صَدْرٌ وسَطْرٌ

عبد الله بلقاسم الشهري

الأيام يا طالب العلم تمضي، وكل يوم تسبق في نشر العلم فيه؛ تكون أحرى بمضاعفة الثواب، واتساع النفع. واغتنم قدرتك قبل العجز والانقطاع والمرض...

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله - نصائح ومواعظ -

في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: " «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ". هذا الحديث خاطب به النبي ﷺ جيل الصحابة ابتداء.

وهم -أي: الصحابة- أسرع الأمة إلى العمل بهديه ﷺ، وأحرصهم على المبادرة إليه. فظهر امتثالهم في الأعمال الثلاثة التي تضمنها الحديث، ومنها: العلم الذي يُنتفع به.

ومعلوم أن الصحابة ليس لهم مؤلفات -في الأعم الغالب- إذا استثنيت بعض الصحف؛ كصحيفة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ ولكن العلم النافع كله بلغنا من طريقهم رضي الله عنهم.

فقد كتبوا علمهم في صدور الناس، ونقشوه في ألواح قلوبهم، وحرصوا على بثه فيهم، وانتقل علمهم من صدر إلى صدر، ومن صدر إلى سطر، وبعد ذلك من سطر إلى سطر، ومن سطر إلى صدر.

وهكذا تناوبت الصدور والسطور في نقل العلم وبثه؛ فالصحابة طبعوا كتبهم في قلوب الناس؛ صفحة في المسجد، وصفحة في السوق، وثالثة في السفر، وأقلامهم لا تتوقف عن النقش والتأليف العملي في ليلهم، ونهارهم، وجميع أحوالهم، حتى في اغتسالهم، ولباسهم، وطعامهم، وشرابهم، وحديثهم، وغضبهم، وفرحهم، ومرضهم، واحتضارهم.

وبهذا رسخوا المعنى الشامل للعلم ونشره وبثه، واجتازوا القوالب التي تَحبِسُ نقلَ العلم في وسيلة أو هيئة.

كل من بث علما في الصدور فهو داخل في الحديث، وهو من الذي لم تنقطع أجورهم.

فالتدوين وتأليف الكتب مع أثره العظيم في حفظ الدين ليس الوسيلة الوحيدة، واستدامة الأجور لا ترتبط بالضرورة مع التأليف، وإلا لضاع علم الصحابة، وآثار التابعين؛ فالكلمة سواء كانت مكتوبة، أو مقروءة، تبقى بحسب تدبير الله تعالى ومشيئته و(إنما الأعمال بالنيات)؛ فالكلمة الطيبة تمضي وتنتقل عبر العصور إلى المدى الذي أراد الله أن تبلغه.

والعلم النافع تبثه في أي مكان، وأي زمان، وبأي وسيلة، ولأي مستمع، هو من هذا النوع، وقد يحمله من لا تأبه له، وينقشه أو بعضه في قلب آخر أو قلوب أخرى دون أن ينسبه إليك.

ثم ربما انتقل من صدر إلى سطر وكتاب، ثم إلى درس ومنبر وبيت، ثم دواليك حتى يذهب أبعد مما يخطر لك على بال قرونا طويلة.

ليس شرطا أنما تبثه يكون جديدا ومبتكرا؛ بل النقل هو قطب علم هذه الأمة، وتراثها، وفيه كنوز أجرها وثوابها، فتتكلم بالحديث في مجلس، فيستمع إليه أحدهم، فينقله إلى غيره!

وصحيح أن الحديث يمشي في الناس عبر آلاف المسارات، والرجال، والكتب، والسطور؛ لكن مسارك أنت محفوظ عند الله!

تكتب في موقع من مواقع التواصل آيةً، أو حديثًا، أو شرحًا، أو حُكْمًا؛ فيراه الآلاف -بعضهم يبلغه لأول مرة-؛ فيبدأ مسار ثروة الأجر لك، فينشره، وبعضهم يتذكره وقد نسيه، وبعضهم يعرفه، لكن ما كتبتَه يحفزه على العمل به، وإعادة تبليغه!.

وهذه أبواب من العلم الذي يُنتفع به، وكل أعمال الأجيال القادمة، والذين بعدهم إلى يوم القيامة، والعلم الذي سيكون فيهم ، أجره لهذا الجيل، دون أن ينقص من أجورهم شيء، كما إن أجور أعمالنا كذلك في موازين حسنات من علَّمَنَا من الجيل قَبْلَنَا.

فمستقل منا ومستكثر...، فانظر كم يكون نصيبك من تبليغ العلم إلى الجيل بعدك؟

ولو تكلمت بكلمة طيبة في رأس جبل، أو طائرة، أو زحام سوق، أو كتبت في جوالك علما، فإن الله يعلم سبحانه بكل قلب بَلَغَهُ، ووعاه مباشرة، أو بواسطة في كل أرض، وفي كل عصر!

فلو أن حرفا من حروفك تَنَقَّلَ ألف عام في ملايين الناس؛ لأتاك الله بأجرها.

وليس كل الناس قادرا على التأليف، ولا كل التأليف يبقى، ولا كل اشتغال بالتأليف أنفع من الاشتغال بغيره، بل يختلف باختلاف أحوال الناس.

وليس القصد التهوين من التدوين والتأليف؛ فإن أثره أبلغ من أن يحتاج إلى بيان؛ لكن القصد حثُّ النفوس على تحصيل نصيبها من ميراث النبوة، وتبليغه بكل صورة ممكنة.

وكم من عامي ينشر كل يوم في موقع من مواقع التواصل حديثا من صحيح البخاري، أعظم أجرا ممن عنده شهادة عالية يترقب متى يأتي بمصنف جديد يليق بشهادته؟! وتمضي الأيام، فلا بلغ حديثا، ولا كتب مصنفا!.

قال زيد بن ثابت -كما في صحيح البخاري-: ((فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ، أجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ، والرِّقاعِ، واللِّخافِ، وصُدُورِ الرِّجالِ...)).

العلم في جريدة نخل، في رقعة من أدم، في صخرة، في صدر، في تغريدة، في تدوينة، في مقطع، في تسجيل صوتي، في حالة، في رسالة، كل ذلك علم يُنتفع به، يتبعك أجره! كم من الأموات وكلماتهم تعمل في قلوبنا، وفي الناس حولنا؟!.

نحن مجموع من كتب، وخطب، ومؤسسات، وحِلَق، وكلمات، ونصائح، ورسائل، قالها آخرون لنا...

التوفيق أن تكون مباركا حيثما كنت.

قال سفيان بن عيينة: ((قوله: {وجعلني مباركا أينما كنت}، قال: مُعَلِّمًا للخير)).

في الجامعة، في المسجد، في السيارة، في مواقع التواصل..

ولا تشتغل باستدامة الأجر؛ فأنت تعامل الله فيه.

لقمانُ نصح ابنه نصيحة خاصة، لم يكن يخطر بباله إذ نصح أن تتسع هذه النصيحة لتعم العالم بخبر الله عنها في كتابه.

فلا يُشترط في أجر العلم أن يكون مَن نشره قد قصد الوسيلة المعينة، بل يُكرِم الله مَن شاء مِن عباده؛ فيبلغ علمهم مما أخبرنا الله عن أنبياء الأمم التي انقضت وانقطع كل سبيل إلى خبرهم؛ لكن الله قص في كتابه ما قاله نوح، وهود، وصالح عليهم السلام.

وبلغنا نصيحة الذي يكتم إيمانه، والرجل الذي من أقصا المدينة يسعى، ودعوة يوسف عليه السلام لصاحبيه وهو في السجن.

فقد تنبعث كلماتك بعد مائة عام، وينشرها الله!.

والأيام يا طالب العلم تمضي، وكل يوم تسبق في نشر العلم فيه؛ تكون أحرى بمضاعفة الثواب، واتساع النفع.

واغتنم قدرتك قبل العجز والانقطاع والمرض...

ولا يمنعك تخصصك الدقيق من نشر أصول العلم، وكباره، وواضحاته، ومحكماته؛ فإنها منك أبلغ، وأنفع؛ بما تحمله من سمة العلم وحمله.

جعلنا الله جميعا مباركين أينما كنا.