حصاد الثورة الليبية
لا يختلف عاقلان في أن الثورة الليبية لها خصوصيتها التي تميزها عن غيرها من الثورات؛ فقد خاض الشعب الليبي حرباً لا هوادة فيها من أجل حريته وكرامته...
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
لا يختلف عاقلان في أن الثورة الليبية لها خصوصيتها التي تميزها عن غيرها من الثورات؛ فقد خاض الشعب الليبي حرباً لا هوادة فيها من أجل حريته وكرامته، وقد كلَّفته هذه الحرب آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين، ناهيك عن التدمير والخراب الذي لحق بطول البلاد وعرضها، فحريٌّ بنا أن نتأمل في هذه الثورة وما نتج عنها لاستخلاص العِبَر وتصحيح المسار. ومما ينبغي الإشارة إليه: أن هذا التقرير مجرد قراءة في المشهد الليبي من وجهة نظري، وقد تطرَّقت فيه لبعض القضايا التي قد تبدو لغير الليبيين أنها ليست بتلك الأهمية، كقضية الاستعانة بالتحالف الغربي، أو التطرق لبعض جرائم القذافي أو نحو ذلك؛ إلا أن حقيقة هذه الأمور تُعَدُّ من الأهمية بمكان بالنسبة للداخل الليبي.
أولاً: لمحة عامة عن الشعب الليبي:
على الباحث الذي يهمه الشأن الليبي أن يكون على بيِّنة من تركيبة هذا الشعب، من حيث معتقدُه، وتقاليدُه، ونحوُ ذلك؛ إذ الغفلة عن هذه القضية سوف تؤدي في النهاية إلى تحليل خاطئ، أو غير واقعي على أحسن تقدير، ويمكن حصر النقاط المهمة المتعلقة بهذه القضية على النحو التالي:
1 - الشعب الليبي شعب مسلم سُني على مذهب الإمام مالك في عمومه[1]. والفتوى الشرعية لها تأثير كبير على عموم الناس؛ لا سيما إذا كانت هذه الفتوى من علماء لهم مكانتهم العلمية ومواقفهم الصادقة والثابتة.
2 - السمة العامة التي يتسم بها الشعب الليبي هي سمة البداوة والبساطة: فالشعب الليبي في عمومه عبارة عن مجموعة من القبائل المتوزعة هنا وهناك[2]، وهذه القضية لا يسع المهتم بالشأن الليبي الغفلة عنها إطلاقاً؛ فكل المشاريع السياسية والثقافية والدعوية ونحو ذلك من التي يُراد إقامتها في ليبيا يجب أن تحسب لهذه القضية حسابات دقيقة.
3 - مما يتميز به الشعب الليبي أيضاً نفوره من الأجنبي؛ سواء كان هذا الأجنبي غربياً أو عربياً؛ فإذا شعر الناس أن هذه البلاد أو تلك جاءت إلى بلادهم لتنهب خيراتهم، أو لتتدخل في قرارتهم أو نحو ذلك، نفروا منها، وربما استعدوا لقتالها إن لزم الأمر. وهذا الأمر تغفل عنه (أو تتغافل) دولة قطر في سياساتها العامة نحو ليبيا هذه الأيام، وقد يكلِّفها كثيراً وهي لا تشعر.
ثانياً: عهد القذافي:
يعجز الإنسان في عجالة كهذه أن يحيط بجرائم القذافي نحو شعبه، ونحو الشعوب الأخرى، وقد ظهر لكافة الناس بعضٌ من تلك الجرائم في الأحداث الأخيرة، وحتى يكون القارئ على بينة من تلك الجرائم سأذكر بعضها على وجه الإجمال:
1 - صادر القذافي أموال الليبيين وممتلكاتهم تحت مقولة: (من أين لك هذا؟)، وتحت مقولة: (البيت لساكنه)، وتحت مقولة: (شركاء لا أُجَرَاء). ونهبت ما تُسمَى باللجان الثورية البيوتَ والمصانعَ والشركاتِ الخاصة.
2 - تحت مسمى الثورة الثقافية أحرق القذافي جميع الكتب والمؤلفات التي تخالِف فكرَه ومعتقَدَه، وقام بتصفية وقتل النخب الفكرية والسياسية في الميادين العامة بل في الجامعات والكليات العلمية.
3 - لم يتنعم الشعب الليبي بثرواته على الإطلاق طيلة حكم القذافي، وقد كانت خزائن الشعب وأمواله ونفطه حكراً على القذافي وعائلته والمقربين من زبانيته.
4 - ذهب كثير من أبناء الشعب الليبي ضحية الحروب والمعارك التي أشعلها القذافي مع الشعوب الأخرى، كما في حرب تشاد، وأوغندا، ولبنان، ولم يسلم من طيش القذافي وجنونه حتى الأشقاء من مصر وتونس.
5 - كل الشعب الليبي كان حمى مستباحاً للقذافي وزبانيته؛ فلا يستطيع أي أنسان أن يأويَ إلى بيته وهو آمن، فقد تتعقبه الزبانية بالسلاسل والأغلال وتخفيه في مكان لا يعلم به إلا الله، ولا يجرؤ ذووه حتى على السؤال عنه، وقد يُمضي سنوات عديدة على هذا الحال، وقد كان القذافي يتوعد معارضيه في الخطابات الرسمية وعلى مرأى ومسمع الجميع فيقول: (إذا وجدتموهم فارموهم بالرصاص في الطرقات).
6 - قاد القذافي حملةً شعواء ضد التدين والاستقامة، ولم يتردد الهالك في إنكار السنة النبوية، وانتقاص نبينا # وصحابته الكرام في غير مناسبة، ناهيك عن قتله وسجنه للشيوخ والعلماء وطلبة العلم.
7 - أما الفساد الإداري والتعليمي والاقتصادي ونحو ذلك فحدِّث ولا حرج؛ فقد أجمع جميع العقلاء في ليبيا على أن الفساد ممنهج ومقصود في جميع الأصعدة.
أما القضية التي من أجلها قامت ثورة 17 فبراير، فهي القضية الشهيرة التي عُرفت بقضية (سجن أبو سليم)؛ حيث إن القذافي أمر زبانيته - وعلى رأسهم المجرم عبد الله السنوسي - بقتل ألف ومائتين وتسعة وستين نزيلاً من نزلاء السجن، وقد استغرقت هذه المذبحة بضع ساعات فقط حتى أتوا عليهم جميعاً.
ملاحظة يجب الوقوف عندها:
من الأمور التي لا يتطرق لها الإعلام ومن يُطلُّون علينا في القنوات الفضائية: أن هؤلاء القتلى الذين سقطوا في هذه المذبحة هم جميعاً من التيار الإسلامي، بل تحديداً من التيار السلفي الذين اتخذوا الكتاب والسُّنة منهجاً ودليلاً، فلم يكن من هؤلاء الشهداء الأبرار ليبرالياً أو شيوعياً أو قومياً أو نحوهم، بل لم يكن منهم حتى من أبناء التيارات الإسلامية الأخرى، بل كلهم جميعاً كانوا على الكتاب والسنة وعلى منهج السلف رحمهم الله، وقد كان لنا منهم إخوة وأصدقاء وجيران علم الله أنهم كانوا صفوة الناس خُلُقاً وديانة وعلماً وأدباً، نحسبهم كذلك والله وحسيبهم.
ثالثاً: الثورة على القذافي:
بعد أن اعترف القذافي وابنه (سيف الإسلام) رسمياً بهذه المجزرة الرهيبة، خرجت بعض العائلات في مدينة بنغازي للاعتصام والمطالبة بالتحقيق والقصاص في هذه المذبحة، والجميع يعلم أن السفاح والمجرم الأول في هذه القضية هو القذافي نفسه، تزامن مع هذه الاعتصامات تحديد موعد 17 فبراير عبر موقعَي «فيس بوك» و «تويتر» وغيرهما من «المواقع الإلكترونية» للخروج في المظاهرات ضد نظام القذافي، وكان من قدر الله أن تخرج عائلات الضحايا في يوم 15 فبراير؛ أي قبل موعد المظاهرات بيومين، فما كان من زبانية القذافي إلا أن قابلوا هؤلاء المتظاهرين بالنار والحديد، فسقطت الضحايا، وكان ذلك سبباً في انتشار المظاهرات في طول البلاد وعرضها، بل وفي خارجها أيضاً من أبناء الجاليات الليبية، واستمرت المظاهرات والتمرد على القذافي شهراً ويومين قبل أن يتدخل الغرب في ليبيا بدعوى حماية المدنيين، وقد سقط في هذه الفترة آلاف الشهداء على مرأى ومسمع العالم كله بما في ذلك الغرب نفسه!
رابعاً: التدخل الغربي (حلف الناتو):
لا شك أن التدخل الغربي في الثورة الليبية كانت له آثار إيجابية على الثوار والثورة، ولكن بالمقابل أيضاً كانت له آثار سلبية على كثير من الليبيين، وقد ذكرت سابقاً أن عموم الليبيين ينفرون من التدخل الأجنبي، وقد كانت هذه القضية سبباً في توقف كثير من الليبيين عن دعم الثورة، بل الوقوف ضدها، وقد أسهم القذافي وإعلامه المخادع في تعميق هذه الهوة بين الثورة والثوار من جهة وبين كثير ممن يرفضون التدخل الأجنبي في شؤون بلادهم من الليبيين من جهة أخرى، ولعله من المناسب أن نتوقف عند هذه القضية لنتناولها عبر النقاط التالية:
1 - بيَّنا سابقاً أن جرائم القذافي في حق الشعب الليبي يصعب حصرها، وهذه قضية لا ينكرها إلا صنفان من الناس:
صنف منتفع غاية الانتفاع من نظام القذافي، كاللجان الثورية، وبعض القبائل وزعمائها الموالين له، وبعض ضعاف النفوس من حثالة المجتمع.
والصنف الثاني: هم أولئك البسطاء السذج الذين تنطلي عليهم ألاعيب القذافي وأفعاله وتصريحاته الزائفة.
2 - حينما خرج الناس للمظاهرات خرجوا مسالمين؛ أي بدون إشهار السلاح، فقابلهم القذافي بالرشاشات والبنادق، وهذه مسألة ظاهرة لا تحتاج إلى دليل لإثباتها.
3 - من الأمور التي يجب أن لا نهملها في هذا السياق أن جميع القوة العسكرية في ليبيا كانت تتبع للقذافي وأبنائه وبعض الموالين له من عملاء بعض القبائل، وقد جرَّد القذافي جميع شرائح المجتمع من جميع أسباب القوة؛ فالجيش الليبي تم تفريغه من محتواه إلى كتائب القذافي وأبنائه، فاستحال كياناً من ورق لا غير. أما عامة الشعب فلا تجد عند أحدهم حتى بندقية صيد، ووجود السلاح في زمن القذافي عند فرد من أفراد المجتمع تُعَد جريمة ومن عظائم الأمور.
4 - أضف إلى ما تقدم، أن القذافي له معسكرات منتشرة في طول البلاد وعرضها من المرتزقة؛ فمعسكرات الأفارقة من النيجر وتشاد والسودان وموريتانيا وغيرهم يعلمها غالب الليبيين، وقد كانت مدينة طرابلس محاطة بمعسكرات هؤلاء المرتزقة إحاطة السوار بالمعصم، كمعسكر جُدَّايم، ومعسكر السواني، ومعسكرات تاجوراء و «البيفي» وغيرها. وقد كان لهؤلاء المرتزقة دور جوهري في الأحداث؛ فقد استعان القذافي بهم لإخماد الثورة قبل أن يستعين الشعب الليبي بحلف الناتو، فكان القذافي هو أول من جاء بالمستعمر لليبيا، والمستعمر ليس بالضرورة أن يكون أوروبياً، فالمستعمر الإفريقي الذي استعان به القذافي كان شراً علينا من الناتو، وهذه القضية لو تأملها العقلاء بتجرد لأنهت الجدل القائم حول التدخل الأجنبي.
إذنً يجب استحضار كل النقاط المتقدمة عند الحديث عن التدخل الأجنبي، وليس من الإنصاف والموضوعية في شيء أن نتحدث عن التدخل الأجنبي والاستعمار ونحو ذلك مع إغفال ما تقدم. وإضافة إلى ذلك يجب علينا أن نستحضر النقاط التالية عند الحديث عن التدخُّل الغربي في ليبيا:
1 - نعتقد نحن المسلمين أن الله - جل جلاله - هو المتصرف الوحيد في هذا الكون الفسيح، وما من شيء يقع في هذا الكون إلا بقدره، جل جلاله.
2 - أن الله - جل جلاله - يُعزُّ من يشاء كيفما شاء، ويذل من يشاء كيفما شاء؛ فقد ينصر الله المستضعفين بسبب استعدادهم وقوتهم، وقد ينصرهم بدون ذلك كما نصرهم بالريح يوم الأحزاب، وقد ينصرهم بالرجل الفاجر والكافر أحياناً، كما نصر الله نبينا محمد # بعمه أبي طالب الكافر، وبالمطعم بن عدي وغيرهما.
3 - الغرب له وجهان:
الوجه الأول: هو الوجه الداخلي؛ أي عامة الغربيين والمنظمات الحقوقية والنقابات ونحو ذلك؛ فهذا الوجه يسعى لإيجاد العدل والحفاظ على الحقوق ونحو ذلك.
أما الوجه الثاني: وهو الوجه الخارجي الذي يتعاطى به الغرب مع القضايا الخارجية، كالحكومات والبرلمانات ومجلس الأمن وأجهزة المخابرات ونحو ذلك، فهذا الوجه قبيح جداً، وهذا الوجه لا يهمه - إطلاقاً - الحريات والحقوق والدفاع عن المدنيين ونحو ذلك؛ إنما الذي يهمه مصالحه وأطماعه الاستعمارية.
4 - بناء على ما تقدم فإنه من السذاجة بمكان اعتقاد أن تلك الأيادي التي لا زالت تقطر من دماء أطفال العراق وأفغانستان جاءت لتمسح دموع الأطفال وتضمد جروح المصابين على ضفاف المتوسط.
لماذا جاء الغرب إلى ليبيا؟
لا يختلف عاقلان في أن الغرب لا يتحرك خارج حدوده إلا لأطماعه ومصالحه الاستعمارية، وهذه قضية عليها أدلة كثيرة ولا تحتاج إلى إثبات، ولكن ما هي تلك المصالح - تحديداً - التي يسعى الغرب لتحقيقها في ليبيا؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه عبر النقاط التالية:
أولاً: النفط ومشتقاته: يعتقد كثيرون أن الدافع الرئيسي وراء التدخل الغربي في ليبيا هو النفط، أو بصفة عامة مصالحه المادية، وهذا الأمر وإن كان ظـاهره صحيـحاً إلا أنه لا يمكن اختزال التدخل الغربي في ليبيا في هذه القضية؛ إذ من المعلوم للقاصي والداني أن النفط الليبي في زمن القذافي كان حكراً على الشركات الغربية؛ ففي تقرير أعدَّه معهد ستراتفور الأمريكي للدراسات الاستخباراتية ونقله موقع الجزيرة نت بتاريخ 25 - 3 - 2011م يتضح أن علاقة نظام القذافي بالأنظمة الغربية في مجال النفط والطاقة كانت قوية جداً. يقول التقرير: (ولا يختلف اثنان على أن المصالح الأوروبية مع معمر القذافي على صعيد الطاقة ومبيعات السلاح كانت - بلغة الأرقام - دليلاً قاطعاً على العلاقة الجدية بين الطرفين؛ حيث باعت الدول الأوروبية خلال الفترة ما بين عامي 2004م و 2011م لنظام القذافي أسلحة بقيمة مليار و56 مليون دولار)[3]. فهذا ينفي تماماً أن يكون الغرب تدخَّل في ليبيا من أجل النفط والطاقة؛ ذلك أن الغرب كان مستفيداً جداً من نظام القذافي. يقول التقرير: (إن إيطاليا وفرنسا كانتا أكثر الدول الأوروبية استفادة من العلاقات التجارية مع ليبيا، آخرها الصفقة التي تم الاتفاق عليها العام الماضي بين باريس وطرابلس لبيع الأخيرة 14 طائرة مقاتلة من طراز ميراج. أما روما فقد كانت تتفاوض مع طرابلس بصفقات عسكرية تصل قيمتها إلى مليار دولار عندما انطلقت احتجاجات 17 فبراير/شباط الماضي (2011م)، في حين لم تسلَم بريطانيا نفسها من الانتقادات التي اتهمتها بالموافقة على إطلاق سراح المتهم الليبي بتفجير طائرة لوكربي (عبد الباسط المقرحي) مقابل حصول شركة النفط البريطانية بي بي على تسهيلات خاصة في القطاع النفطي الليبي). ويصل التقرير إلى نتيجة مفادها: (أن مثل هذه العقود كان من المفترض أن توفر الدعم الغربي للقذافي لا العكس). وهذا الذي قرره التقرير الأمريكي هو ما يوافق العقل والمنطق.
ثانياً: ضمان استمرار الهيمنة الغربية على شعوب المنطقة: وهذا في ظني هو السبب الرئيسي وراء تدخُّل الغرب في ليبيا، ولكن قد يتسائل بعض الناس: أليس من مصلحة الغرب دعم القذافي لضمان استمرار هيمنته على ليبيا؟ والجواب على هذا السؤال يكون عبر النقاط التالية:
• من مكر الحكومات الغربية في تعاملها مع شعوبنا أنها تقهر الشعوب وتنهب خيراتها عبر صفقات تتم سراً مع الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة، ومع ذلك لا تستحي على الإطلاق أن تدَّعي في العلن أنها تدافع عن حقوق الإنسان وتسعى لنشر الحرية والديمقراطية بين تلك الشعوب المقهورة.
• الثورات العربية على وجه العموم، وثورة ليبيا على وجه الخصوص، نتائجها فاجأت الشرق والغرب؛ ففي بضعة أيام تحررت معظم البلاد من قبضة القذافي، وصار الجزء الأكبر من النفط الليبي خارج السيطرة.
• الطريقة الوحشية التي استخدمها القذافي لقمع الثورة أحرجت الغرب إحراجاً كبيراً؛ سواء الطريقة العسكرية حيث أرسل كتائبه ومرتزقته المدججين بالسلاح لقمع المدنيين، أو الطريقة الإعلامية حيث وصف شعبه بأنه يتناول الحبوب المهلوسة وتوعَّده بالسحق والدمار ونحو ذلك. هذا الأمر جعل الغرب بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن يسفر عن وجهه الكالح ويصطف - علناً في هذه الحالة وليس سراً - مع القذافي ضد شعبه، وإما أن يصطف مع الشعب ظاهراً ضد القذافي، فاختار مُكرهاً الخيار الأخير.
ومما يؤكد النقطة السابقة أن الغرب تباطأ وتلكَّأ شهراً كاملاً قبل أن يتخذ قرار حماية المدنيين المزعوم، وهذا التباطؤ الغربي الغرض منه إعطاء الفرصة الكافية للقذافي للقضاء على الثورة، فلما تبين للغرب عجز القذافي عن إخماد الثورة بصورة سريعة وحاسمة، هنالك فقط تذكر أن هناك مدنيين في ليبيا بحاجة للحماية!
فإذن لو أردنا أن نضع عنواناً محدداً للغاية الحقيقة التي من أجلها اتخذ الغرب قراره فسوف يكون: (مصادرة الثورة وضمان الهيمنة الغربية على ليبيا بعد أن عجز القذافي عن فعل ذلك). هذا العنوان الرئيسي، أما العناوين الفرعية فهي وإن كانت تدخل ضمناً في هذا العنوان إلا أننا يمكننا الإشارة إليها سريعاً:
1 - لا يخفى على الغرب أن الشعب الليبي شعب متدين محافظ، كما لا يخفى عليه أيضاً أن نفسية الشعب الليبي في عمومه ترفض الضيم والذل[4]، فهذا المناخ مهيأ جداً لانتشار الفكر الجهادي[5]؛ ولا سيما أن ليبيا محاطة بالجزائر من جهة حيث القاعدة هناك، ومصر من جهة أخرى حيث التنظير والتأصيل لهذا الفكر؛ فاحتواء الثورة مبكراً أَوْلَى من انتشار الفكر «القاعدي».
2 - استقرار ليبيا يُعَدُّ هدفاً إستراتيجاً للغرب عموماً، ولدول الجنوب الأوروبي كـ (إيطاليا وفرنسا) على وجه الخصوص لضمان تدفُّق النفط والغاز.
3 - وضع أسس ولَبِنَات الدولة الجديدة التي ستقوم على أنقاض نظام القذافي العميل.
4 - الموقع الجغرافي الإستراتيجي لليبيا: فليبيا تقع بين بلدي (تونس ومصر) اللذين تحررا من الدكتاتورية، ولا يمكن بحال من الأحوال التنبؤ بمستقبل هذين البلدين سياسياً؛ فانفراط العقد في ليبيا مما يزيد الأمور تعقيداً في هذين البلدين المتجاورين؛ لاسيما أن ليبيا تمتلك كمّاً كبيراً من الأسلحة والعتاد العسكري.
خامساً: الدور القَطَري:
يتصور كثير من الليبيين أن الدافع وراء التدخل القطري في ليبيا هو دافع إنساني، بل ذهب بعض من هو محسوب على الدعوة والدعاة أن عدَّ الدافع وراء التدخل القطري هو المروءة والنخوة العربية! ونسي أن قطر ساهمت بشكل كبير وبنخوة عربية منقطعة النظير! في تدمير العراق وتشريد شعبه!
على كل حال سوف أتناول الموقف القطري عبر النقاط التالية:
1 - لا بد من الاعتراف بأن قطر كان لها دور بارز في دعم الثورة الليبية، ولست ممن يغمط الناس أشياءهم أو يتنكر لفضائلهم، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله؛ إنما خلافنا مع غيرنا في تحديد الدافع وراء هذا التدخل.
2 - مما هو معلوم للقاصي والداني أن قطر من أكبر حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وحسبك أن تعلم أن مقر القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط قاعدة (العديد) في ضواحي الدوحة؛ وهذا يعني أن قطر لا تقدِّم ولا تؤخر في عالم السياسة واتخاذ القرارات إلا بعد موافقة ومباركة من السيد الأمريكي، وكل ما يروجه الإعلام العربي والعالمي حول السيادة الوطنية والدور العربي والإقليمي للحليف القطري فهو من باب الثرثرة الإعلامية واستغفال الشعوب الغافلة أصلاً.
3 - ومما يؤكد أن التدخل القطري في ليبيا مدفوع من قِبَل القوى الاستعمارية: أن قطر نفسها كانت تدرك جيداً جرائم القذافي في حق شعبه قبل ثورة 17 فبراير، ومع ذلك كانت على علاقة حميمة معه، ولكن حينما قرر السيد الأمريكي غزو ليبيا كما بينَّاه سالفاً قلبت قطر ظهر المجن للقذافي.
4 - السيد الأمريكي وحلفاؤه الغربيون يدركون تمام الإدراك أن التدخل المباشر في شؤون الدول الإسلامية لا يجدي نفعاً، وقد يعود بنتائج عكسية وغير متوقعة؛ لا سيما بعد تجربة أفغانستان والعراق؛ فلا بد إذن من إيجاد بديل يكون قناعاً يستر به الغرب وجهه الكالح، ومن هنا كان اختيار قطر لهذه المهمة.
5 - ليس من مصلحة الأمريكان - خاصة بعد تجربة أفغانستان والعراق - قطع قنوات الاتصال مع الحركات الإسلامية الرافضة للمشروع الأمريكي في العالم الإسلامي، فبناء على ذلك لا بد من إيجاد حلقة وصل أو ضابط اتصال يقوم بهذه المهمة بعد سقوط نظام القذافي، وهذا ما يفسر سرَّ الدعم المادي والإعلامي الكبير الذي تقدمه قطر لبعض منسوبي التيار الإسلامي في ليبيا.
سادساً: القوى والتيارات الإسلامية الليبية:
في هذه العجالة سوف أستعرض بعض التيارات الإسلامية[6] الموجودة على الساحة الليبية، ولن أتطرق إلى تاريخ ونشأة هذه التيارات؛ إنما الذي يهمنا هو واقع تلك التيارات اليوم بعد سقوط القذافي.
الجماعة الإسلامية المقاتلة:
الهدف الرئيسي الذي من أجله تأسست هذه الجماعة[7] هو إسقاط القذافي عسكرياً، وأحسب أن عامة أفراد هذه الجماعة مخلصون صادقون - في ما أحسبهم والله حسيبهم - وتجمعني بكثير من قياداتهم صداقة وصحبة قديمة، لكن لنا على هذه الجماعة بعض الملاحظات، أتمنى من عقلاء الجماعة أن يقرؤوها بتمعُّن وتجرُّد، فإنها نصيحة أخ ناصح محب:
أولاً: تاريخ هذه الجماعة مليء بالأحداث، وهذه الأحداث لا يمكن الغفلة عنها إطلاقاً في واقعنا اليوم؛ ففي ذهن المواطن الليبي أن هذه الجماعة هي وجه آخر للقاعدة، وفي ذهن المواطن الليبي أن هذه الجماعة مرتبطة بالعنف والقتل، وفي ذهن المواطن الليبي أن هذه الجماعة مرتبطة بأفغانستان والجزائر والبوسنة ونحو ذلك، وفي ذهن المواطن الليبي أن قادة هذه الجماعة هم أمراء حرب وزعماء تنظيمات «إرهابية»، هذا الذي كرسه الإعلام المحلي والعالمي في أذهان عامة الناس على مدار سنين عجاف، ومن السذاجة إطلاق القول بأن هذه الجماعة قد أعلنت عن حل نفسها وصارت جماعة مدنية تقبل الآخر وتتعايش معه؛ فمهما دندنت هذه الجماعة حول هذه القضية، واستعملت مفردات عصرية في خطابها، وتزيَّن قادتها بـ (السُّتَر وربطات العنق الجميلة)، فستظل تلك الصورة النمطية في ذهن أكثر الناس.
ثانياً: ومما يؤكد ما ذكرناه في النقطة السابقة، أن الناظر إلى واقع الجماعة اليوم سيجد أن الهيكلية التنظيمية التي كانت عليها الجماعة هي نفسها الموجودة اليوم، وهي نفسها التي تقود العمل العسكري في طرابلس، وقد نُصِح بعض قيادة الجماعة بأن يعيدوا تشكيل المجلس العسكري بطرابلس ويدمجوا فيه عدداً من أفاضل الثوار من سائر المدن والقبائل المحيطة بطرابلس ولكن دون جدوى.
الإخوان المسلمون:
مما يجب الاعتراف به أن الجماعة الإسلامية الوحيدة المهيأة تنظيمياً وسياسياً في ليبيا هي جماعة الإخوان المسلمين، وقد يؤهلهم هذا الأمر لحكم البلاد؛ لا سيما أن الغرب لا يجد إشكالاً في التعايش مع أفكار بعض الإخوان ومنهجهم «المعتدل» حسب المعايير الغربية كما يوصي تقرير راند الأمريكي.
السلفيون:
في ظني أن أكثر الناس قبولاً في الأوساط الليبية هم هؤلاء. فالسلفيون يجمعون بين الاستجابة للدليل الشرعي والمنهج الشمولي، فتجد منهم طالب العلم الشرعي، والطبيب، والأستاذ الجامعي، والطالب، والمهندس ونحو ذلك، وقد كان لهم دور بارز في الثورة الليبية تحريضاً وقتالاً وإمداداً وإعلاماً؛ إلا أن هناك بعض الملاحظات يجب الوقوف عندها:
1 - ما يؤخذ على كثير من هؤلاء قوة اقتدائهم بالعلماء وتمسكهم بآرائهم، وخاصة علماء «المملكة العربية السعودية»، وهذا وإن كان ظاهره حسناً إلا أنه تجاوز الحد الطبيعي في بعض الحالات حتى صار الاستفتاء في أمور لا يجهلها طالب العلم المبتدئ. ومن جانب آخر أن الذي يسير على منهج السلف يجب أن يكون الدليل الشرعي رائده، أما أقوال العلماء فيُستأنس بها فقط لا غير.
2 - ومما يُؤخذ عليهم أيضاً أنهم غير مُنظَّمين، ولا يجمعهم إطار شامل، ولذلك لا يراهم كثير من الناس في الداخل والخارج.
3 - بعض هؤلاء الشباب تلوَّث في فترة من عمره بمنهج «الجرح والتعديل» الذي روَّج له أصحاب المنهج المنحرف، والذي يتسمى زوراً بالمنهج السلفي، فهؤلاء الشباب وإن كان أكثرهم قد تخلَّص من هذا المنهج، بل ناصبه العداء؛ إلا أن شوائب ذلك المنهج السيئ لا زالت تلقي ببعض ظلالها على سلوكيات هؤلاء الشباب وتصرفاتهم.
سابعاً: المجلس الانتقالي والحكومة المؤقتة:
المجلس الانتقالي: عبارة عن خليط غير متجانس، ويضم تحت مظلته كثيراً من المتسلقين وذوي التوجهات المنحرفة، وهو لا يحظى بقبول عند كثير من الليبيين، ولو أجرينا مقارنة بين التضحيات التي قدمها الشعب الليبي وبين ما قدمه المجلس الانتقالي لوجدنا أن المجلس الانتقالي مجرد عبء ثقيل على الثورة، ولولا أن الله قيد لهذا المجلس بعض الشخصيات الطيبة التي تحاول أن تصلح قدر المستطاع لَـمَا استمر هذا المجلس طيلة هذه الفترة. وفي الآونة الأخيرة بدأت تخرج المسيرات والاعتصامات ضده، وأسأل الله أن يكلل تلك الاحتجاجات بالنجاح.
الحكومة المؤقتة: في عمومها جيدة؛ فهم مجموعة من ذوي الكفاءات والتخصصات المتعددة، لا نعلم أحداً منهم يحمل فكراً منحرفاً، بل في عمومهم متدينون وطنيون، أسأل الله لهم التوفيق والسداد.
هذا ما تيسر جمعه في هذا التقرير، وهي وجهة نظر وقراءة شخصية قابلة للأخذ والرد عسى الله أن ينفع بها من شاء من عباده.
[1] يوجد أقلية من إخواننا الأمازيغ تنتهج المنهج الإباضي، ولكن دون تعمق في المذهب أو التزام به.
[2] الحديث هنا عن العموم، وإلا فإنه يوجد بعض الناس لا ينتمون إلا قبائل معينة لا سيما في العاصمة طرابلس، ولكن هؤلاء - للأسف - كثير منهم متعصب لأهل مدينتهم أكثر من تعصُّب أولئك لقبيلتهم!
[3] بتصرف.
[4] قاوم الشعب الليبي - وخاصة ذوو التوجهات الإسلامية منهم - جبروت القذافي وطغيانه بكل بسالة عبر محاولات لاغتياله والانقلاب عليه عسكرياً قبل ثورة 17 فبراير؛ ولكن لم يكتب الله لتلك المحاولات النجاح، وقد ذهب نتيجة هذه المحاولات آلاف الضحايا، وفي هذا جواب على تساؤل من بعض الناس من غير الليبيين: كيف رضي الشعب الليبي بحكم القذافي طيلة هذه الفترة الطويلة؟ والجواب كما بيناه.
[5] جهاد الطلب والدفع من الثوابت التي أجمعت عليها الأمة، ووقوع بعض الجماعات في أخطاء في باب الجهاد لا يعني بحال من الأحوال التنكر لهذا الأصل العظيم من ديننا.
[6] التيارات الليبرالية المدعومة غربياً لا تجد قبولاً عند عامة الناس، وهم في عمومهم مجموعة من الأفراد إلا أنهم مدعومون من الشرق والغرب ولهم جهد كبير لا يُستهان به عبر الإعلام والجامعات والمؤتمرات وغير ذلك من القنوات لنشر فكرهم ومذهبهم الباطل.
[7] منطلقات هذه الجماعة منطلقات سلفية؛ أي المرجعية عندهم الكتاب والسنة والإجماع والقياس والتقيد بتقريرات علماء السنة قديماً وحديثاً، ولا أعلم - على حسب اطلاعي ومن خالطتُ منهم - أن عندهم غلواً في التكفير أو استهانة بالدماء، وأصل الخلاف معهم كان في توقيت الخروج على القذافي وما جر من مفاسد كنا نراها متحققة.
22/02/33
د. علي رحومة المحمودي
المصدر: مجلة الدعوة