شرح حديث أبي هريرة: في كل كبد رطبةٍ أجر
محمد بن صالح العثيمين
قالوا: يا رسولَ اللهِ إنَّ لنا في البهائمِ أجرًا؟ فقال: «في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ
- التصنيفات: الحديث وعلومه -
عَنْ أبي هُريرةَ رضي اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: « «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطشُ، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشَرِبَ، ثم خرج فإذا كلبٌ يلهثُ، يأكلُ الثَّرَى من العَطشِ، فقال الرَّجلُ: لقد بلَغَ هذا الكلبُ من العطشِ مثلَ الذي كان قد بلَغَ منِّي، فنزل البئرَ فملأ خُفَّه ماءً، ثم أمْسكَه بفِيه، حتَّى رَقَى فسَقَى الكلبَ، فشَكَرَ له، فغَفَرَ له» قالوا: يا رسولَ اللهِ إنَّ لنا في البهائمِ أجرًا؟ فقال: «في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ»» . [متفق عليه] .
وفي رواية للبخاري: «فشَكَرَ اللهُ له، فَغَفَرَ له، فأدْخَلَه الجنَّةَ».
وفي روايةٍ لهما: «بيْنَما كلْبٌ يطيف بركيةٍ قد كاد يقتلُه العطشُ، إذْ رأتْه بَغِيٌّ مِنْ بغايا بني إسْرائيل، فنَزَعتْ مُوقَها فأسقتْ له به، فسَقَتْه فغَفَرَ لها به».
«الموق»: الخف. و«يطيف» يدور حول «ركية» وهي البئر.
قال العلَّامةُ ابنُ عثيمين - رحمه الله -:
ذكر المؤلف - رحمة الله تعالى - في باب كثرة طرق الخيرات هذه القصة الغريبة التي رواها أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه بَيْنا رجلٌ يمشي في الطريق مسافرًا، أصابه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها، وانتهى عطشُه، فلما خرج، وإذا بكلبٍ يأكل الثَّرَى من العطش، يعني: يأكلُ الطين المبتلَّ الرَّطْبَ، يأكله من العطش، من أجل أن يمص ما فيه من الماء، من شدة عطشه، فقال الرجل: واللهِ لقد أصاب الكلبَ من العطش ما أصابني، أو بلغ بهذا الكلب من العطش ما يلغي بي، ثم نزل البئر وملأ خفَّه ماءً.
الخفُّ: ما يلبس على الرِّجْلِ من جلود ونحوها، فملأه ماء فأمسكه بفيه، وجعل يصعد بيديه، حتى صعد من البئر، فسقى الكلب، فلما سقَى الكلب شكر اللهُ له ذلك العمل، وغفر له، وأدخله الجنَّةَ بسببِه.
وهذا مصداق قولِ النَّبيِّ - عليه الصلاة والسلام -: «الجنَّةُ أقربُ إلى أحدِكم من شِراك نعلِهِ، والنَّارُ مثل ذلك»، عمل يسير شكر الله به عامل هذا العمل، وغفر له الذنوب، وأدخله الجنة.
ولما حدَّث صلى الله عليه وسلم الصحابة بهذا الحديث، وكانوا - رضي الله عنهم - أشد الناس حرصًا على العلم، لا من أجل أن يعلموا فقط، لكن من أجل أن يعلموا فيعملوا. سألوا النبي - عليه الصلاة والسلام - قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: «في كلِّ ذات كبدٍ رطبةٍ أجرٌ»؛ لأن هذا كلب من البهائم، فكيف يكون لهذا الرجل الذي سقاه هذا الأجر العظيم؟ هل لنا في البهائم من أجر؟ قال: «في كُلِّ ذاتِ كبدٍ رطبَةٍ أجرٌ» الكبد الرطبة تحتاج إلى الماء؛ لأنه لولا الماء ليبست وهلك الحيوان.
إذن نأخذ من هذه قاعدة، وهي أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - إذا قص علينا قصة من بني إسرائيل فذلك من أجل أن نعتبر بها، وأن نأخذ منها عبرة، وهذا كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
وفي رواية أخرى، ولعلها قصة أخرى، أن امرأة بغيًّا من بغايا بني إسرائيل، يعني أنها تمارس الزنى - والعياذ بالله - رأت كلبًا يطوف بركية، يعني يدور عليها عطشان، لكن لا يمكن أن يصل إلى الماء؛ لأنها ركية بئر، فنزعت موقها - يعني الخف الذي تلبسه - استقت له به من هذا البئر، فغفر الله لها.
فدل هذا على أن البهائم فيها أجر. كل بهيمة أحسنت لها بسقي، أو إطعام، أو وقاية من حر، أو وقايةٍ من برد، سواء كانت لك أو لغيرك من بني آدم، أو كانت من السَّوائب، فإن لك في ذلك أجرًا عند الله - عزَّ وجلَّ - هذا وهنَّ بهائم؛ فكيف بالآدميين؟ إذا أحسنت إلى الآدميين كان أشد وأكثر أجرًا؛ ولهذا قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «مَنْ سَقَى مسلمًا على ظمأٍ سقاه اللهُ من الرَّحيقِ المختومِ»، يعني لو كان ولدك الصغير وقف عند البرادة يقول لك: أريد ماء، وأسقيته وهو ظمآن، فقد سقيت مسلمًا على ظمأ، فإن الله يسقيك من الرحيق المختوم. أجر كثير، ولله الحمد، غنائم ولكن أين القابل لهذه الغنائم؟ أين الذي يخلص النية، ويحتسب الأجر على الله عزَّ وجلَّ؟
فأوصيك يا أخي ونفسي أن تحرص دائمًا على اغتنام الأعمال بالنية الصالحة حتى تكون لك عند الله ذخرًا يوم القيامة، فكم من عملٍ صغيرٍ أصبح بالنية كبيرًا! وكم من عمل كبير أصبح بالغفلة صغيرًا!
«شرح رياض الصالحين» (2 /171 - 174)