فوائد وأحكام من قوله تعالى: {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء...}
من أعظم ما ينبغي أن يسأل المسلم ربه من أمور الدنيا الذرية الصالحة، والصالحة فقط، وما عدا الذرية الصالحة فلا غبطة فيهم، بل هم عبء وثِقَل وشر على والديهم وعلى الأمة، فعلى من طلب الذرية مراعاة هذا المعنى.
قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 38 - 41].
1- دعاء زكريا ربه بأن يهبه من لدنه ذرية طيبة، وتوسله إليه بربوبيته له؛ لقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}.
كما قال تعالى عنه في سورة (الأنبياء) أنه قال: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89].
وقال عنه في سورة (مريم): {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5، 6].
2- في إضافة الهبة إلى الله في قوله: {مِنْ لَدُنْكَ} إشارة إلى كرم الله - عز وجل - وعظيم هِباته، وإلى الاستغناء به - عز وجل - عن خلقه.
3- حاجة الخلق كلهم وافتقارهم إلى الله تعالى حتى الأنبياء؛ لقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} الآية.
4- أن من أعظم ما ينبغي أن يسأل المسلم ربه من أمور الدنيا الذرية الصالحة، والصالحة فقط، وما عدا الذرية الصالحة فلا غبطة فيهم، بل هم عبء وثِقَل وشر على والديهم وعلى الأمة، فعلى من طلب الذرية مراعاة هذا المعنى.
5- الدعاء بصلاح الأولاد؛ لقوله تعالى: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}، كما جاء في سورة «الأحقاف»: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15].
6- إثبات السمع لله - عز وجل - وكرمه وقدرته، وأنه سميع قريب مجيب الدعاء، والثناء على الله - عز وجل - بذلك، والتوسل به؛ لقوله تعالى: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}، وكما قال إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]؛ فهو - عز وجل - سميع مجيب الدعاء.
فإما إن يُعَجِّل للسائل ويُعطيه سؤله في الدنيا، وإما أن يدخره له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من الشر بسبب سؤاله.
ما لم يكن هناك مانع من الإجابة، كالدعاء مع سهو القلب وغفلته ولهوه، وأكل الحرام.. ونحو ذلك.
7- أن على من حُرِم الذرية أن يلجأ إلى الله - عز وجل - وحده ويسأله، كما قال زكريا عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} ﴾، وقال: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]، مع الأخذ بالأسباب المادية.
وقد دعا زكريا عليه السلام بهذه الدعوات فأجاب الله دعاءه، ورزقه يحيى عليهما السلام.
وقد ذُكِرَ عن بعضهم أنه لازم في سجوده الدعاء بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]، فرزقه الله الذرية، كما ذكر بعضهم أنه دعا بهذه الدعوات في الملتزم بين الحجر وباب الكعبة، فاستجاب الله دعاءه.
8- إثبات وجود الملائكة، والإيمان بذلك؛ وهو ركن من أركان الإيمان الستة؛ لقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ}.
9- أن الملائكة تتكلم بصوت مسموع وتخاطب البشر، لقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ}.
10- جواز تكليم المصلِّي؛ لقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}، وخصوصًا فيما تدعو الحاجة إليه، كالسلام.. ونحو ذلك، فقد كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يُسلِّمون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويرد عليهم بالإشارة[1].
11- لزوم زكريا العبادة؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}.
12- جواز اتخاذ أماكن خاصة بالصلاة؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}.
13- بشارة الله تعالى لزكريا بيحيى استجابةً منه - عز وجل - لدعائه أن يهبه من لدنه ذرية طيبة؛ لقوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى}.
14- استحباب البشارة بما يسر، فهي منهج شرعي؛ لقوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى}، كما قال تعالى في إبراهيم: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، هذا في البشارة بإسماعيل، وقال تعالى في البشارة بإسحاق {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]، وقال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]، وقال تعالى في بشارة زوجه: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71]، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما: «وبشرا ولا تنفرا» [2].
15- مشروعية تسمية المولود، وجواز تهيئة الاسم قبل ولادته؛ لقوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا}.
16- أن عيسى ابن مريم «كلمة من الله»؛ لقوله تعالى: {بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} خلقه الله تعالى بكلمته، أي: بقوله: ﴿ كن ﴾؛ قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
17- الثناء على يحيى عليه السلام وامتداحه بهذه الصفات العظيمة، وهي تصديقه بعيسى ابن مريم، وكونه سيدًا وحصورًا، وإثبات نبوته، وأنه من الصالحين؛ لقوله تعالى: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}.
18- الجمع ليحيى عليه السلام بين صفات الكمال، وأعظم ذلك صفة النبوة، وبين كونه مانعًا نفسه من الشهوات وسيء الصفات؛ لقوله تعالى: {وَحَصُورًا}.
19- أن الصلاح وصف عظيم عام لكل من أخلص لله تعالى، واتبع شرعه من الأنبياء والرسل ومن دونهم؛ ولهذا وصف الله به أنبياءه ورسله كما وصف الله به غيرهم؛ لقوله تعالى: {مِنَ الصَّالِحِينَ}.
20- في تعجب زكريا بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} طلب التثبُّت والتأكد مما بشره الله به من الولد، وخاصة أنه على خلاف ما جرت به العادة؛ فهو كبير وامرأته عاقر.
21- أن زكريا عليه السلام قد بلغه الكبر دون أن يولد له ولد؛ لقوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ}، وقوله في سورة (مريم): {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8].
22- أن من أسباب عدم الإنجاب الكبر والعقر؛ لقوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}.
23- جواز الوصف بالعقر لمن كان كذلك للبيان، لا على سبيل التنقص؛ لقوله تعالى: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}.
24- إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى؛ لأنه تعالى يفعل ما يشاء؛ لقوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}.
25- إثبات المشيئة لله تعالى، وهي الإرادة الكونية المتعلِّقة بالحكمة.
26- طلب زكريا عليه السلام من ربه علامة على حصول هذه البشارة لزيادة الاطمئنان، واستعجالًا منه لذلك؛ لقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}.
27- قدرة الله تعالى التامة على كل شيء، ولو كان على خلاف العادة، كحصول الولد للكبير والعاقر، وجعل الإنسان لا يستطيع أن يكلم الناس مع كون لسانه طلقًا بذكر الله وتسبيحه؛ لقوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}، وقوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}، كما قال تعالى في سورة (مريم): {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9].
28- أن الإشارة تقوم مقام العبارة عند العجز عن النطق بالكلام؛ لقوله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا}.
29- الحث على ذكر الله كثيرًا، وتسبيحه في العشيّ والإبكار وفي جميع الأوقات؛ لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} جمعًا بين ذِكر الله تعالى والثناء عليه، وتنزيهه عن النقائص والعيوب.
30- فضل هذين الوقتين (العشيّ والإبكار)، والتسبيح فيهما، بتخصيصهما بالذِّكر من بين الأوقات.
31- فضل زكريا عليه السلام ومكانته عند الله؛ حيث استجاب الله دعاءه، وبشره بيحيى {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}، وخاطبه، وجعل له آية على حصول هذا الولد.
[1] أخرجه أبو داود في الصلاة (925)، والنسائي في السهو (1186)، والترمذي في الصلاة (367)، من حديث صُهيب رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3038)، ومسلم في الأشربة (1733)، وأبو داود في الأدب (4835)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
- التصنيف: