عفوًا، لقد نفِد رصيدُكم
فاطمة الأمير
لكن ماذا لو سمعت هذه العبارة في لحظة مصيرية، ليس من هاتفك أو رصيدك المادي، بل من حياتك؟
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
بقلم/ فاطمة الأمير
كم مرةٍ أزعجتنا هذه العبارة في حياتنا اليومية! نسمعها من هواتفنا أو حساباتنا البنكية، فتتسبب في ارتباكنا وتسابقنا لحل المشكلة سريعًا، قبل أن يتوقف كل شيء.
لكن ماذا لو سمعت هذه العبارة في لحظة مصيرية، ليس من هاتفك أو رصيدك المادي، بل من حياتك؟
وهل فكرت يومًا أن هذه العبارة قد تكون موجَّهة إلى روحك؟ إلى قلبك الذي ربما نفِد رصيده من الإيمان والطاعة، أو من الحب والعلاقات؟
رصيد المشاعر والعلاقات:
لنبدأ بالعلاقات الإنسانية، إنها أشبه بحسابات بنكية تحتاج دائمًا إلى إيداعات مستمرة من الحب والتقدير والمواقف الجميلة، لكنها للأسف قد تُستنزَف مع مرور الوقت بسبب التنازلات المستمرة والإهمال المتكرر.
كم مرة شعرت أنك تبذل جهدًا فوق طاقتك للحفاظ على علاقة مُعيَّنة، بينما الطرف الآخر لا يبالي؟ تحاول التذكير بالماضي الجميل، تترفَّق في عتابك، لكنك تجد نفسك في النهاية تستنفد كل طاقتك.
ثم تأتي اللحظة الحاسمة، اللحظة التي تُجبَر فيها على نطق الكلمات التي لطالما تجنبتَها: "عفوًا، لقد نفِد رصيدك لديَّ"، قد تكون هذه العلاقة صداقة طفولة، أو حبًّا استمر لسنوات، وربما علاقة قرابة، أو حتى زمالة.
لكنك بعد سنوات من الشدِّ والجذب، تجد أن محاولاتك لم تعُد كافية لإصلاح ما تهدَّم، إنها لحظة مُوجِعة، لكنها ضرورية أحيانًا لحفظ كرامة القلب وراحة النفس.
لكن هل فكرت يومًا أنك قد تكون أنت الشخص الذي ينفَدُ رصيده لدى الآخرين؟ قد تكون تصرفاتك، أو إهمالك، أو كلماتك الجارحة هي السبب في انهيار العلاقة، كثيرًا ما ننسى أن العلاقات تحتاج إلى شحن مستمرٍّ، وإلى تقدير واهتمام، وإلا فإنها ستجفُّ وتموت.
وللحفاظ على رصيد المشاعر مع من حولك، اجعل العطاء عادة مستمرة في حياتك؛ من كلمة طيبة، واعتذار عند الخطأ، وتواصل صادق، ومواقف تعكس تقديرك.
لا تنتظر الأزمات لتُثْبِتَ حبَّك أو اهتمامك، بل استثمر في العلاقة يومًا بيوم، واعلم أن القلوب تُحييها التفاصيل الصغيرة، كما يحيي الماء الزرعَ.
رصيد العمر:
ثم ماذا لو جاءك صوت أكثر أهمية، صوت مصيري يقول: "عفوًا، لقد نفِد رصيدكم من الحياة".
رصيد العمر انتهى، الفرص ضاعت، والأيام التي كنت تظنها طويلةً تبخَّرت، الكثير منا يعيش حياته وكأنها أبدية، نُخطِّط للغد وكأننا نملك الزمان كله، نؤجِّل التوبة، ونماطل في الطاعات، وننسى أن الساعة قد تدُقُّ فجأة.
كل يوم هو صفحة جديدة من أعمارنا، نملؤها بأعمالنا وأقوالنا، لكننا ننسى أن عدد هذه الصفحات محدود، وأننا لا نعلم متى تنتهي القصة.
الله عز وجل حذرنا من هذه الغفلة؛ فقال: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1].
كم من الناس عاشوا حياتهم في لهوٍ، غارقين في دنياهم، ولم يستفيقوا إلا عندما داهمهم الموت! كم من أصدقاء وأحبَّاء كانوا معنا بالأمس، واليوم غادروا فجأة، تاركين وراءهم تساؤلاتٍ بلا إجابة!
نحن نحزن عليهم، لكن هل نتعلم منهم؟ هل نستوعب أن حياتنا قد تنتهي كما انتهت حياتهم؟
كل يوم يمضي يأخذ جزءًا من رصيد حياتك.
كل لحظة تقضيها في غفلة أو معصية، هي لحظة تُخصم من حسابك دون تعويض.
تخيل نفسك على فراش الموت، تتمنى لو أُعِيد إليك يوم واحد فقط، ساعة واحدة فقط، لتصلي ركعة، لتصل رحِمًا، لتطلب عفوًا، لتترك أثرًا طيبًا.
لكن لا مجال للتراجع، انتهى الوقت، انتهت الفرص، وسمعت الصوت يقول: "عفوًا، لقد نفِد رصيدكم."
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكَيْسُ من دان نفسه، وعمِل لِما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأمانيَّ» الكيس أي: العاقل، هو من يستغل كل لحظة من حياته ليزداد قربًا من الله، ويستعد ليوم الرحيل، لكننا في كثير من الأحيان نتصرف وكأننا نملك الأبد، نؤجل الصلاة بحجة العمل أو الانشغال، نتردد في إصلاح علاقاتنا بحجة أننا نحتاج وقتًا، نؤخِّر التوبة بحجة أن العمر لا يزال طويلًا، ولكن ماذا لو لم يكن طويلًا؟
أفِقْ من غفلتك الآن؛ فالحياة قصيرة جدًّا، لكن الله منحنا فيها فرصًا لا تُحصى؛ فكل نَفَسٍ يخرج منك هو فرصة جديدة، وكل شروق شمس هو صفحة جديدة، وكل صلاة هي باب للتوبة مفتوح إلى الجنة، الله عز وجل يدعونا للعودة إليه قبل فوات الأوان؛ فقال سبحانه وتعالى: {﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾} [الزمر: 54]، اغتنم هذه الفرصة قبل أن تُغلَق الأبواب.
تُبْ إلى الله بصدق؛ فالتوبة ليست مجرد كلمات، بل رجوع حقيقي إلى الله بقلب منكسر، وعزم على عدم العودة للمعصية.
ضاعِف عباداتك، لا تنتظر مواسم الطاعات، صلِّ ركعاتٍ في الليل، صُمْ تطوعًا، اقرأ القرآن، واذكر الله كثيرًا، تصدَّق ولو بشق تمرة.
أصلِحْ ما بينك وبين الناس، سامِحْ من أخطأ بحقك، واعتذر لمن أسأت إليه، لا تترك في قلب أحد ألمًا بسببك، فقد يكون ذلك سببَ نجاتك.
ازرع أثرًا طيبًا، قد ترحل عن الدنيا، لكن أعمالك الصالحة ستظل تنير طريقك في الآخرة، كن ممن يُقال عنه: "ترك خلفه علمًا نافعًا، أو صدقة جارية."
يصوِّر لنا القرآن الكريم مشهدًا رهيبًا يوم القيامة، حين يفاجَأ الإنسان بنفاد رصيده؛ فيصرخ: {﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ } [المؤمنون: 99، 100]، لكن الأوان يكون قد فات، هل تريد أن تكون ممن يتحسرون يوم القيامة، أم ممن يُقال لهم: { ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ } [الفجر: 27، 28]؟
الفرصة لا تزال بين يديك ما دمت تقرأ هذه الكلمات، فاعلم أن الفرصة لم تَفُتْ بعدُ.
أعِدْ حساباتك.
أصلِحْ قلبك.
استثمر وقتك فيما ينفعك.
تذكر دائمًا أن العمر هو أثمن ما تملك، وأن كل ثانية تمضي تُقرِّبك من النهاية، وتذكَّر حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يَعِظُه: «اغتنم خَمْسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمِك، وصحتك قبل سُقْمِك، وغناءك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» [أخرجه الحاكم في المستدرك].
تأمل هذا الحديث العظيم، وتدبَّر معانيه في قلبك، إننا نعيش أيامًا سريعة لا تدوم، وكل لحظة هي فرصة قد تكون الأخيرة.
شبابك الذي تعيشه اليوم لن يعود إليك غدًا.
صحتك التي تملكها الآن ستصبح ذكرى إذا ما أُصيبت بشيء من السقم.
غناك الذي تحسبه مستمرًّا قد يتحول إلى فقرٍ، لا ينقذك منه مال ولا جاه.
فراغك الذي تعيشه اليوم ربما يتحول إلى شغل لا مجال فيه للتفكير أو التأمل.
أما حياتك، فهي أمانة قد تنقض فجأة، قبل أن تُدرِك كيف شحنت رصيدك منها.
فكم من شباب أضاعوا صحتهم في صخب الحياة! وكم يتمنى الْمُسِنُّون لو أن أيام شبابهم قد عادت ولو للحظة ليتداركوا ما فاتهم! كم من غنيٍّ لا يعرف قيمة غِناه إلا حين يُصاب بالفقر! وكم من وقت ضاع في الفراغ بينما كان يمكن استثماره في عمل ينقلك إلى مقام أفضلَ!
فلا تَكُنْ من الذين يُسرفون في تبديد أيامهم، ثم يندمون حين تُرفع الأعذار.
لكل شيء في هذه الحياة وقت، ولا مجال للعودة إلى الماضي بعد أن يُغلَق باب الزمن، وإنك إذا فرطت في طاعتك في أيام صحتك وشبابك، فلن تجد سَعَةً في الوقت بعد أن يأتي المرض والشيب، إن الحياة فرصة واحدة، فإذا مَضَتْ، لم يَعُدْ بالإمكان تدارك ما فات.
فاجعل كل لحظة في حياتك اليوم فرصة، ولا تَدَعْها تذهب هباءً.
اغتنم شبابك وقوتك لتبني ما ينفعك في دنياك وآخرتك، ولا تنتظر لحظة الندم في زمن لا عودة فيه.
وكُنْ على يقين أن الدنيا قصيرة، لكنها مليئة بالفرص، فاستغلها قبل أن تُقال لك الكلمات التي لا رجعة بعدها: "عفوًا، لقد نفِد رصيدكم."
بقلم/ فاطمة الأمير