كن متفائلا كمحمد صلى الله عليه وسلم

منذ 2024-12-03

فَلْنَعِشْ لحظاتٍ ماتعةً مع تطبيقات عملِيَّة من حياته صلى الله عليه وسلم في جانب التفاؤل والإيجابية، وسنكتفي بثلاثة مواقف أو أربعة للحديث عن هذا الجانب

ما أجمل التفاؤل! فمجرد اسمه يُدخِل على النفس الراحةَ، ويُشعِر الإنسانَ بأنَّ ما هو آتٍ وقادمٌ سيكون بإذن الله أحسنَ وأجملَ مما هو حادث وكائن؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم كانت كل حياته تفاؤلًا، حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف، كان صلى الله عليه وسلم إيجابيًّا ومتفائلًا؛ فَلْنَعِشْ لحظاتٍ ماتعةً مع تطبيقات عملِيَّة من حياته صلى الله عليه وسلم في جانب التفاؤل والإيجابية، وسنكتفي بثلاثة مواقف أو أربعة للحديث عن هذا الجانب، فجمال النصوص الشرعية من الكتاب والسُّنَّة أنها ليست مجالات نظرية بحتة، بل هي مجالات نظرية عملية سلوكية؛ فحياته صلى الله عليه وسلم مجالٌ خِصبٌ للحديث، فلنرحل معًا إلى دَوحَتِهِ الغنَّاء.

 

الموقف الأول: حادثة الهجرة واختباء النبي صلى الله عليه وسلم في غار ثَورٍ مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا الاتجاه عكس اتجاه المدينة المنورة، وهذا من باب الحنكة وتشتيت تركيز العدوِّ.

 

فبعد أن أصاب قريشًا اليأسُ من القبض على رسول الله صلى عليه وسلم وصاحبه؛ حيث إنهم اتَّجهوا نحو الطُّرُق التي يمكن أن يسلُكها من يريد السفر للمدينة، فلم يعثُروا على ما يريدون - بدؤوا يبحثون في الجهات الأخرى، حتى وصلوا إلى غار ثَورٍ، وهنا كادوا يجدون ما يريدون، ولكن الله حفِظ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه؛ قال الصِّدِّيق رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم عندما وصل كفَّار قريش إلى مخبئهما، قال: لو أن أحدَهم نَظَرَ إلى قدمَيه لأبْصَرَنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكرٍ، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما»؟، وحكى القرآن الكريم ذلك الموقف المتفائل الإيجابيَّ في أصعب المواقف، والقوم تكالبوا على قتله صلى الله عليه وسلم، والحيلولة بينه وبين الهجرة والوصول إلى أمانه بالمدينة المنورة؛ قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].

 

الموقف الثاني: لما اشتدَّ تعذيبُ كفَّار قريش للمسلمين، واشتد إيذاؤهم والتفنُّن في التنكيل بالمستضعفين من المسلمين، حتى إنهم سحبوا بلالًا رضي الله عنه على حجارة جبال مكة وهي تفور حرًّا، وهو يقول: أحدٌ أحدٌ، حتى شكا خبَّابٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما بهم؛ فقال: ((شكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألَا تستنصر لنا؟ ألَا تدعو الله لنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالْمِنشار فيُوضع على رأسه، فيُشَقُّ باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويُمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عَظْمٍ أو عَصَبٍ، وما يصده ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ حتى يسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموتَ، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمِهِ، ولكنكم تستعجلون»؛ (البخاري)، فأي تفاؤل وإيجابية بعد هذا الموقف العصيب، أشد تفاؤلًا ونظرة إيجابية للمستقبل؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يرسُم لأصحابه ومن بعدهم في هذا المحك الصعب أن يثبُتوا ويصبروا؛ فالله مُتِمٌّ نورَه، ومُتِمُّ هذا الأمرِ، حتى يسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموتَ وهو آمِنٌ، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه.

 

الموقف الثالث: من مواقف التفاؤل في حياته صلى الله عليه وسلم: حادثة الخندق وتحزُّب كفَّار قريش والقبائل، حتى يهود المدينة نكسوا على أعقابهم، وتجمَّع الأحزابُ على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومحاولة الإبادة لهم، وصوَّر القرآن الكريم هذا التحزُّبَ والتكتُّلَ والتآمُرَ على الإسلام والمسلمين، الْمُتمثِّل في ذلك الوقت في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في المدينة المنورة، وكان ذلك في وقت وظروف صعبة وشديدة؛ وصفها الله عز وجل بقوله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11]، فأشار سلمانُ الفارسيُّ على النبي صلى الله عليه وسلم بحفرِ الخندق، فلم يكن معروفًا في بلاد العرب قبل ذلك، وذَكَرَ أهل السِّيَرِ والتاريخ أن الخندق الذي حفره المسلمون في غزوة الأحزاب كان طوله خمسةَ آلافِ ذراعٍ؛ أي: 2.259 كم، وعرضه تسعة أذرُع؛ أي: 4.05م، وعمقه لا يقل عن سبعة أذرع؛ أي: 3.15م، ومع بدائية الوسائل المستخدمة وقِلَّتِها في الحفر، وحفر أي شيء، حفر أرض صلبة وصخرية في الغالب، ومع ذلك، فقد تم إنجازه في سرعة مذهلة، لم تتجاوز ستة أيام، واقترن مع حفر الخندق صعوبات متعددة؛ فقد كان الجو باردًا، والريح شديدة، والأعداء كُثُرًا، بالإضافة إلى الجوع لقلة الطعام، والخوف من قدوم العدو الذي يتوقَّعونه في كل لحظة، وكان الصحابة يحفِرون وينقُلون التراب على ظهورهم، وقد شاركهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحفر وحمل التراب ونقله؛ ترغيبًا لهم في الأجر وتنشيطًا لهم؛ فعن أنس رضي الله عنه أنه قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفِرون في غداةٍ باردةٍ، فلم يكن لهم عبيدٌ يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النَّصَب – التعب - والجوع، قال: «اللهم إن العيشَ عيشُ الآخرة، فاغفر للأنصار والْمُهاجِرة»؛ (رواه البخاري)، وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((أمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال: وعَرَضَ لنا فيه صخرةٌ لم تأخذ فيها المعاوِلُ، فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ الْمِعْوَلَ، ثم قال: «بسم الله»، فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أُعطِيتُ مفاتيح الشام، والله إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ من مكاني هذا، ثم قال: «بسم الله»، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: «الله أكبر»، أُعطيت مفاتيحَ فارسَ، والله إني لَأُبْصِر المدائن، وأُبصرُ قصرها الأبيضَ من مكاني هذا، ثم قال: «بسم الله»، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: «الله أكبر، أُعطيت مفاتيحَ اليمن، والله إني لَأُبْصر أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا»؛ (رواه أحمد).

 

فما أعظم الإيجابية، والنظرة التفاؤلية في حياة رسول الله صلى الله عليه! وقِسْ على ذلك في الأحداث والمواقف في حياته صلى الله عليه وسلم.

 

الموقف الرابع: حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه وأُمَّتَه على النظرة الإيجابية والتفاؤلية، ولو أدركوا قيام الساعة، وكلُّ ذلك يرسُم صلى الله عليه وسلم خُطًى ثابتةً لأصحابه رضي الله عنهم، ومَن يخلُفهم إلى أن تقوم الساعة، بل حتى والساعة قائمة يرسم لأمَّته النظرة الإيجابية والتفاؤلية، ويوجِّههم إلى العمل دون النظر إلى النتائج؛ لأن الساعة ستقوم ويتخلف كل شيء كان قائمًا قبلها بعد قيامها، ومع ذلك فليحرص على الخير؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألَّا يقوم حتى يغرِسَها، فَلْيَغْرِسْها»؛ (رواه البخاري في الأدب المفرد، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه)، هذه فسيلة؛ وهي عود صغير يُقطَع من شجرته ليُغرس من جديد، أوصى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن من استطاع غرسها، فليغرسها، وإنْ علِمَ أنه لن يأكل من ثمرها، ولكن سيناله بإذن الله أجرُها بالنية الصالحة.

 

فما أجمل التفاؤل! فالمتفائلون هم الإيجابيون، وهم المبادرون، وهم سادة الموقف، وصُنَّاع القرار، ورواحل الأمة، وملح البلد، يقودون الأحداث، ويفصلون بين الحدث وردة الفعل، يعملون بفِكْرٍ، ويوحِّدون، ويملِكون الرؤى الطموحة، تزيدهم المواقف والأحداث صلابةً، وتزيدهم الأزمات تألُّفًا وتقاربًا؛ فكن متفائلًا كمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، يقول الغوث محمد في روائع الشعر والحِكَمِ:

تفاءل سيأتيك المهيمنُ بالفَـرَجِ   **   وتنسى لياليَ الضيق والهمِّ والحـرجْ 

فما بعد ذاك الصبر إلَّا بشــــارة   **   بها الصبحُ عن ليل الأمانيِّ قد انبلـجْ 

فَدَعْ كلَّ ما تخشاه فالأمر هينٌ   **   وإن ضِقتَ لا تجزَعْ وكُنْ دائمَ اللَّهَـجْ 

فربُّك من ناداه ليس بخائــــبٍ   **   أرى كلَّ همٍّ عند أبوابه انفــــــــــــرج

  • 1
  • 0
  • 219

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً