اقرأ وربك الأكرم
الْعِلْمَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي الْعِلْمِ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ فَقَالَ لَهُ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}؛ وَتَبَارَكَ الَّذِي أَقْسَمَ بِالْقَلَمِ فَقَالَ:{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [الْقَلَمِ:1]؛ وَسَبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ، وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْكِرَامِ، أَمَّا بَعْدُ:قَالَ تَعَالَى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعَلَقِ:1-5]. وَالْمَعْنَى: اقْرَأْ– يَا مُحَمَّدُ – مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ مُفْتَتِحًا بِذِكْرِ اسْمِ رَبِّكَ الْمُتَفَرِّدِ بِالْخَلْقِ، الَّذِي خَلَقَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ قِطْعَةِ دَمٍ غَلِيظٍ أَحْمَرَ، اقْرَأِ الْقُرْآنَ؛ وَإِنَّ رَبَّكَ لَكَثِيرُ الْإِحْسَانِ، وَاسِعُ الْجُودِ، الَّذِي عَلَّمَ خَلْقَهُ الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْعُلُومَ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا، وَنَقَلَهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَفِيهَا التَّنْوِيهُ بِفَضْلِ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ، وَالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (نِعْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَعْلِيمِ الْقَلَمِ- بَعْدَ الْقُرْآنِ- مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ؛ فَهُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْكِتَابَةَ، عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ، عَلَّمَهُ الْكَلَامَ فَتَكَلَّمَ، وَأَعْطَاهُ الذِّهْنَ الَّذِي يَعِي بِهِ، وَاللِّسَانَ الَّذِي يُتَرْجِمُ بِهِ، وَالْبَنَانَ الَّذِي يَخُطُّ بِهِ، فَكَمْ لِلَّهِ مِنْ آيَةٍ نَحْنُ عَنْهَا غَافِلُونَ فِي تَعْلِيمِنَا بِالْقَلَمِ) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
وَاللَّهُ تَعَالَى مَا أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي الْعِلْمِ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]؛ أَيْ:زِدْنِي عِلْمًا إِلَى مَا عَلَّمْتَنِي مِنَ الْوَحْيِ، فَلَمْ يَقُلْ – سُبْحَانَهُ – لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي مَالًا)، بَلْ قَالَ لَهُ:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ خَيْرٌ، وَكَثْرَةُ الْخَيْرِ مَطْلُوبَةٌ، وَهِيَ مِنَ اللَّهِ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ، وَالطَّرِيقُ إِلَيْهَا الِاجْتِهَادُ، وَالشَّوْقُ لِلْعِلْمِ، وَسُؤَالُ اللَّهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ، وَالِافْتِقَارُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (تَأَمَّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْبَيَانَيْنِ:الْبَيَانِ النُّطْقِيِّ، وَالْبَيَانِ الْخَطِّيِّ. وَالتَّعْلِيمُ بِالْقَلَمِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ إِذْ بِهِ تُخَلَّدُ الْعُلُومُ، وَتُثْبَتُ الْحُقُوقُ، وَتُعَلَّمُ الْوَصَايَا، وَتُحْفَظُ الشَّهَادَاتُ، وَيُضْبَطُ حِسَابُ الْمُعَامَلَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَبِهِ تُقَيَّدُ أَخْبَارُ الْمَاضِينَ لِلْبَاقِينَ، وَأَخْبَارُ الْبَاقِينَ لِلَّاحِقِينَ.
وَلَوْلَا الْكِتَابَةُ لَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ عَنْ بَعْضٍ، وَدَرَسَتِ السُّنَنُ [أَيْ:ذَهَبَتْ وَمُحِيَتْ آثَارُهَا]، وَتَخَبَّطَتِ الْأَحْكَامُ، وَلَمْ يَعْرِفِ الْخَلَفُ مَذَاهِبَ السَّلَفِ، وَيَعْظُمُ الْخَلَلُ الدَّاخِلُ عَلَى النَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ لِمَا يَعْتَرِيهِمْ مِنَ النِّسْيَانِ الَّذِي يَمْحُو صُوَرَ الْعِلْمِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَجَعَلَ لَهُمُ الْكِتَابَ وِعَاءً حَافِظًا لِلْعِلْمِ مِنَ الضَّيَاعِ؛ كَالْأَوْعِيَةِ الَّتِي تَحْفَظُ الْأَمْتِعَةَ مِنَ الذَّهَابِ وَالْبُطْلَانِ) بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: (قِفَ وَقْفَةً فِي حَالِ الْكِتَابَةِ، وَتَأَمَّلْ حَالَكَ وَقَدْ أَمْسَكْتَ الْقَلَمَ- وَهُوَ جَمَادٌ، وَوَضَعْتَهُ عَلَى الْقِرْطَاسِ- وَهُوَ جَمَادٌ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِهِمَا أَنْوَاعُ الْحِكَمِ، وَأَصْنَافُ الْعُلُومِ، وَفُنُونُ الْمُرَاسَلَاتِ وَالْخُطَبِ، وَالنَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَجَوَابَاتِ الْمَسَائِلِ!
فَمَنِ الَّذِي أَجْرَى تِلْكَ الْمَعَانِيَ عَلَى قَلْبِكَ؟ وَرَسَمَهَا فِي ذِهْنِكَ؟ ثُمَّ أَجْرَى الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا عَلَى لِسَانِكَ، ثُمَّ حَرَّكَ بِهَا بَنَانَكَ حَتَّى صَارَتْ نَقْشًا عَجِيبًا، مَعْنَاهُ أَعْجَبُ مِنْ صُورَتِهِ، فَتَقْضِي بِهِ مَآرِبَكَ، وَتَبْلُغُ بِهِ حَاجَةً فِي صَدْرِكَ، وَتُرْسِلُهُ إِلَى الْأَقْطَارِ النَّائِيَةِ، وَالْجِهَاتِ الْمُتَبَاعِدَةِ، فَيَقُومُ مَقَامَكَ، وَيُتَرْجِمُ عَنْكَ، وَيَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِكَ، وَيَقُومُ مَقَامَ رَسُولِكَ، وَيُجْدِي عَلَيْكَ مَا لَا يُجْدِي مَنْ تُرْسِلُهُ، -سِوَى مَنْ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) فَكَيْفَ لَوْ عَاشَ ابْنُ الْقَيِّمِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي عَصْرِنَا؛ وَرَأَى تَطَوُّرَ وَسَائِلِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَلَمْ تَعُدْ حِكْرًا عَلَى الْمُجَلَّدَاتِ أَوِ الْكُتُبِ، فَقَدْ حَفِظَتِ الْعُلُومَ – بِأَنْوَاعِهَا – فِي ذَاكِرَةِ الْحَوَاسِيبِ؛ بَلْ أَصْبَحَتِ الْقِرَاءَةُ الْإِلِكْتِرُونِيَّةُ، وَتَصَفُّحُ الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ، وَمُطَالَعَةُ الْعُلُومِ بِأَنْوَاعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ مِنَ النَّوَافِذِ الْمَعْرِفِيَّةِ الَّتِي تُغَذِّي الْعُقُولَ وَالْأَرْوَاحَ، وَتَخْتَصِرُ الزَّمَانَ وَالْجُهْدَ وَالْمَكَانَ، وَتَنْقُلُنَا فِي الْعَالَمِ الْفَسِيحِ بِثَوَانٍ مَعْدُودَةٍ.
وَمِنْ أَهَمِّ الْفَوَائِدِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُبَارَكَاتِ:
1- أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ:قَالَ تَعَالَى:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} فَدَلَّ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:الْإِيجَادُ وَالْإِحْيَاءُ وَالرِّزْقُ كَرَمٌ وَرُبُوبِيَّةٌ، أَمَّا الْأَكْرَمُ فَهُوَ الَّذِي أَعْطَاكَ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الشَّرَفِ.
2- مَنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى، وَقَرَأَ، وَصَبَرَ وَصَابَرَ، وَوَاظَبَ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ؛ سَيُكْرِمُهُ الْأَكْرَمُ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.
3- قَالَ تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ: {اقْرَأْ}؛ فَكَيْفَ يُوَجَّهُ الْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ إِلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ؟ فَيُقَالُ:لَا تَعَارُضَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ تَكُونُ مِنْ مَكْتُوبٍ، وَتَكُونُ مِنْ مَتْلُوٍّ؛ كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتْلُوهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا إِبْرَازٌ لِلْمُعْجِزَةِ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ بِالْأَمْسِ صَارَ مُعَلِّمًا الْيَوْمَ، وَقَدْ أَشَارَ السِّيَاقُ إِلَى نَوْعَيِ الْقِرَاءَةِ هَذَيْنِ؛ حَيْثُ جَمَعَ الْقِرَاءَةَ مَعَ التَّعْلِيمِ بِالْقَلَمِ.
4- مِنْ فَوَائِدِ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا؛ لَا يَقْرَأُ، وَلَا يَكْتُبُ:أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَكْمَلَ لِلْمُعْجِزَةِ؛ حَيْثُ أَصْبَحَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ مُعَلِّمًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آلِ عِمْرَانَ:164]، وَكَذَلِكَ لِدَفْعِ الشُّبُهَاتِ وَالشُّكُوكِ الَّتِي قَدْ تَتَسَرَّبُ إِلَيْهِمْ؛ فَقَدْ يُقَالُ – إِنْ لَمْ يَكُنْ أُمِّيًّا:لَعَلَّهُ نَقَلَ هَذَا عَنْ غَيْرِهِ، أَوْ أَرْسَلَهُ لَهُ غَيْرُهُ فِي رِسَالَةٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [الْعَنْكَبُوتِ:48-49].
5- لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ الْأُمِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْفِلًا شَأْنَ الْقَلَمِ:بَلْ عُنِيَ بِهِ كُلَّ الْعِنَايَةِ، وَأَوَّلُهَا وَأَعْظَمُهَا أَنَّهُ اتَّخَذَ كُتَّابًا لِلْوَحْيِ يَكْتُبُونَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ يَحْفَظُهُ وَيَضْبِطُهُ، وَتَعَهَّدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِحِفْظِهِ وَبِضَبْطِهِ.
6- اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ الْأَكْرَمُ الَّذِي يُعْطِي بِدُونِ مُقَابِلٍ:فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ {الْأَكْرَمُ} بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ وَالتَّعْرِيفِ لَهَا؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْأَكْرَمُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْمُتَّصِفُ بِغَايَةِ الْكَرَمِ الَّذِي لَا شَيْءَ فَوْقَهُ، وَلَا نَقْصَ فِيهِ. فَمِنْ كَمَالِ كَرَمِهِ:عَلَّمَ عِبَادَهُ مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ إِلَى نُورِ الْعِلْمِ، وَنَبَّهَ عَلَى فَضْلِ عِلْمِ الْكِتَابَةِ:{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا هُوَ، وَمَا ضُبِطَتْ أَخْبَارُ الْأَوَّلِينَ، وَلَا مَقَالَاتُهُمْ، وَلَا كُتُبُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ؛ إِلَّا بِالْكِتَابَةِ، وَلَوْلَاهَا مَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دَقِيقِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَطِيفِ تَدْبِيرِهِ دَلِيلٌ إِلَّا أَمْرُ الْخَطِّ وَالْقَلَمِ؛ لَكَفَى بِهِ.
7- الْكِتَابَةُ دَوَاءٌ لِلنِّسْيَانِ:وَلِذَا امْتَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ بِهَا، فَقَالَ:{اقْرَأْ}، ثُمَّ قَالَ:{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يَعْنِي:اقْرَأْ مِنْ حِفْظِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمِنْ قَلَمِكَ؛ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَنَا بِأَنَّ مُدَاوَاةَ عِلَّةِ النِّسْيَانِ بِالْكِتَابَةِ، وَالْيَوْمَ أَصْبَحَتِ الْكِتَابَةُ أَدَقَّ مِنَ الْمَاضِي؛ لِوُجُودِ الْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ فِي التَّدْوِينِ، وَحِفْظِ الْمَكْتُوبِ وَالْمَسْمُوعِ وَالْمَرْئِيِّ.
8- جِنْسُ الْأَقْلَامِ أَرْبَعَةٌ:
أَوَّلُهَا: الْقَلَمُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلَ مَا خَلَقَ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ؛ فَقَالَ لَهُ:اكْتُبْ. قَالَ:رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ:اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» (صَحِيحٌ – رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).
الثَّانِي: الْقَلَمُ الَّذِي مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ؛ قَالَ تَعَالَى:{بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزُّخْرُفِ:80] - إِذَا صَحَّ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِأَقْلَامٍ.
الثَّالِثُ: الْقَلَمُ الَّذِي تُكْتَبُ بِهِ مَقَادِيرُ الْعِبَادِ - وَهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ:بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ- إِذَا صَحَّ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِأَقْلَامٍ.
الرَّابِعُ:الْقَلَمُ الَّذِي بِأَيْدِي الْعِبَادِ يَكْتُبُونَ بِهِ.
9- تَحْصِيلُ الْعُلُومِ يَعْتَمِدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَوَّلُهَا: الْأَخْذُ عَنِ الْغَيْرِ بِالْمُرَاجَعَةِ وَالْمُطَالَعَةِ، وَطَرِيقُهَا: الْكِتَابَةُ، وَقِرَاءَةُ الْكُتُبِ.
الثَّانِي:التَّلَقِّي مِنَ الْأَفْوَاهِ بِالدَّرْسِ وَالْإِمْلَاءِ.
الثَّالِثُ: مَا تَنْقَدِحُ بِهِ الْعُقُولُ مِنَ الْمُسْتَنْبَطَاتِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ، فَاللَّهُ الْأَكْرَمُ هُوَ الَّذِي {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
10- أَوَّلُ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى مَدْحِ الْعِلْمِ، وَآخِرُهَا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ الْمَالِ:قَالَ تَعَالَى - فِي أَوَّلِهَا:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وَقَالَ - فِي آخِرِهَا:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [الْعَلَقِ:6-7] وَكَفَى بِذَلِكَ مُرَغِّبًا فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَمُنَفِّرًا عَنِ الدُّنْيَا وَالْمَالِ.
- التصنيف:
Rida
منذRida
منذعنان عوني العنزي
منذ