لا تستصغر معروفك، فقد يكون نجاة لك
عدم الاستهانة بأي عمل خير، مهما كان صغيرًا، فالمعروف لا ينحصر في الأعمال الكبيرة؛ كالصدقات الضخمة وبناء المشاريع الخيرية، بل يشمل كذلك الأفعال البسيطة التي قد لا يُلقي لها الناس بالًا
أما بعد:
فنقف اليومَ مع وصية عظيمة من وصايا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الوصية قصيرة في كلماتها، لكنها عظيمة في معانيها وإرشاداتها، تحمِل في طيَّاتها سرًّا من أسرار السعادة في الدنيا والآخرة، وتظهر لنا قيمة الأعمال الصغيرة في ميزان الله سبحانه وتعالى.
تطبيق هذه الوصية سهلٌ في حياتنا اليومية، وإنها تفتح لنا أبوابَ الخير الواسعةَ، وتُقرِّبنا من رضا الله عز وجل،فلنستمع معًا إلى وصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه: «لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلْقَى أخاك بوجه طَلْقٍ» [1]، فيا تُرى ما معنى هذه الوصية؟ وماذا يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لنا من خلالها؟
هذه الوصية هي دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لعدم الاستهانة بأي عمل خير، مهما كان صغيرًا، فالمعروف لا ينحصر في الأعمال الكبيرة؛ كالصدقات الضخمة وبناء المشاريع الخيرية، بل يشمل كذلك الأفعال البسيطة التي قد لا يُلقي لها الناس بالًا، ولكنها قد تكون عظيمة عند الله إذا أُدِّيت بنِيَّةٍ صادقة وإخلاص؛ لأن قيمة العمل الصالح لا تُقاس بحجمه أو أثره المادي، وإنما بما تحمله النية من صدق وإخلاص، فقد يكون المعروف في نظر الناس شيئًا زهيدًا، لكن مكانته عند الله كبيرة؛ لأنه يُعبِّر عن طهارة القلب وحب الخير.
ولا تخفى عليكم قصةُ تلك المرأة السوداء، أمِّ مِحْجَنٍ رضي الله عنها، في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عُرِفت عند الناس بأنها فقيرة ليس لها نسب يُذكَر، ولا مال يُفخَر به، ولم تكن تمتلك شيئًا من زخارف الدنيا، ومع ذلك، كانت تحمِل قلبًا مملوءًا بالإيمان والإخلاص، فلزِمت المسجد بعمل عظيمٍ، في ظاهره صغيرٍ، لكنه عند الله كبير؛ حيث كانت تقوم بتنظيف المسجد وتهيئته؛ ليبقى مكانًا طاهرًا لعبادة الله تعالى، تؤدي عملها بصَمْتٍ وإخلاص، لم تكن تطلب شكرًا من أحدٍ، ولم تنتظر من الناس مقابلًا لعملها، اعتاد الصحابة رضي الله عنهم رؤيتها وهي تنظف المسجد بانتظام، حتى أصبحت جزءًا من مشهدهم اليومي، وربما لم يتوقع أحدٌ أن هذا العمل البسيط سيكون سببًا في خلود ذكرها.
وذات يوم، افتقدها النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها الصحابة، فأخبروه أنها قد ماتت، ظن الصحابة رضي الله عنهم أن أمرها بسيط، فلم يريدوا إزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بموتها؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبًا: «أفَلَا كنتم آذَنْتُمُوني»؟ أي: أعلمتموني، ثم قال لهم: «دُلُّوني على قبرها فدلُّوه، فصلى عليها، ودعا لها بالمغفرة والرحمات، ثم قال: إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها، وإن الله عز وجل يُنوِّرها لهم بصلاتي عليهم» [2].
أرأيتم - أيها الأحِبَّة - كيف اهتم نبينا صلى الله عليه وسلم بها؛ حيث ذهب إلى قبرها وصلى عليها، كل ذلك تقديرًا لعملها وإخلاصها، كان عملها البسيط وهو تنظيف المسجد - الذي قد يراه الناس صغيرًا - سببًا لذكرها وتقديرها عند خير خَلْقِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا.
هل فكرنا يومًا في أن أيَّ عمل مهما بدا صغيرًا، قد يكون مِفتاحًا لرحمة الله؟ قد يراه الناس حقيرًا، ولكنه عند الله عظيم، فرُبَّ عملٍ ظن الناس أنه لا قيمة له، كان سببًا في رضا الرحمن ودخول الجنة.
على المسلم أن يعلم أن جنة الرحمن تُنال بنَفَحات الله، وبقيمة العمل عند الله، لا بقيمة العمل عند الناس، ففي ذات يوم جلس النبي صلى الله عليه وسلم يحدِّث أصحابه الكِرام عن رجل من الأزمان السالفة، هذا الرجل لم يعمل خيرًا قط، فمرَّ هذا الرجل في طريق يمشي فرأى غصن شوك يؤذي المارة، فنزل من دابته وأزاله عن طريق الناس، حتى إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إما وجده في الطريق فأماطه، وإما وجده في جذع فأزاله» ، ثم بيـَّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم كيف أن الله تعالى أثابه على عمله هذا فقال صلى الله عليه وسلم: «فغفر الله له، وأدخله الجنة» [3].
تأملوا معي، رجل كان يمشي في الشارع، فشاهد حِجارةً أو شوكًا أو أي شيء يعوق طريق المسلمين، فقام برفعه، هذا العمل قد يبدو بسيطًا في نظر البعض، وقد يتكبر البعض عن النزول ورفع شيء تافه عن الطريق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذا الرجل دخل الجنة بسبب قيامه بإزالة أذى الناس عن الطريق؛ ليكون بذلك قد قام بعمل عظيم في نظر الله سبحانه وتعالى.
بل نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر لنا قصة المرأة الزانية: «أن امرأةً بغيًّا – زانية - رأت كلبًا في يوم حارٍّ يَطيف ببئر - أي يدور حولها - قد أَدْلَعَ لسانَه من العطش - أخرجه لشدة العطش - فنزعت له بمُوقِها – أي سقته الماء بخُفِّها - فغُفر لها» [4].
يقول أحد العلماء: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحَّد ربَّ البرايا؟! نعم، كيف تصنع الرحمة بمريض يحتاج إلى دواء؟ كيف تصنع الرحمة بفقير يحتاج إلى طعام وشراب؟ كيف تصنع الرحمة بمسكين يرتجف من شدة البرد؟
إذا كانت الرحمة بالكلاب والحيوانات – أجَلَّكم الله - سبب من أسباب مغفرة الخطايا والذنوب، ونزول رحمة الله بالعباد، فكيف برحمة المسلم الذي يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟!
قد تظن أن صلاة ركعتين في الليل أمر هيِّنٌ، ولكنها قد ترفعك إلى مرتبة المحسنين، وقد تستخف بتسبيحة أو استغفار، لكن الله سبحانه وتعالى يَزِنُ بهما ميزانك يوم القيامة؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
فلا تحتقروا أي عمل من أعمال المعروف، هَلُمُّوا إلى فعل الخير بأشكاله كافةً: بأموالكم، وألسنتكم، وأفعالكم، وابتساماتكم، ولا تُقلِّلوا من شأن أي عمل؛ فأنتم لا تعلمون أي الأعمال سيكون سببًا في سعادتكم ونجاتكم من الفتن والمصائب، والأهوال في الدنيا والآخرة.
مسألتنا الفقهية تتعلق بالتصدق بالملابس القديمة:
من المسائل الفقهية التي أحببتُ أن أنبِّهَ عليها هي مسألة التصدق بالملابس القديمة.
أولًا: التصدق بالملابس القديمة من السنن النبوية المهجورة التي تحمل معانيَ عظيمة في التكافل والتراحم بين المسلمين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشجِّع على الصدقة بجميع أنواعها، سواء كانت مالًا أو طعامًا أو ملابسَ؛ لِما فيها من إعانة للمحتاجين، وإدخال السرور على قلوبهم.
ثانيًا: الأفضل التصدق من نفائس الأموال وكرائمها: جاء في الموسوعة الفقهية: يُستحَبُّ في الصدقة أن يكون المتصدَّق به أي: المال الْمُعْطَى من أجود مال المتصدق وأحبه إليه؛ قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92].
قال القرطبي: "والمعنى لن تكونوا أبرارًا حتى تُنفقوا مما تحبون؛ أي: نفائس الأموال وكرائمها، وكان السلف رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئًا، جعلوه لله تعالى"[5].
ثالثًا: تُكرَه الصدقة بالرديء: قال الخطيب الشربيني رحمه الله: "وتُكرَه الصدقة بالرديء؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] فإن لم يجد غيره، فلا كراهةَ"[6].
لذلك لا حرج عليك في التصدق بالثياب المستعملة، بل هو مستحب عند بعض أهل العلم في حال ما إذا لبست ثوبًا جديدًا؛ لأن التصدق بالملابس القديمة وسيلة فعَّالة للإحسان، لكن بشرط أن تكون صالحة للاستعمال ونظيفة؛ مراعاةً لكرامة المحتاجين، إنها فرصة لإحياء سُنَّةٍ مهجورة وجَمْعِ الأجر والثواب من الله تعالى، بالإضافة إلى المساهمة في نشر روح الأُخُوَّة والمحبة في المجتمع.
رابعًا: كيف نُحيي هذه السُّنَّة؟ نتأكد من أن الملابس القديمة بحالة جيدة وصالحة للاستخدام، فنقوم بغسلها جيدًا، وكيِّها بعناية لتبدو مُرتَّبة ومناسبة للتقديم، ويمكنك تقديمها للجيران المحتاجين، أو توصيلها عبر أناس يعرفون المحتاجين لإيصالها إليهم.
فيا أخي الكريم، ذكِّر أصدقاءك وأقاربك بأهمية هذه السُّنَّة النبوية العظيمة، فلعلنا بإحياء هذه السنة، ننال بركة الصدقة وأجر اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
[1] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب - باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء: (4/ 2026)، برقم (2626).
[2] صحيح البخاري، كتاب الصلاة - باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقَذَى والعيدان: (1 /124) برقم (458)، صحيح مسلم، كتاب الجنائز - باب الصلاة على القبر: (2/ 659)، برقم (956).
[3] عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نزع رجل لم يعمل خيرًا قط غصن شوكٍ عن الطريق، إما كان في شجرة فقطعه وألقاه، وإما كان موضوعًا فأماطه، فشكر الله له بها، فأدخله الجنة))؛ [سنن أبي داود، (7/ 527)، برقم (5245)، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده قوي من أجل محمد بن عجلان، فهو صدوق لا بأس به].
[4] صحيح مسلم، كتاب السلام - باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها: (4/ 1761)، برقم (2245).
[5] الموسوعة الفقهية الكويتية: (26 /336).
[6] مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: (4/ 196).
_________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي
- التصنيف:
Rida
منذ