الرجولة أخلاق
إن الأممَ والرسالات تحتاج إلى المعادنِ المذخورة، والثرواتِ المنشورة، ولكنها تحتاجُ قبل ذلك إلى الرؤوسِ المفكرةِ التي تستغلها، والقلوبِ الكبيرةِ التي ترعاها، والعزائمِ القويةِ التي تنفذها.
- التصنيفات: محاسن الأخلاق -
إن الأممَ والرسالات تحتاج إلى المعادنِ المذخورة، والثرواتِ المنشورة، ولكنها تحتاجُ قبل ذلك إلى الرؤوسِ المفكرةِ التي تستغلها، والقلوبِ الكبيرةِ التي ترعاها، والعزائمِ القويةِ التي تنفذها.
إنها تحتاجُ إلى الرجال، فالرجلُ أعزُّ من كل معدنٍ نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، فالرجلُ الكُفءُ الصالحُ هو عماد الرسالات، وروح النهضات، به تتطوَّر الأمم وتتقدَّم الشعوب، وتزدهر الأوطان.
إن القوةَ ليست بحدِّ السلاحِ بقدر ما هي في قلبِ الجندي، والتربية ليست في صفحاتِ الكتابِ بقدرِ ما هي في روحِ المعلم، وإنجازَ المشروعاتِ ليس في تجهيز المعدات بقدر ما هو في حماسةِ القائمين عليها. فلله، ما أحكمَ عمر بن الخطاب حين لم يتمنَّ فضةً ولا ذهبًا، ولا لؤلؤًا ولا جوهرًا! ولكنه تمنَّى رجالًا من الطراز الممتازِ الذين تتفتح على أيديهم كنوزُ الأرض وأبوابُ السماء، فقد قال لجلسائه يومًا: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم، فأنفقها في سبيل الله، فقال: تمنَّوا، فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا، فأنفقه في سبيل الله، فقال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالًا من أمثال أبي عبيدة بن الجرَّاح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله؛ (البخاري).
عباد الله، لقد جاء وصف الرجولة في القرآن الكريم في مواضع عدة؛ منها: في مقام تحَمُّل الرسل لأعباء الرسالة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109]، وفي مقام الصدق مع الله، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، وجاء ذكرهم في مقام العبودية وعدم الانشغال عن الذكر والآخرة: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 37، 38]، فأولويات الرجال هي الدار الآخرة والإعداد لها؛ فهم يصلحون دنياهم وقلوبهم، وأشواقهم هناك في الدار الآخرة، ألسنتهم ذاكرة، ونيَّاتهم خالصة، الرجال يعملون، يجتهدون، يربحون، ليسوا عالةً على غيرهم، فنعم المال الصالح للعبد الصالح، ولكن قلوبهم لا تتعلَّق إلا بما عند الله، وتسبيح الرجال بالغدوِّ والآصال، إنها أذكار الصباح والمساء، والمحافظة عليها من صفات الرجال، إنَّ رجلًا واحدًا قد يساوي مائة، ورجلًا قد يوازي ألفًا، ورجلًا قد يزن شعبًا بأسره، وقد قيل: رجلٌ ذو همة يُحيي به أمة...
لما كانت معركة القادسية طلب سعد بن أبي وقاص من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مددًا، فما أمَدَّه إلا برجل واحدٍ هو القعقاعُ بنُ عمرو التميمي وقال: لا يُهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوتُ القعقاعِ في الجيش خيرٌ من ألف مقاتل! وتصـل الأخبار سنة 21 هـ إلى عمــر بن الخطاب رضي الله عنه أن ملك الفرس يزدجر قد جمع مائة وخمسين ألفًا من رجاله لغزو مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستئصال شأفة الإسلام وأهله؟ فماذا يفعل عمر وهو يسمع بهذا الجيش الجرار بعدده وعُدَّته، فذهب عمر رضي الله عنه إلى المسجد محراب العبادة وغرفة العمليات ليجري اتصالًا ربانيًّا عاجــلًا بجبار الأرض والسماوات؛ لأنه عرف أن القوة بيد الله، وأن النصر يأتي من عنده، ومن يخذله الله فلا ناصر له..
وبعد الصلاة التفت عمر فوجد رجلًا من الصحابة.. رجلًا من الطراز الفريد، وجده يصلي بخشوع، فإذا هو النعمــان بن مقــرن رضي الله عنه، فلما أكمل قال له عمر: يا نعمان، إني أريد أن أوليك أمرًا عظيمًا.. فقال له النعمان: يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد أن توليني على أمر من أمور المال، وجمع المال، وحساب المال، فلست لذلك الأمر، إني أخاف الله رب العالمين، فالمال فتنة، وأنا أخشى الوقوع فيها، وإن كنت تريدني للقتال في سبيل الله، فإنني أناشدك الله ألَّا تحرمني الشهادة في سبيل الله، فقال عمر: أريدك أن تكون قائد جيش المسلمين لملاقاة الفرس بنهاوند.. وتولى القيادة وسار بجيش المسلمين إلى نهاوند، واصطفَّ الجيشان، وحانت ساعة الصفر، وصمتت الألسنة، ونطقت السيوف، قال النعمان لجيشه: إني سأُكبِّر ثلاث مرات، وسأدعو الله ثلاث دعوات، فأمِّنُوا، وخفقت القلوب، وخشعت الأصوات، وعنت الوجوه، قال النعمان: اللهم أعز دينك، ثم قال: اللهم انصر عبادك، ثم قال: اللهم اجعلني أول شهيد في هذه المعركة... وأمير المؤمنين عمر هنالك فى عاصمة الخلافة لا ينام الليل، ولا يهدأ له بال، حتى تقرَّحت عيناه من طول السهر ينتظر الأنباء في وقت لم يكن فيه إنترنت، ولا قنوات فضائية، ولا اتصالات لاسلكية، ودارت المعركة، وكان النعمان أول شهيد، وقتل من الفرس وجرح وأسر منهم أعداد كبيرة، وهرب منهم من هرب، ودخل المسلمون حصون نهــاوند يدكونها ويغنمون ما فيها، وكان النصر حليفهم بإذن الله.. إنه عمر رضي الله عنه الذي كان يبحث دائمًا عن معدن الرجال في أخلاقهم وقيمهم وصلتهم بالله وعلو همتهم؛ ليستعملهم في طاعة الله.
أيها المؤمنون، فإذا كانت الرجولة بهذه الأهمية وبهذه المنزلة العظيمة عند الله، وأثرها ودورها في الحياة بهذا الوضوح والسمو والفاعلية؛ فإن الرجولة إذًا ليست بالمظاهر والصور والعدد والعدة والمال والعقار، فرُبَّ إنسان أوتي بسطة في الجسم، وصحة في البدن، يطيش عقله فيغدو كالهباء، ورُبَّ عبدٍ ضعيف البدن قليل المال، وهو مع ذلك يعيش بهمة الرجال. فالرجولة مضمون قبل أن تكون مظهرًا، وما أكثر ما ضيَّعت المظاهر الجوفاء من حقوق وواجبات! وكم طمست من حقائق.. عن سهل بن سعد قال: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا» ؟، قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ. فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا» ؟، قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَلَّا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا»؛ (البخاري/ 4803). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرَّه»؛ (رواه مسلم 2622).. وعن حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ»؛ (رواه البخاري 4918).
الرجولة أخلاق وقيم تدور مع الحق والخير، وتربأ بنفسها عن سفاسف الأمور، وتتعلق بمعاليها، فالاستجابة للاستفزاز، والانفعال عند الغضب، ورمي الشتائم كالصاعقة على القريب والبعيد أمرٌ يجيده الكثير لكن الذي لا يجيده إلا الرجال الحلم والصبر عندما تطيش عقول السفهاء، في الصحيحين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» )).. وسئل الأحنف بن قيس: بمَ سُدْتَ قومَك؟ قال: وجدتُ الحِلْم أنصر لي من الرجال. ولله درُّ الشاعر إذ قال:
أحبُّ مكارمَ الأخلاق جَهـــــدي ** وأكره أن أَعيب وأن أُعابـــــا
وأصفح عن سباب الناس حِلْمًا ** وشرُّ الناس من يهوى السبابـا
ومن هاب الرجال تهيَّبــــــــوه ** ومن حَقَرَ الرجالَ فلن يُهابــــا
ومن أخلاق الرجولة في الإسلام العفة عن الحرام، والغيرة على الحرمات، وتقديم النفع، والبعد عن الظلم، ونصرة المظلوم، ودفع الضر عنه، ولم ترَ البشرية رجولةً حقيقيةً كما رأتها في خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ في عدله، وخلقه، ومعاملته، وحلمه، وشهامته، ولننظر إلى هذا الموقف، «فقد قدم رجل من إراش بإبل له إلى مكَّة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فماطله بأثمانها، فأقبل الإراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش، مَن رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب، وابن سبيل، وقد غلبني على حقي، فقال أهل المجلس: ترى ذلك، يهمزون به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة، اذهب إليه، فهو يعديك عليه، فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكر ذلك له، فقام معه، فلما رأوه قام معه، قالوا لمن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع؟ فخرج إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال مَن هذا؟ قال: محمد، فاخرج، فخرج إليه، وما في وجهه قطرة دم، وقد امتقع لونه، فقال: «أعْطِ هذا الرجل حقَّه»، قال: لا يبرح حتى أعطيه الذي له، قال: فدخل، فخرج إليه بحقه، فدفعه إليه، ثمَّ انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال للإراشي: «الحق لشأنك»، فأقبل الإراشي حتى وقف على المجلس، فقال: جزاه الله خيرًا، فقد أخذ الذي لي.. »؛ (البداية والنهاية، ج3، ص 59-60).
- ومن أخلاق الرجولة العفو حين لا يكون إلا الانتقام وتحَيُّن الفرص، فالعفو والصفح لا يجيده إلا الرجال، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].. والعفو هو التفضُّل على المخطئ والمسيء بالمسامحة والتجاوز، وعدم معاقبته أو معاملته بالمثل، والإحسان إلى من يسيء منزلة لا يطيقها إلا الرجال.. لقد دخل على القاضي ابن هبيرة وهو في مجلس القضاء رجلان من المسلمين ومعهما رجل مربوط بحبل بينهما، فقالوا: أيها القاضي، إن هذا الرجل قتل أبانا، ونريد القصاص منه، فالتفت بن هبيرة إليه، وقال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم. ثم قال لهم ابن هبيرة: تقبلون مني مئة من الإبل، وتعفون عنه، قالوا: لا نقبل. قال: فمائتين؟ قالوا: نقبل بثلاث، فأعطاهم ابن هبيرة، ثم انصرفوا، ثم قام إلى ذلك الرجل وفكَّ وثاقه وأطلق سراحه، والناس قد أخذتهم الدهشة، وهم يرون ما جرى! قالوا: يابن هبيرة، ما رأيناك عملت كما عملت اليوم، يعترف القاتل وتدافع عنه، وتعطي أهل المقتول الدية من مالك! قال: أرايتم إلى عيني اليمنى، والله ما أرى بها منذ أربعين سنة، ولقد ضربني هذا القاتل وأنا ذاهب لطلب العلم منذ أربعين سنة، فأردت أن أطيع الله فيه كما عصى الله فيَّ.. إن علينا أن نتخلق بهذه القيم ونمارسها سلوكًا في الحياة، نرضي بها ربنا، ونقوِّي بها صفَّنا، وينتفع بها مجتمعنا، وتتآلف بها القلوب، وتحفظ بها الحقوق، ولنحذر من استعمال نعم الله علينا؛ من صحة أو مال، ومنصب وجاه، في ما يغضبه سبحانه، ولنعلم أنه متى ما فسدت أخلاقنا وساءت تصرُّفاتنا ضاقت علينا نفوسنا، وتكدَّر عيشنا، وكثرت مشاكلنا، لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها، ولكن أخلاق الرجال تضيق، فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم ردنا إليك ردًّا جميلًا، ولا تفتنا في ديننا ولا دنيانا، والحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري