اعتزل ما يؤذيك

قال النبي ﷺ «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم»، فعلى المؤمن أن يدرك هذا المعنى، ويأتمر بأمرِ ربِّه، فيتحلى بالصبر، ويتجمَّل بالعفو والصفح، مُحسنًا أخلاقَه مُحتسِبًا.

  • التصنيفات: فقه المعاملات -

في مجموعة تواصل نسائية عجِبت لردود بعض النساء على أختٍ سائلةٍ، تشتكي من أخت زوجها على ما أذكُر، فكانت معظم النصائح بأن أسْلَمَ حلٍّ لمثل تلك المناوشات الطبيعية بين النساء هو البعد وقطع العلاقة بقدر المستطاع؛ تجنُّبًا لتلك المشاكل التي تعكِّر صفوها، ولم أجد واحدةً نصحتها بطريقة تتعامل بها معها، فهل يا تُرى هذا هو الحل الصحيح على الإطلاق؛ "اعتزل ما يؤذيك"؟

 

وكم يتألم المرء أيضًا وهو يتصفح وسائل التواصل الاجتماعي، ويقع أمام عينيه منشور لأحدهم كتب فيه بكل ألم وحزن عن وحدته القاتلة، وقلبه الذي حطَّمه الآخرون!

 

ولو مررتَ على صفحته لازداد ألمُك؛ إذ يغلُب عليها منشورات منقولة، عَلَت فيها نبرةُ هجرِ العلاقات، وغَدْرِ الأصحاب، وكم هو ظُلم وخبث الناس.

 

إننا لا نستهين أبدًا بقسوة تلك المشاعر التي يمكن أن يشعر بها المرءُ، عندما يمرُّ بموقف قد خذله أو أذاه فيه أحدهم، ولكن تلك النبرة عمَّت وفَشَت بين أبناء المسلمين، وهي تدعو إلى اعتزال العالم، وتحجيم العلاقات الإنسانية، بل قطع الأرحام أحيانًا، والمهم هو سلامتك النفسية.

 

والمتأمل يجد كيف أن المراد تقديم النفس على ما سواها، والتَّقَوْقُعُ حول الذات والأنا، وهذا فيه من الهشاشة النفسية والضعف الذي لا يليق بالمؤمن؛ فبكلمةٍ أصبحت القلوبُ تُحطَّم، وبموقف قد يبقى حبيسَ داره، يُعبِّر عن حزنه وهوانه على الناس في حالته الشخصية بكلمات رنَّانة مؤثِّرة، تُصيب جرحه في مقتل، تلك العبارات المقتبسة المنتشرة التي لا تدري صحة مصدرها، فقد يكون قائلها لا دينَ له، ولكنها أصبحت شعارات لدينا يستلذُّ بها ضِعافُ النفوس؛ ليعيشوا بها دور الضحية.

 

فمثلًا "اعتزل ما يؤذيك"، تلك المقولة المنسوبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هل المقصود منها كما يُفهَم منها الآن إن صحَّت؟ وهل يجب أن تُستخدَم على الإطلاق، أم أن هناك ضوابطَ؟

 

فقد وَرَدَ ذلك الأثرُ عن عمر بن الخطاب قال: "لا تعرض فيما لا يعنيك، واعتزل عدوَّك، واحتفظ من خليلِك إلا الأمين، وإنَّ الأمينَ ليس من القوم أحدٌ يعدِلُه، ولا أمينَ إلا من خَشِيَ الله عز وجل، ولا تَصْحَبِ الفاجر كي لا يحملَك على الفجور، ولا تُفْشِ إليه سرَّك، وشاوِرْ في أمرك الذين يخشَون الله عز وجل".

 

وفي رواية أخرى عن زيد قال: قال عمر: "اعتزل ما يؤذيك، وعليك بالخليل الصالح، وقلَّما تجدُه، وشاوِر في أمرك الذين يخافون الله عز وجل".

 

وكان ذلك الأثرُ في باب مجانبة الفَسَقَةِ والمبتدعة، ومَن لا يُعينك على طاعة الله عز وجل، فهل يستوون؟

 

إذًا كيف يكون التصرف السليم والموقف الذي يرتضيه الله ورسوله عندما نتعرض للأذى ممن حولنا؟

 

لنعُدْ إلى منبعنا الصافي؛ حيث السَّكِينة والطمأنينة التي هي ضالَّةُ كلِّ حيٍّ على هذه البسيطة، لنتعمق ونرَ كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يتعاملون ويتجاوزون الأذى الذي كانوا يتعرضون له؟ وهل كانوا يعتزلون الناس؟

 

النبي صلى الله عليه وسلم وهو من هو، خير خَلْقِ الله، على حقٍّ ويدعو إلى حقٍّ، ومع ذلك ناله من الأذى الكثيرُ؛ البدني، أو النفسي، أو القولي.

 

فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحُدٍ؟ قال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيتُ، وكان أشدُّ ما لقيتُ منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد يالِيلَ بن عبدِ كُلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أسْتَفِقْ إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريلُ، فناداني فقال: إن الله قد سمِع قولَ قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم، فناداني مَلَكُ الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمدُ، فقال ذلك فيما شئت، إن شئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشبَينِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبُد الله وحده لا يشرك به شيئًا»؛ (صحيح البخاري).

 

رسول الله مهموم؟ نعم، حتى هام على وجهه لا يدري إلى أين يسير من عِظَمِ همِّه، وشدةِ ما يجد من تنكُّر بني جِلْدَتِهِ، واستهزائهم وتكذيبهم له، وقد خيَّره الله عز وجل حينها أن يُبيدهم على بكرة أبيهم إن أراد، ولكن يا لحِلْمِ وعفوِ رسول الله - بأبي هو وأمي - فقد أبى ذلك، بل عفا عنهم ودعا لهم!

 

وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب نجرانيٌّ غليظُ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ، فجَبَذَ برِدائه جَبْذَةً شديدة، قال أنس رضي الله عنه: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثَّرت بها حاشيةُ الرِّداء من شدة جَبْذَتِهِ، ثم قال: يا محمدُ، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحِك، ثم أمر له بعطاء))؛ (رواه البخاري).

 

أغلظ الأعرابي على رسول الله، وتطاول عليه باليد واللسان، صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك التفت النبي إليه مبتسمًا، وأمر له بالعطِيَّة، فقد قابَلَ النبيُّ جهلَه بحِلْمٍ وإحسان.

 

قال النووي: "فيه احتمال الجاهلين، والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألَّف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرةٍ لا حدَّ فيها بجهله، وإباحة الضحك عند الأمور التي يُتعجَّب منها في العادة، وفيه كمال خُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحِلْمِهِ وصَفْحِهِ".

 

وحين نتدبر في كتاب الله عز وجل نجد كيف واسى الله تبارك وتعالى نبيَّه، عندما لاقى ذلك الأذى من المشركين؛ فقال تسليةً له وتخفيفًا، وموجِّهًا للحل الإيجابي السليم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97 - 99].

 

أرشده الله تبارك وتعالى كيف يتعامل مع هذا الشعور الطبيعي الذي يشعر به بعدما يناله الأذى، وكيف يتجاوز هذا الألمَ النفسي، ولا يُوقِف سَيرَ حياته؛ وكان ذلك بكثرة ذِكْرِ الله تعالى وتسبيحه، فإن ذلك مما يُوسع الصدر ويشرحه، وكذلك باللجوء إلى الصلاة، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أحزنه أمرٌ، فزِع إلى الصلاة، فتقرَّ عينه، وتسكُن نفسه.

 

فلم يعتزل صلى الله عليه وسلم ما يؤذيه أو توقَّف عن دعوته إلى الله وآثَرَ السلامة، بل صبر وتحمَّل، حتى بلغت دعوته مشارق الأرض ومغاربَها.

 

فهكذا يجب أن يكون المؤمن؛ أن يتخذ من نبيِّه قدوةً، ومن كتاب ربه نبراسًا؛ ليهنأ بحياة طيبة سليمة مُتَّزِنة، ولا يتبع كل ناعق تاركًا هَدْيَ رسول الله.

 

إن الحزن لا يرتضيه الله عز وجل لعبده المؤمن، بل قد نهى عنه؛ لأنه غاية الشيطان من المرء؛ فقد قال الله تعالى لنبيه أيضًا: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65]، وقد حثَّنا النبي صلى الله عليه وسلم على الاختلاط بالناس حتى لو نالنا منهم أذًى؛ فيقول: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضلُ من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم»؛ (صحيح الجامع)؛ وذلك لِما في مخالطة الناس من نشر للدين والدعوة إليه، وإلى الأخلاق الحسنة، وفيه تعاون على البر والتقوى، وطاعة الله عز وجل، ولِما فيه من الأجور المكتسبة؛ فإن الصبر على أذى الناس مأجور عليه، فهل نحن في غِنًى عن سَيلٍ من الأجور؟

 

والإنسان بطبعه يأنَسُ بالخَلْقِ وبمجاورتهم ومعاونتهم، ويحتاج إليهم في شؤون حياته، ولا يستغني عنهم، ولكن من سنن الله في هذه الدار الابتلاءُ، فقد طُبِعت الدنيا على كَدَرٍ؛ فقد يُبتلى الإنسان مع من يتعامل معهم فيكدِّرون صفوه؛ يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].

 

فعلى المؤمن أن يدرك هذا المعنى، ويأتمر بأمرِ ربِّه، فيتحلى بالصبر، ويتجمَّل بالعفو والصفح، مُحسنًا أخلاقَه مُحتسِبًا.

 

وليضع في باله أن المؤذي يؤذي لنقصٍ في نفسه، فلا تَدَعْهُ ينتقص من قوتك النفسية، ويكفيك جهلُه، وتحصُّنُك بالله، وضَعْ كلَّ امرئ وموقف حسب قدره، ولا تخُضْ في منازَلة السفهاء، وترفَّع بإعراضك عنهم بلطفٍ دون ضعف أو تكبُّر، فمعاملة الناس تحتاج إلى حكمة وصبرٍ، وكُنْ مدركًا أن كلنا معرَّضون للخطأ والزَّلَلِ، فالتمس عذرًا، وضَعْ نفسك مكانه، واستبصر لنفسك؛ فلربما تكون مخطئًا.

 

الآن قد يأتي سائل ويقول: هل استحباب مخالطة الناس والصبر على أذاهم تكون على الدوام؟ بالطبع لا؛ فقد تكون العزلة واجبة في بعض الأحيان؛ وذلك في زمن الفتنة والحروب، وعند فساد آخر الزمان، وتغيُّر الأحوال، وخوف الإنسان على نفسه من الفتن، وإذا وقع عليه الضررُ من الاختلاط، وقد تُستحَبُّ لو كانت مؤقَّتة؛ على سبيل استجماع النفس وتقويتها؛ فحين قال الله عز وجل لنبيه: "اهجر"، كان ذلك بعد أن يستفرِغَ صبرَه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10]، فبدأ بالصبر، وعند الاضطرار وبلوغ الأذى مبلغَه، حينها قال: اهجر هجرًا جميلًا، وليس فجرًا وقطعًا للعلاقات والأرحام، ذلك وهم كفَّار، فما بالنا بمن هم على ديننا وقرابتنا وجيراننا، ونقطع تواصلنا معهم؟

 

قال البقاعي في: {هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10] "بأن تعاشرهم بظاهرك، وتُبايِنَهم بسرِّك وخاطرك، فلا تخالطهم إلا فيما أمرك الله به على ما حدَّه لك من دعائهم إليه سبحانه، ومن موافاتِهم في أفراحهم وأحزانهم، فتؤدي حقوقهم، ولا تطالبهم بحقوقك، لا تصريحًا ولا تلويحًا".

 

أيها المؤمن القويُّ بربه، والأحب إليه من الضعيف، لا يَحْطِمَنَّك جهلُ جاهلٍ، أعرِضْ عنهم، وتعامَلْ بصبرٍ وفِطْنَةٍ، ولا تكُنْ حبيسَ فكرةٍ وشعار، وخُضِ الحياة بنية حسنة، مستشعرًا رؤيةَ ربك المطَّلع؛ فإنه محيط عليم، لا يخفى عليه شيء، يعلم حزنك وانكسارك، وما أصابك منهم، فالجأ إلى الجبار يجبُرْكَ ويكْفِك أمرهم، واستعِنْ بذكر الله تعالى والصلاة، فلا سبيل لسَكِينة النفس إلا عند من بيده ملكوت كل شيء، يقلِّب قلوب عباده متى شاء وكيفما شاء سبحانه.

_________________________________________
الكاتب: مريم رضا ضيف