فقر المشرك
الموحد غني بالله مهما جاع بطنُه، وعَرِيَ جسدُه، وأملقت يدُه، والمشرك فقير حسير مهما انتفخ بطنه من زاد جسده، ودفِئَ جلده، وأثقلت مفاتحُ خزائنه؛ ذلك أن الغِنى في الحقيقة هو غنى القلب، والفقر فقر القلب.
الموحِّد غني بالله مهما جاع بطنُه، وعَرِيَ جسدُه، وأملقت يدُه، والمشرك فقير حسير مهما انتفخ بطنه من زاد جسده، ودفِئَ جلده برِياش الترف، وأثقلت مفاتحُ خزائنه العصبةَ أولي القوة؛ ذلك أن الغِنى في الحقيقة هو غنى القلب، والفقر فقر القلب، ومن ذاق عرف، ومن جرب اغترف، ومن حقق اعترف.
وبما أن المشرك ادعى الغنى عند غير الله وطلبه منه، فقد قطع عن نفسه مادة الغنى الحقيقية، ليعيش في وهم ويطارد خيالًا، فالله أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يرضى أن يُرجى الغنى بكمال التوجه لسواه.
قال شيخ الإسلام: "وهكذا يوجد مَن فيه شبه من النصارى والرافضة من الغُلاة في أنفسهم وشيوخهم، تجدهم في غاية الدعوى وفي غاية العجز؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملِك كذَّاب، وفقير مختال»[1] وفي لفظ: «عائل مزهوٌّ»، وفي لفظ: «وعائل مستكبر»[2]، وهذا معنى قول بعض العامة: "الفقر والزنطرة"، فهكذا شيوخ الدعاوى والشطح يدَّعى أحدهم الإلهية، وما هو أعظم من النبوة، ويعزل الربَّ عن ربوبيته والنبيَّ عن رسالته، ثم آخرته شحَّاذ يطلب قوته، أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته، فيفتقر إلى لقمة، ويخاف من كلمة، فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمِّنة للغنى والعز؟! وهذه حال المشركين؛ الذين قال الله فيهم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]، وقال: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]، والنصارى فيهم شرك بيِّن؛ كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وهكذا من أشبههم من الغالية من الشيعة والنُّسَّاك فيهم شرك وغلوٌّ كما في النصارى شرك وغلو، واليهود فيهم كِبر، والمستكبر معاقَب بالذل؛ قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]، وقال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، فتكذيبهم وقتلهم للأنبياء كان استكبارًا، فالرافضة فيهم شبه من اليهود من وجه، وشبه من النصارى من وجه، ففيهم شرك وغلو وتصديق بالباطل كالنصارى، وفيهم من جبن وكِبرٍ وحسد وتكذيب بالحق كاليهود[3].
فالشرك دهليز الفقر والخيبة، ومهما تدثَّرت نفس المشرك بباذخ الحُطام الفاني، فهي فقيرة فقرًا مُدقِعًا؛ لأن مادة الاستغناء معدومة في فؤاده، فلا تَعجَب حينها من تكسُّر نفوسهم على سواحل البلايا.
والحمد لله رب العالمين.
[1] فليس لديهم ما يستدعي هذه الخلال الخبيثة، فالشيخ قد أدبرت شهوته، والملك غني عن الكذب لسطوته، والفقير عارٍ عن المال الكاسرِ تواضعَ مَن ضعُف عقله، فدلَّ ذلك على استحكام مادة تلك الصفة الرديئة من قلبه، والله المستعان.
[2] رواه مسلم (1/72) بلفظ «عائل مستكبر».
[3] منهاج السنة النبوية (7/ 150 - 151).
- التصنيف: