من درر العلامة ابن القيم عن الصبر

منذ يوم

فالصبر من المواضيع التي تكلم عليها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله  الكريم أن ينفع بها الجميع

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد: فالصبر من المواضيع التي تكلم عليها العلامة ابن القيم, رحمه الله في عدد من كتبه, وقد جمعتُ بفضل من الله وكرمه بعضًا مما ذكره, أسأل الله  الكريم أن ينفع بها الجميع.

                                 [كتاب: الفوائد]

الصبر على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجبه الشهوةُ:

الصبر على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجبه الشهوةُ فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة وإما أن تقطع لذة أكمل منها, وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة, وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه, وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خيراً له من ذهابه, وإما أن تضيع قدراً وجاهاً قيامُهُ خير من وضعه, وإما أن تسلب نعمةً بقاؤها ألذُّ وأطيبُ من قضاء الشهوة...وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب الشهوة وإما أن تنسي علماً ذكره ألذُّ من نيل الشهوة وإما أن تُشمَّت عدواً وتحزن ولياً وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة وإما أن تحدث عيباً يبقي صفة لا تزول.

                       [كتاب: زاد المعاد في هدى خير العباد]

حفظ الصحة بالصبر:

أكثر أسقام البدن والقلب, إنما تنشأ من عدم الصبر, فما حفظت صحة القلوب والأبدان والأرواح بمثل الصبر, فهو الفاروق الأكبر, والترياق الأعظم, ولو لم يكن فيه إلا معية الله مع أهله, ومحبته لهم, فإن الله مع الصابرين...ويحب الصابرين.

                      [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان]

الصبر عند الفتن:

قال الله تعالى: {﴿ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ﴾ }  [العنكبوت:3]  فالفتنة قسمت الناس إلى صادقٍ وكاذبٍ, ومؤمن ومنافق, وطيبٍ وخبيثٍ, فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه, ونجا بصبره من فتنة أعظم منها, ومن لم يصبر وقع في فتنةٍ أشدّ منها.

الصبر على أذى الناس:

الإنسان مدني بالطبع, لا بد له أن يعيش مع الناس, والناس لهم إرادات, وتصورات, واعتقادات, فيطلبون منه أن يوافقهم عليها, فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه, وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر...ففي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل...ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهلُ وأيسرُ من الألم المُترتب على موافقتهم.

واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم, أو فاحشة, أو شهادة زُور, أو المعاونة على محرم, فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه, ولكن تكون له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى, وإن وافقهم فراراً من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فرّ منه, والغالب أنهم يُسلطون عليه, فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولاً بموافقتهم.  فمعرفة هذا ومراعاتُه من أنفع ما للعبد, فألم يسير يعقب لذةً عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذةً يسيرة تُعقِبُ ألماً عظيماً دائماً, والتوفيق بيد الله.

                                    [كتاب: الروح]

الفرق بين الصبر والقسوة:

الفرق بين الصبر والقسوة: أن الصبر خلق كسبي يتخلق به العبد, وهو حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكي. وأما القسوة فيُبس في القلب يمنعه من الانفعال, وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل, فلا يتأثر بها لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله.

                       [كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين]

أنواع الصبر:  

هو ثلاثة أنواع: صبر بالله, وصبر لله, وصبر مع لله.

فالأول الاستعانة به ورؤية أنه هو المصبِّر وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى {﴿وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِ﴾ } [النحل:127] يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر.

الثاني: أن يكون الباعث على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه, لا إظهار قوة النفس, والاستحماد إلى الخلق, وغير ذلك من الأغراض.

والثالث: دوران العبد مع مراد الله الديني منه, ومع أحكامه الدينية, صابراً نفسه معها, سائراً بسيرها, مقيماً بإقامتها, يتوجه معها أين توجهت ركائبها, وينزل معها أين استقلت مضاربها, فهذا معنى كونه صابراً مع الله, أي قد جعل نفسه وقفاً على أوامره ومحابه, وهو أشدُّ أنواع الصبر وأصعبها, وهو صبر الصدِّيقين.

للصبر عن المعصية سببين وفائدتين:

للصبر عن المعصية سببين وفائدتين: أما السببان: فالخوف من لحوق الوعيد المترتب عليها والثاني: الحياء من الرب تعالى أن يستعان على معاصيه بنعمه, وأن يبارز بالعظائم. وأما الفائدتان: فالإبقاء على الإيمان, والحذر من الحرام.

الصبر والمحبة:

الصبر من آكد المنازل في طريق المحبة, وألزمها للمحبين,...وبه يعلم صحيح المحبة من معلولها, وصادقها من كاذبها, فإن بقوة الصبر على المكاره في مراد المحبوب يُعلم صحّة محبته.

ومن ها هنا كانت محبة أكثر الناس كاذبة, لأنهم كلهم ادعوا محبة الله, فحين امتحنهم بالمكاره انخلعوا عن حقيقة المحبة, ولم يثبت معه إلا الصابرون, فلولا تحمل المشاق وتجشُّم المكاره بالصبر لما ثبت صحة محبتهم

وتبين بذلك أن أعظمهم محبة أشدُّهم صبراً, ولهذا وصف الله بالصبر خاصة أحبابه وأوليائه فقال عن حبيبه أيوب: {﴿ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ ﴾} ثم أثنى عليه فقال: {﴿ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ ﴾ } [ص:44]

مشاهد تعين العبد على الصبر فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:

للعبد عشرة مشاهد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:

أحدها: أن ما جرى الله بمشيئة الله وقضائه وقدره...وإذا شهد هذا استراح.

المشهد الثاني: مشهد الصبر, فيشهد وجوبه, وحسن عاقبته, وجزاء أهله, وما يترتب عليه من الغبطة والسرور, وتخلصه من ندامة المقابلة والانتقام.

المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم, فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لغبش في بصيرته, فإنه ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً

المشهد الرابع: مشهد الرضا, وهو فوق مشهد العفو والصفح, وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة, سيما إن كان ما أُصيبت به سببه القيام لله.

المشهد الخامس: مشهد الإحسان, وهو أرفع مما قبله, وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان, فيُحسن إليه كلما أساء هو إليه, ويُهون عليه هذا علمه بأنه قد ربح عليه, وأنه قد أهدى إليه حسناته, ومحاها من صحيفته, فأثبتها في صحيفة من أساء إليه, فينبغي لك أن تشكره.

ويهونه عليك أيضاً: علمًك بأن الجزاء من جنس العمل, فإذا كان هذا عملك في إساءة مخلوق إليك عفوت عنه, وأحسنت إليه, مع حاجتك وضعفك وفقرك وذُلِّك, فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك, يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك.

المشهد السادس: مشهد السلامة وبرِّ القلب, وهذا مشهد شريف لمن عرفه وذاق حلاوته...فإن القلب إذا اشتغل بشيءٍ فاته ما أهم عنده وخير له منه, فيكون مغبوناً, والرشيد لا يرضى بذلك, ويراه من تصرفات السفيه.

المشهد السابع: مشهد الأمن, فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام أَمِنَ ما هو شر من ذلك, وإذا انتقم واقعة الخوف ولا بد...والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيراً, فكم من حقيرٍ أردى عدوه الكبير.

المشهد الثامن: مشهد الجهاد, وهو أن يشهد تولد أذى الناس له عن جهاده في سبيل الله, وأمرهم بالمعروف, ونهيهم عن المنكر

وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن, فإن أراد أن يُسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها, فلا حقَّ له على من آذاه, ولا شيء له قِبَلَه, إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع, فإنه قد وجب أجره على الله.

المشهد التاسع: مشهد النعمة, وذلك من وجوه:

أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه أن جعله مظلوماً يرتقب النصر, ولم يجعله ظالماً يرتقب المقت والأخذ, فلو خير العاقل بين الحالتين ولا بد من إحداهما – لأختار أن يكون مظلوماً.

ومنها: أن يشهد نعمة الله عليه في التكفير من خطاياه....فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك, فلا تنظر إلى كراهة الدواء ومن كان على يديه, وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك, وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.

ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها.

ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة...وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قِبَلَ الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض, فالعاقل يعدُّ ذخراً ليوم الفقر والفاقة.

المشهد العاشر: مشهد الأسوة, وهو مشهد لطيف شريف جداً, فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه, فإنهم أشدُّ الناس امتحاناً بالناس.

المشهد الحادي عشر: وهو أجل المشاهد وأرفعها: مشهد التوحيد, فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله تعالى, والإخلاص له ومعاملته, وإيثار مرضاته, والتقرب إليه, وقرت عينه بالله, وابتهج قلبه بحبه والأنس به, واطمأن إليه, وسكن إليه, واشتاق إلى لقائه, واتخذه ولياً من دون ما سواه, بحيث فوض إليه أمور كلها, ورضي به وبأقضيته...فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتة, فضلاً عن أن يشتغل قلبه وفكره وسرُّه بطلب الانتقام والمقابلة.

                            [كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين]

أسباب الصبر على المعصية

الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:

أحدها: علمُ العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها, وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانةً لعبده وحمايةً عن الدنايا والرذائل, كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره, وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلَّق عليها وعيد بالعذاب.

السبب الثاني: الحياء من الله عز وجل, فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومستمع, وكان حيًّا حييًّا, استحيا من ربه أن يتعرض لمساخطه.

السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك.

السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه, وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده, والإيمان به وبكتابه ورسوله, وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين, ويضعف بضعفهما, قال تعالى:   {﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾} [فاطر:28] قال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً, وبالاغترار به جهلاً.

السبب الخامس: قصر الأمل, وعلمه بسرعة انتقاله فهو حريص على ترك ما يضره

السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتهُا وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها, وتخفض منزلتها وتُحقرها, وتسوي بينها وبين السفلة.

السبب السابع: محبة الله سبحانه وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه فإن المحبّ لمن يحب مطيع, وكلما قوى سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها.

وههنا لطيفة يجب التنبه لها, وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه, فإذا قارنها الإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة, وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أُنس وانبساط وتذكر واشتياق, ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها, ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله, ولكن لا تحمله على ترك معاصيه, وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم, فما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه, وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

السب الثامن: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية, وقبح أثرها, والضر الناشئ منها من سواد الوجه, وظلمة القلب, وضيقه وغمه وحزنه وألمه, وانحصاره, وشدة قلقه واضطرابه, وتمزق شمله, وضعفه عن مقاومة عدوه

ومنها: ذلة بعد عزة.

ومنها: زوال أمنه وتبدله به مخافة, فأخوف الناس أشدهم إساءة.

ومنها: نقصان رزقه, فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه.

ومنها: ضعف بدنه.

ومنها: حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس.

ومنها: الطبع والرين على قلبه, فإن العبد إذا أذنب نُكت في قلبه نكتة سوداء, فإن تاب منها صُقل قلبه, وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه, فذلك هو الران, قال تعالى: {﴿  كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾} [المطففين:14]  

ومنها: أنه يحرم حلاوة الطاعة.

ومنها: علمه بفوات ما هو أحبّ إليه وخير له منها من جنسها,  وغير جنسها, فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا,  ولذة ما في الآخرة, كما قال الله تعالى: {﴿ وَيَوۡمَ يُعۡرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَيِّبَٰتِكُمۡ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنۡيَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا﴾} [الأحقاف: 20] فالمؤمن لا يذهب طيباته في الدنيا, بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة, وأما الكافر فلأنه لا يؤمن بالآخرة, فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا. ومنها: علمه بأن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه, شفيعه عند ربه, والمخاصم والمحاج عنه, فإن شاء جعله له, وإن شاء جعله عليه.

ومنها: أنه بالمعصية قد تعرض لمحق بركته في كل شيءٍ من مر دنياه وآخرته, فإن الطاعة تجلب للعبد بركات كل شيء, والمعصية تمحق كل بركة.

السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس...ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه

السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها وهو: ثبات شجرة الإيمان في القلب

                        [كتاب: عدّة الصابرين وذخيرة الشاكرين]

الصبر والنصر أخوان شقيقان:

الله سبحانه جعل الصبر جواداً لا يكبو, وصارماً لا ينبو, وجنداً غالباً لا يهزم, وحصناً حصيناً لا يهدم ولا يثلم, فهو والنصر أخوان شقيقان.

فالنصر مع الصبر والفرج مع الكرب واليسر مع العسر وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد ولقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم كتابه أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب, وأخبر أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين فقال { ﴿وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾} [الأنفال:46]

الإيمان نصفين: نصف صبر, نصف شكر:

ولما كان الإيمان نصفين: نصف صبر ونصف شكر, كان حقيقاً على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين الأصلين العظيمين, ولا يعدل عن هذين الطريقين القاصدين وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين, ليجعله يوم لقائه مع خير الفريقين.

معنى الصبر:

الصبر: حبس النفس عن الجزع, واللسان عن التشكي والتسخط, والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما.

حقيقة الصبر:

حقيقته: خلق فاضل من أخلاق النفس, تمتنع به من فعل لا يحسن ولا يجمل, وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها.

في الفرق بين الصبر والتصبر والاصطبار والمصابرة:

الفرق بين هذه الأسماء بحسب حال العبد في نفسه وحاله مع غيره, فإن حبس نفسه ومنعها عن إجابة داعي ما لا يحسن, إن كان خلقاً وملكة سمى صبراً, وإن كان بتكلف وتمرن وتجرع لمرارته سمى تصبراً.

وأما الاصطبار فهو أبلغ من التصبر, فإنه افتعال للصبر بمنزلة الاكتساب, فالتصبر مبدأ الاصطبار,..فلا يزال التصبر يتكرر حتى يصير اصطباراً.

وأما المصابرة فهي مقاومة الخصم في ميدان الصبر, فإنها مفاعلة تستدعى وقوعها بين اثنين كالمُشاتمة والمُضاربة.

أقسام الصبر:

الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام:

صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها

وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها.

وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها.

وهذه الأنواع الثلاثة هي التي قال فيها الشيخ عبدالقادر في " فتوح الغيب " : لا بد للعبد من أمر يفعله, ونهي يجتنبه, وقدر يصبر عليه.

الصبر الواجب:

الصبر عن المحرمات.

الصبر على أداء الواجبات.

الصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها كالأمراض والفقر وغيرهما

الصبر المندوب:

هو الصبر عن المكروهات, والصبر على المستحبات, والصبر عن مقابلة الجاني بمثل فعله.

الصبر المحظور:

الصبر عن الطعام والشراب حتى يموت,

الصبر عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة حرام إذا خاف بتركه الموت.

ومن الصبر المحظور صبر الإنسان على ما يقصد هلاكه من سبُعٍ أو حية أو حريق أو ماء أو كافر يريد قتله, بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين فإنه مباح له, بل يستحب الصبر كما دلت عليه النصوص الكثيرة.

أمثلة للصبر المكروه:

أحدها: أن يصبر عن الطعام والشراب واللبس وجماع أهله حتى يتضرر بذلك بدنه.

الثاني: صبره عن جماع زوجته إذا احتاجت إلى ذلك ولم يتضرر به.

الثالث: صبره على فعل المكروه.  الرابع: صبره عن فعل مستحب.

الصبر المباح:

هو: الصبر عن كل فعل مستوي الطرفين خُيّر بين فعله وتركه والصبر عليه.

تفاوت درجات الصبر

الصبر نوعان: اختياري, واضطراري.

والاختياري أكمل من الاضطراري, فإن الاضطراري يشترك فيه الناس ويتأتى ممن لا يتأتي منه الصبر اختياراً, ولذلك كان صبر يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم عن مطاوعة امرأة العزيز وصبره على ما ناله من ذلك من الحبس والمكروه أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لما ألقوه في الجُبِّ وفرقوا بينه وبين أبيه وباعوه بيع العبيد.

أفضل أنواع الصبر:

فإن قيل: فأيُّ أنواع الصبر الثلاثة أكمل: الصبر على المأمور, أم الصبر على عن المحظور, أم الصبر على المقدور ؟

قيل: الصبر المتعلق بالتكليف – وهو الأمر والنهي – أفضل من الصبر على مجرد القدر, فإن هذا الصبر يأتي به البرّ والفاجر, والمؤمن والكافر, فلا بد لكل واحد من الصبر على القدر اختياراً أو اضطراراً, وأما الصبر على الأوامر والنواهي فصبر اتباع الرسل, وأعظمهم اتباعاً أصبرهم في ذلك. وكل صبر في محله وموضعه أفضل, فالصبر عن الحرام في محله أفضل, والصبر عن الطاعة في محلها أفضل

صبر الكرام:

كلُّ أحد لا بد أن يصبر على بعض ما يكره إما اختياراً وإما اضطراراً, فالكريم يصبر اختياراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر وأنه يحمد عليه ويُذم على الجزع, وأنه إن لم يصبر لم يرُدّ الجزعُ عليه فائتاً ولم ينزع عنه مكروهاً, وأن المقدور لا حيلة في دفعه, وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله فالجزع خوف محض ضرُّه أقرب من نفعه.قال بعض العقلاء: العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر.وقال بعض العقلاء: "من لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم" فالكريم ينظر إلى المصيبة, فإن رأى الجزع يردُّها ويدفعها فهذا قد ينفعه الجزع, وإن كان الجزع لا ينفعه فإنه يجعل المصيبة مصيبتين.

الغني الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل ؟

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المسألة, فقال: قد تنازع كثير من المتأخرين في الغني الشاكر والفقير الصابر أيهما أفضل, فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد, ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد, وحكي في ذلك عن الإمام أحمد روايتان,وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين على الآخر, وقد قالت طائفة ثالثة: ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى, فأيهما كان أعظم إيماناً وتقوى كان أفضل, فإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة.

قال: وهذا أصحّ الأقوال, لأن نصوص الكتاب والسنة إنما تُفضل بالإيمان والتقوى, وقد قال تعالى:   {  إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرًا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَا}  [النساء:135]

وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء, وكان فيهم من هو أفضل من أكثر الأغنياء, والكاملون يقومون بالمقامين فيقومون بالشكر والصبر على التمام كحال نبينا صلى الله عليه وسلم وحال أبي بكر وعمر.

أمور تعين على الصبر:

لما كان الصبر مأموراً به جعل الله سبحانه له أسباباً تعين عليه وتوصل إليه.

فالصبر وإن كان شاقاً كريهاً على النفوس فتحصيله ممكن, وهو يتكون من مفردين: العلم والعمل, فمنهما تُركب جميع الأدوية التي تُداوى بها القلوب والأبدان, فلا بدَّ من جزء علمي وجزء عملي, فمنهما يركب هذا الدواء الذي هو أنفع الأدوية.

فأما الجزء العلمي فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال, وإدراك ما في المحظور من الشرِّ والضرِّ والنقص, فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغي أضاف إليهما العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروءة الإنسانية, وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء, ومتى فعل ذلك حصل له الصبر وهانت عليه المشقة وحَلَت له مرارته وانقلب ألمه لذة.

الصبر في موطنه أفضل, والشكر في موطنه أفضل:

إذا عرف أن الغنى والفقر والبلاء والعافية فتنة وابتلاء من الله لعبده يمتحن بها صبره وشكره, عُلم أن الصبر والشكر مطيتان للإيمان لا يُحمل إلا عليهما, ولا بد لكل مؤمن منهما, وكل منهما في موضعه أفضل, فالصبر في موطن الصبر أفضل, والشكر في مواطن الشكر أفضل.

الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال

ما دام قلم التكليف جاريً عليه لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال, فإنه بين أمر يجب امتثاله وتنفيذه, ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه, وقدر يجب عليه الصبر عليه اتفاقاً, ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها, وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات.

الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه

لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله, والقلب عن التسخط, والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها, كان ما يضاده واقعاً على هذه الجملة.

فمنه الشكوى إلى المخلوق, فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله, فقد شكا من يرحمه إلى من لا يرحمه.

وأما إخبار المخلوق بالحال, فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل إلى زوال ضرره لم يقدح ذلك في الصبر, كإخبار المريض بشكاته, وإخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله, وإخبار المبتلى ببلائه لمن يرجو أن يكون فرجه على يديه.

ومما ينافي الصبر: شق الثياب عند المصيبة, ولطم الوجه, والضرب بإحدى اليدين على الأخرى, وحلق الشعر, والدعاء بالويل, ولهذا برئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن سلق وحلق وخرق.

ولا ينافيه البكاء والحزن, قال تعالى عن يعقوب:  { وَٱبۡيَضَّتۡ عَيۡنَاهُ مِنَ ٱلۡحُزۡنِ فَهُوَ كَظِيم ﴾} [يوسف:84] 

ومما يقدح في الصبر: إظهار المصيبة والتحدث بها, وكتمانها رأس الصبر.

ويضاد الصبر الهلع وهو الجزع عند ورود المصيبة والمنع عند ورود النعمة, قال تعالى: { ﴿ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا* وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا ﴾} [المعارج:19-20]  وهذا تفسير الهلوع قال الجوهري: الهلع: أفحش الجزع.

                    [كتاب: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح]

الصبر مفتاح النصر:

ومفتاح النصر والظفر: الصبر

                     [كتاب: روضة المحبين ونزهة المشتاقين]

من صبر عن الحرام أعقبه الله في الدنيا المسرة:

قد جرت سنة الله تعالى في خلقه: أن من آثر الألم العاجل على الوصال الحرام, أعقبه الله ذلك في الدنيا المسرة التامة, وإن هلك فالفوز العظيم, والله تعالى لا يضيع ما يتحمل عبدها من لأجله.                       

                          كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 0
  • 0
  • 63

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً