داؤنا ودواؤنا

سالم محمد

وها نحن اليوم نقف على أعتاب كلمات نبوية مشحونة بالحكمة والعبرة، كلماتٍ صاغها المصطفى صلى الله عليه وسلم لتكون بمثابة خريطة تنير لنا طريق النجاة.

  • التصنيفات: قضايا إسلامية -

 

حين تتأمل في أرجاء الكون وترى هذا الترابط الدقيق بين الأسباب والنتائج، لا تملك إلا أن تؤمن بأن كل شيء في هذا الوجود يسير وفق سنن إلهية محكمة. وما كان الإنسان ليضل عن سبيل الرشاد إلا إذا أعرض عن تلك السنن، فتتوالى عليه البلايا كأنها انعكاس لما اقترفت يداه.

وها نحن اليوم نقف على أعتاب كلمات نبوية مشحونة بالحكمة والعبرة، كلماتٍ صاغها المصطفى صلى الله عليه وسلم لتكون بمثابة خريطة تنير لنا طريق النجاة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن» ..."**.

تخيل نفسك بين أصحابه الكرام، ترى نور النبوة يشع من وجهه الكريم، وتسمع صوته العذب وهو يحذّر أمته من أبواب الشر ومزالق الهلاك. تلك الكلمات ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي قوانين إلهية تكشف عن علل الأمم حين تنحرف عن صراط الله المستقيم. في هذا الحديث العظيم، تجد تشخيصًا لدائنا، ووصفةً دقيقةً لدوائنا.

ما هذه "الخمس" التي حذرنا منها النبي الكريم؟ وكيف تسللت إلى حياتنا لتغير وجهها وتُلبسها ثوب الذل والهوان؟ بل كيف لنا أن نغسل عنها غبار الخطايا وننهض بها من جديد؟

بين طيات الحديث النبوي تكمن الإجابة. إنها ليست مجرد ذكر لمظاهر الانحراف، بل هي كشف للعلاقة بين الانحراف والجزاء، وبين العودة إلى الله واستجلاب رحمته. فهيا بنا نستعرض هذا الحديث العظيم، ونغوص في معانيه لندرك كيف يمكن أن نضع أيدينا على موطن الداء، ونبحث عن سبيل الشفاء.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك لنا صغيرةً ولا كبيرةً من شؤون الحياة إلا وأرشدنا إلى طريق الحق فيها، وها هو الحديث النبوي الشريف ينقل لنا كلماتٍ تنبض بالحكمة وتفيض بالعظة، كلماتٍ تحمل في طياتها أسباب الهلاك وأسباب النجاة، وكأنها مصباح يضيء لنا ظلام دربنا الطويل.

" «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن» ". هكذا بدأ المصطفى صلى الله عليه وسلم حديثه، مستشرفًا بمصباح النبوة ما قد ينزل بأمته إذا غفلت عن منهج ربها. فما هذه الخمس التي حذرنا منها النبي الكريم؟ وما الداء الذي يفتك بنا إذا أخلدنا إلى الدنيا وأعرضنا عن الآخرة؟

الأولى: انتشار الفاحشة

لقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظهور الفاحشة وإعلانها بين الناس. وإن الناظر في حال الأمم السابقة يدرك أن انتشار الفاحشة كان مفتاح أبواب البلاء عليهم. يقول صلى الله عليه وسلم: " «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا» «» ". فحينما تفقد الأمة حياءها ويصبح المنكر معروفًا، تكون قد فتحت على نفسها باب الأمراض والأوبئة التي تعجز الأدوية عن علاجها، عقوبةً من الله على ما اقترفوا.

الثانية: نقص المكيال والميزان

" «ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم» ". كم من تجار ضيعوا الأمانة، وكم من أسواق باتت تزخر بالغش والخداع! إن التعامل بالظلم في المكاييل والموازين ليس مجرد فساد في التجارة، بل هو خيانة لروح العدل التي يقوم عليها المجتمع، وعقوبته كما بين الحديث تكون في القحط وارتفاع المعيشة، وفي تسلط حكام لا يرحمون.

الثالثة: منع الزكاة

" «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا» ". الزكاة ليست مجرد فرض مالي، بل هي تطهير للنفس والمال، وتقريب بين الأغنياء والفقراء. فمن يمنع الزكاة يغلق أبواب الرحمة، ويعرض أمته للجفاف والحرمان، عقابًا من الله على جشعهم.

الرابعة: نقض العهود

" «ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم» ".

إن العهود التي أُخذت على الأمة هي أمانات في أعناقها، فلا يُستهان بها ولا يُستهتر. والتاريخ مليء بالعبر لأمم أُهلكت بسبب خيانتها للعهود، فسلط الله عليها أعداءها.

الخامسة: الحكم بغير ما أنزل الله

" «وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» ". الحكم بشرع الله هو صمام الأمان للأمة، فإن استبدل بحكم الهوى، دب الخلاف بين أفراد الأمة، وتحول بأسهم إلى أنفسهم بدل أن يكون على أعدائهم.

إن الحكم بكتاب الله ليس مجرد إجراء قضائي أو تطبيق قانوني، بل هو نظام شامل يشمل حياة الأمة كلها: في الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والأخلاق. هو التزام بميزان العدل الإلهي الذي لا يميل مع الأهواء ولا ينحاز إلى مصالح فئة دون أخرى. فالله سبحانه أنزل هذا الكتاب ليكون منهجًا للحياة، وليس مجرد شعائر تُقام أو عبارات تُردد.

الحكم بكتاب الله يعني أن يكون القرآن والسنة هما المرجعية العليا التي تُرد إليها النزاعات، ويُحتكم إليها في الصغير والكبير. وهو صمام الأمان الذي يحفظ الأمة موحدة، لأن في شرع الله عدلًا لا يتحيز، ورحمة لا تقسو، وحكمة تعلو على كل اجتهاد بشري قاصر.

يُحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك الحكم بكتاب الله، لأن ذلك يؤدي إلى تفكك الأمة وتمزقها. وكأن الأمة حين تترك شرع الله تخرج من حماية هذا النظام الرباني، وتدخل في دائرة النزاع والصراع. فيعيش المجتمع حالة من الفوضى، حيث تُغيب العدالة، وتنتشر المحسوبية، ويسود قانون الغاب.

"جعل الله بأسهم بينهم": إنه وصف دقيق لحالة أمة تركت مرجعية الله. فتجدها وقد تحولت قوتها الداخلية إلى صراعات ونزاعات بين أفرادها أو طوائفها. بدل أن يكون بأسها موجهًا نحو أعدائها الخارجيين، يصبح بأسها بين أبنائها. تنقسم الأمة إلى فرق وأحزاب، يكيد بعضها لبعض، وتضيع طاقاتها في صراعات لا طائل منها.

عندما نتأمل واقع أمتنا، نجد هذا التحذير النبوي واضحًا كل الوضوح. حين غاب شرع الله عن أنظمة الحكم، ظهرت الخلافات، واشتعلت الصراعات بين أبناء الأمة الواحدة. وأصبحت السياسات تُدار وفق المصالح الضيقة، والأهواء الشخصية، وليس وفق ميزان الحق الذي أنزله الله.

إن هذه الخمس التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست مجرد تحذيرات، بل هي قوانين إلهية تسري في حياة الأمم. فإن عدلت الأمة عن طريق الله، وأخلدت إلى أهوائها، نزلت بها البلايا، وتوالت عليها المصائب.

ولكن ما الدواء؟

إن الدواء يكمن في العودة إلى الله، في التوبة النصوح، وفي إقامة الفرائض واجتناب النواهي. إن العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي النجاة، وهي السبيل إلى رفع البلاء واستجلاب الرحمات.

إن أمتنا اليوم بحاجة إلى أن تنظر في المرآة التي يعكسها هذا الحديث، فتقف عند مواطن الخلل، وتعيد بناء نفسها على أساس من التقوى والعدل والإحسان. حينها فقط نستعيد عزتنا ومجدنا.

لقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق المستقيم، وحذرنا من المنزلقات التي تفضي إلى الهلاك. وعندما نستعرض الخمس التي ذكرها في حديثه الشريف، نجد أن الأمر ليس مجرد إنذار عابر، بل هو دعوة صادقة للعودة إلى الله، إلى الطهر، إلى العدل، إلى الوفاء بالعهد، وإلى حكم شرع الله في كل شؤون حياتنا.

فإننا اليوم، ونحن نرى التحديات التي تعصف بنا، والفتن التي تلتف حولنا، نجد أن تلك الخمس التي حذرنا منها هي في صميم معاناتنا. الفاحشة تفشت، والظلم استشرى، والعهود انتهكت، والأزمات تتوالى. ولكن، يا أمة محمد، في يدينا مفاتيح النجاة! في العودة إلى الله، في إحياء الفرائض، في التوبة الصادقة، في أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع ربنا.

الدواء بين أيدينا، والبلاء ليس قدراً محتوماً إذا رجعنا إلى ما كان عليه سلفنا الصالح. فلنأخذ بهذه الوصفة الإلهية، ولنستعد لرحلة عودة إلى رب العباد، لننفض عن أنفسنا غبار الخوف والضعف، ولنبنِ أمتنا من جديد على أسس من التقوى والعدل والإحسان.

فلنتذكر دائماً: إن عزة الأمة في عودتها إلى ربها، ومجدها في التزامها بهدي نبيها، ونجاتها في توبتها إلى الله. فهل نحن مستعدون للاستجابة؟ فلنبدأ الآن، ولتكن هذه لحظة الانطلاق نحو الشفاء، نحو العزة، نحو النصر.

فيا معشر المسلمين، داؤنا قد كشفه لنا رسول الله، ودواؤنا بين أيدينا. فهل آن لنا أن نفيق من غفلتنا ونعيد سفينة الأمة إلى مسارها الصحيح؟