهُنَّ الكلمات التي اختارها الله عز وجل واصطفاها لعباده؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  «إن الله اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، وهذه الكلمات هي وصية نبي الله تعالى وخليلِه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام لنا؛ أخرج الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «لقِيتُ إبراهيمَ ليلةَ أُسرِيَ بي، فقال: يا محمدُ، أقْرِئ أُمَّتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عَذْبَةُ الماء، وأنها قِيعان، وأن غِراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»، وهذه الكلمات كانت أحب إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من الدنيا وما عليها.

أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس»، ومما ورد في فضل هذا الذكر العظيم ما أخرجه الإمام أحمد والنسائي بسند جيد عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: ((مرَّ بي ذات يومٍ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني قد كبِرتُ وضعُفتُ، فمُرْني بعملٍ أعمَله وأنا جالسة، قال: «سبِّحي الله مائة تسبيحة؛ فإنها تعدِل لكِ مائة رقبة تُعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميده؛ تعدل لكِ مائةَ فرَسٍ مُسرجة مُلجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكبِّري الله مائة تكبيرة؛ فإنها تعدل لكِ مائة بَدَنَةٍ مُقلَّدة مُتقبَّلة، وهلِّلي الله مائة تهليلة تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يُرفع يومئذٍ لأحدٍ عملٌ إلا أن يأتيَ بمثل ما أتيتِ به»، ومن فضائل هذه الكلمات أنهُنَّ مُكفِّرات للذنوب من الصغائر؛ ففي مسند الإمام أحمد، وسنن النسائي، ومستدرك الحاكم، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «ما على الأرض رجلٌ يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كُفِّرت عنه ذنوبه، ولو كانت أكثرَ من زَبَدِ البحر»، وأخرج الإمام الترمذيُّ في سُنَنِهِ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بشجرة يابسةِ الوَرَقِ فضَرَبَها بعصاه، فتَنَاثَرَ الورق؛ فقال:  «إن الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لَتُساقِط من ذنوب العبد، كما تساقط ورق هذه الشجرة»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «خُذُوا جُنَّتكم» ، قلنا: يا رسول الله من عدوٍّ قد حضر؟ قال: «لا، بل جُنَّتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهُنَّ يأتين يوم القيامة منجياتٍ ومقدماتٍ، وهنَّ الباقيات الصالحات»، والأحاديث في بيان فضل هذا الذكر وثماره كثيرة.

 

أيها المؤمنون: غنائمُ عظيمةٌ باردة لا تُكلِّف جُهْدًا ولا مالًا، وإنما تكلف نطقًا باللسان، غفل عنها وتكاسل الكثيرُ إلا من رحِم الله تعالى من عباده، وأصحابُ الهمم العالية والنفوس الراغبة فيما عند ربها سبحانه من كرم وإحسان وعطاء، يُضيفون ما يسمعون إلى ما عندهم من الخير والطاعة؛ وشعارهم في ذلك قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، فيجعلون لهم وِرْدًا من كل ذِكْرٍ وَرَدَ له في فضل في الكتاب والسنة، لا يتكاسلون عنه ولا يتأخرون.

 

أيها المباركون: إن عُمْرَ الإنسان قصير، والكَيْسُ الفَطِنُ يحرص على ملء هذا العمر بمثل هذه الكنوز الخفيفة المؤونةُ، العالية القيمةُ، فهنيئًا لمن حافظ على الأذكار عامة، وهذين الذكرين خاصةً، وعلَّم زوجته وولده كلَّ ذِكْرٍ وَرَدَ فيه فضل وبيَّنه لهم، ويسعى لنشر ذلك في المجالس وعبر وسائل التواصل المختلفة، مُذكِّرًا بفضائل الذكر وما في هذين الذكرين العظيمين من عطاء وحسنات كثيرة؛ ليكون ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة، وكل من تعلمها منه، وعمِل بها إلى يوم الدين.

______________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف

  • 3
  • 1
  • 282
  • قتيبة عبدالفتاح الشيباني

      منذ
    فضائل الرباط في سبيل الله ■ (الأمر بالرباط) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. قال ابن عباس (رضي الله عنهما): "{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} على طاعة الله {وَصَابِرُوا} أعداء الله {وَرَابِطُوا} في سبيل الله" [تفسير ابن المنذر]. وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يذكر له جموعا من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: "أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله له بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسرٌ يسرين، وأن الله يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]" [رواه مالك في الموطأ]. وقال الحسن البصري -رحمه الله- في تفسيرها: "أمَرَهم أن يصبروا على دينهم، ولا يدعوه لشدة ولا رخاء، ولا سراء ولا ضراء، وأمرهم أن يصابروا الكفار، وأن يرابطوا المشركين" [تفسير الطبري]. وقال زيد بن أسلم رحمه الله: "اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم، ورابطوا على عدوكم" [تفسير الطبري]. وقال قتادة رحمه الله: "أي اصبروا على طاعة الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]" [تفسير الطبري]. وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: " {اصْبِرُوا} على دينكم، {وَصَابِرُوا} الوعد الذي وعدتكم عليه، {وَرَابِطُوا} عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم" [تفسير ابن المنذر]. في هذه الآية الكريمة أمر بالرباط المعروف في سبيل الله بالثغور كما فسرها عمر وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم، والحسن البصري وقتادة وزيد بن أسلم ومحمد بن كعب من التابعين رحمهم الله. أما الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط"، فالحديث مثل الأحاديث التي فيها "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله"، و "المهاجر من هجر ما كره الله"، و "الإسلام طيب الكلام وإطعام الطعام"، فهو لا يقصر معنى الرباط على انتظار الصلاة بعد الصلاة ولا يفهم من لفظه أن الحديث تفسير للآية، ولذلك قال الطبري -رحمه الله- في تفسيره، بعدما روى الحديث عن أبي هريرة: "قوله {وَرَابِطُوا} معناه: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك، في سبيل الله، وأرى أن أصل الرباط: ارتباط الخيل للعدو، كما ارتبط عدوهم لهم خيلهم، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر، يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء، ويحمي عنهم من بينه وبينهم، ممن بغاهم بشر كان ذا خيل قد ارتبطها، أو ذا رجلة لا مركب له وإنما قلنا: معنى {وَرَابِطُوا} ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني الرباط، وإنما توجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه دون الخفي، حتى يأتي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه حجة يجب التسليم لها من كتاب أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من أهل التأويل" [تفسير الطبري]. قال ابن قتيبة رحمه الله: "[أي] ورابطوا في سبيل الله، وأصل المرابطة الرباط: أن يربط هؤلاء خيولهم، ويربط هؤلاء خيولهم في الثغر، كلٌّ يعد لصاحبه، فسمي المقام بالثغور رباطا" [غريب القرآن]. وكثير من الناس لا يميزون بين الرباط والحراسة، فربما يكون المرء مرابطا ولا يكون حارسا، فالمرابط بالثغر ينام ويأكل ويمارس الرياضة ويتكلم مع أصحابه ويقرأ ويصلي قبل نوبة حراسته أو بعدها، وربما يكون مرابطا بالثغر يطبخ لغيره من المرابطين ويخدمهم وينتظر ويستعد لحماية الثغر ضد أي محاولة من الكفار للهجوم، لكن ليس له أي نوبة حراسة لاحتياج المجاهدين له في خدمة أخرى أثناء رباطه إن قرر ذلك أمراؤه، وهو مرابط حتى لو لم تأت نوبة حراسته أو لا تأتي لفترة بعيدة أو لن تأتي أبدا، ما دام ملتزما بها مخلصا فيها إذا جاءت، وهو مرابط حتى لو كان الثغر الذي يحميه هادئا، وإن كان الأجر لحماية الثغور الخطيرة أكبر، والحراسة درجة أعلى من الجهاد أكرمه الله تعالى بها أثناء رباطه، وتجب عليه إذا ما أمره أمراؤه بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله" [حسن: رواه الترمذي عن ابن عباس]، ما أعظمه من شرف أن يتعب المرء عينيه في حماية المسلمين! ■ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 19 السنة السابعة - الثلاثاء 14 جمادى الأولى 1437 هـ مقال: فضائل الرباط في سبيل الله
  • قتيبة عبدالفتاح الشيباني

      منذ
    (فضل من رابط يوما) • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها) [رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد]. وقال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان) [رواه مسلم عن سلمان]. وقال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) [حسن: رواه الترمذي والنسائي عن عثمان بن عفان]. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين: مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) [سنن سعيد بن منصور]. والذي ييسر فهم هذا الأجر العظيم في الرباط هو معرفة المرء أن العُبّاد -بما فيهم العلماء- لا يستطيعون القيام بعباداتهم لولا المرابطون على الثغور، ولو أن المرابطين تركوا مواقعهم ولم يحموها، لصارت كل مدن المسلمين وقراهم مهددة بالغزو والنهب من قبل الكافرين، لذلك قال العلماء إن المرابط له أجر كل مسلم خلفه يعبد الله، حيث أن رباطه يمكنهم من الخشوع في عباداتهم، كما أن المسلم الذي يعتني بأهل المجاهد في غيابه له أجر غزوه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا) [رواه البخاري ومسلم عن زيد بن خالد]. ■ (السلف وأربعون يوما من الرباط) جاء رجل من الأنصار إلى عمر بن الخطاب فقال: "أين كنت؟" قال: "في الرباط" قال: "كم رابطت؟" قال: "ثلاثين" قال: "فهلّا أتممت أربعين" [مصنف عبد الرزاق]. وإن ابناً لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- رابط ثلاثين ليلة ثم رجع فقال له ابن عمر: "أعزم عليك لترجعن فلترابطن عشرا حتى تتم الأربعين" [مصنف ابن أبي شيبة]. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "تمام الرباط أربعون يوما" [مصنف ابن أبي شيبة]. بسبب هذه الآثار وغيرها، عندما سئل الإمام أحمد "هل للرباط وقت؟"، أجاب "أربعون يوما"، قال إسحاق بن راهويه: "[هو] كما قال" [مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه]، وهذه الآثار تدل على أن الأفضل للمرء إذا رابط أن يرابط أربعين يوما أو أكثر قبل أن يعود ليستريح، وهذا هو الرباط على منهج السلف. ■ (فضل من مات مرابطا) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر) [صحيح: رواه أبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد]. وقد ذكرنا الحديث المرفوع الذي رواه مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: (وإن مات فيه [أي في الرباط] جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان) [رواه مسلم عن سلمان]. هذا الميتة العظيمة وهذا الأجر المضمون لكل مرابط توفي في رباطه حتى ولو كان سبب موته مرضًا أو كبرَ سن أو حادثًا عاديًّا، وما أزكاها عندما تكون شهادة سببها القصف الجوي من قبل الصليبيين وحلفائهم المرتدين! إن نمو عمل الميت ذُكر في حديث آخر، (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) [رواه مسلم عن أبي هريرة]، وإن أجر الصدقة والعلم والولد باق ما دامت الصدقة جارية وما دام ينتفع بعلمه وما دام ولده يدعو له، كما هو مفهوم هذا الحديث ومنطوق غيره، بينما نمو أجر من مات مرابطا هو مستقل عن أي شرط آخر، وهذا ليس إلا للمرابط! وهذا الأجر غير مذكور لشهيد المعركة، بل للمرابط الذي ربما مات في رباطه بكبر سنه أو مات في نومه مستريحا! وما أشرفها من ميتة! وهذا أكبر محرض يدعو المرء ليطلب من الله أشرف ميتة، الشهادة في سبيل الله في الرباط. ■ المصدر: صحيفة النبأ – العدد 19 السنة السابعة - الثلاثاء 14 جمادى الأولى 1437 هـ مقال: فضائل الرباط في سبيل الله

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً