الذكاء الاصطناعي: سلاح الدعوة الجديد في عصر التقنية
في عصرٍ تداخلت فيه التقنية مع تفاصيل حياتنا اليومية، وامتدَّت أذرُع الذكاء الاصطناعي إلى أعمق زوايا المعرفة البشرية، برز سؤالٌ ملحٌّ على الساحة الإسلامية: هل يمكن أن تصبح هذه العقول الإلكترونية وسيلةً تخدُم الدعوة إلى الله؟
في عصرٍ تداخلت فيه التقنية مع تفاصيل حياتنا اليومية، وامتدَّت أذرُع الذكاء الاصطناعي إلى أعمق زوايا المعرفة البشرية، برز سؤالٌ ملحٌّ على الساحة الإسلامية: هل يمكن أن تصبح هذه العقول الإلكترونية وسيلةً تخدُم الدعوة إلى الله؟ وهل يمكن لتقنيات صمَّمها الإنسان أن تكون جسرًا بين الخَلْقِ وخالقهم؟
إنها لحظة استثنائية في تاريخ الأمة؛ حيث يتجلى أمام أعيننا إمكاناتٌ لم يحلُم بها الأقدمون، وتحدياتٌ لم تخطر ببال السابقين، فبينما يُسرِع العالم نحو المستقبل محمَّلًا بوعود الذكاء الاصطناعي، يبقى الدعاة أمام خيارين: إما أن يركبوا قطار التطور مسلَّحين بالشرع والعلم، أو أن يتخلفوا عن ركبٍ يمضي سريعًا إلى حيث لا رجعة.
فكيف نستثمر هذه التقنية المدهشة في نشر الإسلام، دون أن نضحي بجوهر رسالته؟ وكيف نحفظ حكمة الدعوة وسط سيلٍ من المعلومات والابتكارات؟ هنا، تبدأ رحلتنا للتأمل في إمكانات الذكاء الاصطناعي في الدعوة إلى الله، بما يحمله من فرص واعدة وتحديات جادة.
كان الناس قديمًا يحملون رسالة الدعوة على أكتافهم، متنقلين بين القرى والمدن، يحملون علمًا وهُدًى، يُنيرون الطريق للناس بما علمهم الله، واليوم - ونحن في عصر الثورة التقنية - تغيَّرت الوسائل، ولكن الرسالة تبقى ثابتة: دعوة الناس إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن أعظم ما أُتيح لنا اليوم من الوسائل هو الذكاء الاصطناعي، هذا العقل الإلكتروني الذي تجاوز في قدرته حدود التصور البشري، وأصبح أداة ذات إمكانات هائلة يمكن تسخيرها لخدمة الدعوة.
الذكاء الاصطناعي: نعمة أم فتنة؟
قد يتساءل البعض: هل استخدام الذكاء الاصطناعي في الدعوة إلى الله تطور طبيعي، أم أنه خطوة تحمل في طيَّاتها خطر الانحراف عن منهج السلف الصالح؟ والحقيقة أن الذكاء الاصطناعي كغيره من النعم، سلاح ذو حدين، فإن أحسنَّا استخدامه ووجَّهناه وفق ضوابط الشرع، كان مُعينًا لنا على تبليغ رسالة الإسلام إلى آفاق لم نكن نحلُم بها، وإن أهملنا ضوابطه، أو استخدمناه دون بصيرة، صار فتنة للناس ومَضيعة للجهود.
إمكانات الذكاء الاصطناعي في خدمة الدعوة:
إن أعظم ما يُميِّز الذكاء الاصطناعي هو قدرته على معالجة كميات ضخمة من البيانات، وتقديمها للناس بأسلوب يناسب حاجاتهم وظروفهم، فلو استُخدم في تحليل أسئلة الناس حول الإسلام، وتصنيفها وفق أكثر الموضوعات تداولًا، لتمكَّن الدعاة من التركيز على القضايا التي تشغل الناس أكثر.
ويمكن لهذه التقنية أن تساعد وتسهِّل وتسرع في ترجمة معاني القرآن والسنة وكتب العلم إلى لغات عديدة بدقة وبلاغة، وأن تقدِّم المحتوى الدعوي بصورة تفاعلية تُناسب الشباب الذين يقضون جُلَّ أوقاتهم على الإنترنت، تخيلوا تطبيقًا ذكيًّا يجيب عن أسئلة العقيدة والشريعة بأسلوب مبسط ومدعوم بالأدلة الشرعية، أو مِنصَّة تفاعلية توجِّه المستخدم إلى خطب مرئية وموادَّ علمية تناسب مستواه الثقافي واللغوي، ومجالات استخدام الذكاء الاصطناعي في الدعوة إلى الله أكثر من تُحصر، فعلينا أن نُعمل عقولنا ونستفيد من نعمة ربنا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
التحديات الأخلاقية:
ومع كل هذه الإمكانات، لا بد من الحذر؛ فالذكاء الاصطناعي ليس واعيًا، ولا يدرك القيم الإسلامية؛ لذا، فإن تركَه دون رقابة أو مراجعة قد يؤدي إلى نشر محتوى غير صحيح، أو تقديم الإسلام بصورة مشوَّهة، ولا بد من التأكد من أن هذه الأدوات تخدم الحق، ولا تخضع لأهواء المطوِّرين أو مصالح الشركات.
الدعوة في عصر التقنية:
لقد أمرنا الله تعالى في كتابه العزيز أن ندعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، والحكمة في عصرنا هذا تقتضي أن نستغل كل وسيلة مشروعة يمكن أن تخدم دعوتنا، مع مراعاة الضوابط الشرعية.
فلنكن كمن جاء في وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا؛ فكان منها نقِيَّة قبِلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير...»، وليكن الذكاء الاصطناعي أرضًا تنقل الغيث إلى أرضٍ عطشى، فينبت فيها الهدى والخير وسعادة الدارين.
إن الذكاء الاصطناعيَّ ليس بديلًا عن الداعِية، ولكنه مُعين له، وإن رسالتنا - نحن المسلمين - لا يمكن أن توكل إلى آلة دون بصمة بشرية تعبِّر عن صدق الإيمان وحرارة اليقين، فلنستخدم هذه الأداة بحكمة، ولنعلم أن الخير كله في اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن العلم الحديث ما هو إلا وسيلة لتحقيق مراد الله في عمارة الأرض بالخير والهدى، ومحاربة الظلم والشرك والباطل.
إن أُمَّتَنا اليوم تقف على عتبة عصرٍ جديد، عصرٍ تفتح فيه التقنية أبوابًا لم تكن لتُطرق من قبل، وتوفر فيه أدوات لم يكن يتخيلها عقل بشرٍ قبل عقودٍ قليلة، ولكن كما أن السيف في يد الجاهل خطر، فإن التقنية في يد غير المخلصين أو غير المدركين قد تكون كارثة!
إن الذكاء الاصطناعي ليس سوى وسيلة، ونحن أهل الإسلام أصحاب الرسالة الخالدة أحق الناس باستخدامه لنشر الخير، وهداية الحائرين، وإقامة الحجة على المعاندين، إن ديننا الذي بلغ الآفاق بالكلمة الطيبة والخطبة المؤثرة، قادر اليوم على أن يبلغ مشارق الأرض ومغاربها بأزرار تُضغط، وشاشات تُضيء، وأكواد تُكتب.
فيا دعاة الإسلام، لا تستهينوا بهذه الأداة، ولا تخشَوا منها، بل واجهوها بعزم الأنبياء وحكمة العلماء، ولنتذكر دومًا أن القلوب بيد الله، والهداية بيده وحده، وما نحن إلا أسباب، فاجعلوا من الذكاء الاصطناعي سلاحًا في معركة الدعوة، وجسرًا يعبُر عليه الهدى إلى كل قلب يبحث عن الحق.
وفي النهاية، اعلموا أن التحديات لن تنتهي، ولكن المؤمن الْمُوقِن بوعد الله لا تهُزُّه رياح، ولا تُرهبه مستجِدَّات؛ فكونوا كمن وصفهم الله بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].
- التصنيف: