وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} هذا هو الوصف الخامس من أوصاف المتقين الذين أعدت لهم الجنان التي عرضُها كعرض السماوات والأرض.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} هذا هو الوصف الخامس من أوصاف المتقين الذين أعدت لهم الجنان التي عرضُها كعرض السماوات والأرض.
والواو هذه حرف عطف، والأصل في المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه، وليس المراد إذا قلنا إن العطف يقتضي المغايرة أن تكون المغايرة في الذات فقط، بل قد يكون التغاير في «الذات» وفي «اللفظ» وفي «الصفة» وفي «المعنى».
فإذا قلنا: قدم زيد وعمرو، فهنا عطف يقتضي المغايرة في الذات؛ لأن هذا غير هذا بلا شك.
والتغاير في اللفظ مثل قول الشاعر: فألفي قولها كذباً ومينا
فالمين هو الكذب، ولكنه عطف عليه من باب عطف المترادفين، ولهذا لا يأتي في اللغة العربية كذباً وكذباً، إنما يأتي كذباً وميناً، فلا بد من التغاير في اللفظ.
وفي هذه الآية {{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}} المغايرة في الصفة، فهي كقوله: { {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}} [الأعلى:١-٤] فالذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى هو الله سبحانه، لكن هذا عطف صفة على صفة.
والتغاير في المعنى قريب من التغاير في الصفة
وأصل الفُحْش: القُبْح الخارج عن الحد شرعاً أو عرفاً. أي الفعلة القبيحة الشديدة القبح.
وكثر استعمال الفاحشة في الزنا، ولذلك قال جابر حين سمع الآية: "زنوا ورب الكعبة". وهذا كقوله تعالى: {{واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ}} [النساء:15] وقوله: { {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}} [الإسراء:32]
فالزنا فاحشة شرعية وفاحشة عرفية. كذلك اللواط فاحشة شرعية وعرفية، قال لوط لقومه: {{أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}} [الأعراف:٨٠] كذلك نكاح ما نكح الآباء هو أيضاً فاحشة: {{وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا}} [النساء:۲۲]
{{أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} } المراد به ما دون الفاحشة.
قال الزمخشري: "الفاحشة: ما كان فعله كاملاً في القُبْح، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان، مما يؤاخذُ الإنسانُ به".
وقال النخعي: "الفاحشة القبائح، وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان".
وقيل: "جميع المعاصي، وظلم النفس العمل بغير علم ولا حجة".
وقيل: الفاحشة ما تظوهر به من المعاصي، وظلم النفس: ما أخفى منها.
وقيل: الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه.
وقال الباقر: الفاحشة النظر إلى الأفعال، وظلم النفس رؤية النجاة بالأعمال.
فكل من خالف أمر الله بفعل محرم أو ترك واجب فقد ظلم نفسه، قال الله تعالى: {{وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}} [الطلاق:١] لأن النفس عندك أمانة تجب عليك رعايتها، وقد أوصاك الله بها فقال: {{وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}} [النساء:٢٩]. وقال: {{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}} [التوبة:36] فنهى عن قتل النفس وعن ظلم النفس لأنها أمانة عندك.
والتعبير بصيغة الشرط {{إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} } يفيد اقتران الجواب بالشرط، أي أن ذكر الله يكون عند الارتكاب ولا يكون بينهما تراخ يجعل الشر يفرخ في النفس، فالتوبة إلى الله تكون فور الارتكاب لَا تراخي بينهما ولا يستمر في المعصية حتى تحيط به خطيئته.
{{ذَكَرُوا اللَّهَ}} هو ذكر القلب وهو ذكر ما يجب لله على عبده، وما أصابه، وهو الذي يتفرع عنه طلب المغفرة، وأما ذكر اللسان فلا يترتب عليه ذلك.
ولذكر الله تعالى مرتبتان:
(إحداهما) ذكر أوامره ونواهيه وما أعده للمذنبين وما أعده للمتقين.
(والثانية) وهي العليا ذكر جلاله وعظمته وعلمه بما تخفي الصدور وهذه لَا ينالها إلا الأبرار المقربون.
فذكر الأول من باب «الهرب» وذكر الثاني من باب «الطلب»، والعابد بمقتضى الطلب أعلى حالاً من العابد بمقتضى الهرب، قالوا: لأن الطالب ناصح في غيبة المطلوب وفي حضوره، والهارب ناصح في حضور المخوف لكن في غير حضوره لا يهتم.
{{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}} والاستغفار: طلب المغفرة أي الستر للذنوب، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب، ولذلك صار يعدي إلى الذنب باللام الدالة على التعليل كما هنا، وقوله تعالى: {{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}} [غافر:55].
ولما كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة، ونية إقلاع عن الذنب، وعدم العودة إليه، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى «التوبة»، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمر عليه، أو عازم على معاودته، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب، فلذلك عد الاستغفار هنا رتبة من مراتب التقوى. وليس الاستغفار مجرد قول أستغفر الله باللسان والقائل ملتبس بالذنوب.
عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: بلغني أن إبليس حين نزلت: {{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}} الآية، بَكَى.
{{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}} جملة اعتراض بين المتعاطفين. فيها بيان إجابة الاستغفار وفِيها بيان أنه لَا مفزع من الله إلا إليه، وفيها ترفيق للنفس، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه، واختصاصه بغفران الذنب، لأنه استثناء مفرغ وهو الذي لم يذكر فيه المستثنى منه وسبق بنفي أو نهي أو استفهام. فإذا قلت: ما قام إلا زيد، فهنا الاستثناء مفرغ لم يذكر فيه المستثنى منه. وإذا قلت: ما قام أحد إلا زيد، فهذا غير مفرغ؛ لأنه ذكر المستثنى منه.
قال البقاعي: ولما كان هذا مفهماً أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب، أتبعه بتحقيق ذلك، ونفى القدرة عليه عن غيره، مرغباً في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين.
قال الزمخشري: وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وأنَّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنّه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه، وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة وبعث عليها، وردع عن اليأس والقنوط. وأنّ الذنوب وإنْ جلت فإنَّ عفوه أجل، وكرمه أعظم. والمعنى: أنه وحده معه مصححات المغفرة.
روى البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ)»
وروى الإمام أحمد عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا إِذَا رَأَيْنَاكَ رَقَّتْ قُلُوبُنَا وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَإِذَا فَارَقْنَاكَ أَعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا، وَشَمَمْنَا النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ قَالَ: (لَوْ تَكُونُونَ - أَوْ قَالَ: لَوْ أَنَّكُمْ تَكُونُونَ - عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْحَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا عِنْدِي، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَكُفِّهِمْ، وَلَزَارَتْكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا، لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يَغْفِرَ لَهُمْ) قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ، مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ: (لَبِنَةُ ذَهَبٍ وَلَبِنَةُ فِضَّةٍ، وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ، وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ، وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ، مَنْ يَدْخُلُهَا يَنْعَمُ وَلَا يَبْأَسُ، وَيَخْلُدُ وَلَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ. ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ)» [حديث صحيح بطرقه وشواهده]
وروى أحمد بسند صحيح عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدِيثًا نَفَعَنِي اللهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ غَيْرِي اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَدَّثَنِي -وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ، قَالَ مِسْعَرٌ : وَيُصَلِّي، وَقَالَ سُفْيَانُ: ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا غُفَرَ لَهُ)» .
وروى أحمد بسند حسن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «(إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتِ الْأَرْوَاحُ فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَبِعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَبْرَحُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي)» .
وقيل للحسن ألا يستحيى أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود؟ فقال: "ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا فلا تملوا من الاستغفار".
وروي عنه أنه قال: "ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين" يعني أن المؤمن كلما أذنب تاب.
{{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}} أي ولم يقيموا على قبيح فعلهم.. قال قتادة : الإصرار المضي في الذنب قدماً.
وأصْل الإصرار: الثبات على الشيء. أو هو الشد على الشيء والربط عليه مأخوذ من الصر، والصرة معروفة.
وقوله: { {وَلَمْ يُصِرُّوا}} إتمام لركني التوبة لأن قوله: {{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}} يشير إلى الندم، وقوله: {وَلَمْ يُصِرُّوا} تصريح بنفي الإصرار، وهذان ركنا التوبة. وفي الحديث: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ) [أحمد:حسن]
{{وَهُمْ يَعْلَمُونَ}} أي يعلمون سوء فعلهم، وعظم غضب الرب، ووجوب التوبة إليه، وأنه تفضل بقبول التوبة فمحا بها الذنوب الواقعة.
والمعنى: وليسوا ممن يصرّ على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها، لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح.
وقال مجاهد وأبو عمارة: يعلمون أن الله يتوب على من تاب. وهذا كقوله تعالى: { {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}} [التوبة:104]
وقيل: يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها، أطلق اسم العلم على الذكر لأنه من ثمرته.
وهذه الجملة معطوفة على {فاستغفروا}، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب على الشرط.
وروى أحمد بسند حسن عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «(ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)»
وقد انتظم من قوله: {{ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا}} وقوله: {{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}} وقوله: {{وَهُمْ يَعْلَمُونَ}} الأركان الثلاثة التي ينتظم منها معنى التوبة في كلام أبي حامد الغزالي في كتاب التوبة من «إحياء علوم الدين» إذ قال: وهي علم، وحال، وفعل. فالعلم هو معرفة ضر الذنوب، وكونها حجابا بين العبد وبين ربه، فإذا علم ذلك بيقين ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات ما يحبه من القرب من ربه، ورضاه عنه، وذلك الألم يسمى ندما، فإذا غلب هذا الألم على القلب انبعث منه في القلب حالة تسمى إرادة وقصد إلى فعل له تعلق بالحال والماضي والمستقبل، فتعلقه بالحال هو ترك الذنب بالإقلاع، وتعلقه بالمستقبل هو العزم على ترك الذنب في المستقبل، وتعلقه بالماضي بتلافي ما فات.
{{أُولَئِكَ}} إشارة إلى الصنفين، وجيء باسم الإشارة لإفادة أن المشار إليهم صاروا أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة، لأجل تلك الأوصاف التي استوجبوا الإشارة لأجلها.
{{جَزَاؤُهُمْ}} على هذه الصفات.
{{مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا}} فاستحقوا برحمة الله تعالى جزاءهم وهو ثلاثة: أعلاها مغفرة من ربهم الذي خلقهم وهذه المغفرة دليل رضاه، وهو أعلى جزاء، والثاني الجنات التي تتوافر فيها أنواع النعيم، وثالثها الخلود، فهو نعيم ليس على مظنة الانتهاء، إذ إن توقع الزوال ينقص من قدره.
** وفيه أن مغفرة الله -عز وجل- للمرء من أعظم الثواب، فلا تغفل أن تكثر من سؤال المغفرة.. كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينما نزلت عليه سورة النصر يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي).
{{وَنِعْمَ} } فيه إشارة إلى عظم هذا الأجر؛ لأن العظيم إذا أثنى على شيء دل على عظمه، والله سبحانه وتعالى هو العظيم جل وعلا وقد أثنى على هذا النعيم .
{{أَجْرُ الْعَامِلِينَ}} أي ثوابهم، وجعله ذو الفضل والإحسان أجراً ليكون الإنسان مطمئناً على الحصول عليه إذا قدم العوض وإلا فالمنة لله عز وجل أولاً وآخراً، لكن يمن علينا والحمد الله بالعمل ثم يمن علينا ثانياً بالجزاء، ويقول: {{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}} [الرحمن:٦٠] كأننا نحن محسنون استقلالاً وابتداء، فإذا أحسنا فجزاؤنا أن يحسن إلينا مع أنه سبحانه وتعالى هو الذي أحسن إلينا أولاً وآخراً، كذلك يقول جل وعلا: {{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعِيكُم مَشْكُورًا}} [الإنسان:۲۲] سبحان الله يمن علينا بالسعي ويوفقنا له ويعيننا عليه ثم يشكرنا عليه، هذا والله هو غاية الفضل والإحسان فله الحمد والشكر.
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك، أي المغفرة والجنة.
والمعنى: أن المطلوب بالتوبة أمران:
الأول: الأمن من العقاب، وإليه الإشارة بقوله: {مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ}.
والثاني: إيصال الثواب إليه، وهو المراد بقوله: {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا}.
قال ابن عطية: أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره.
وروي أن الله عزّ وجل أوحى إلى موسى -عليه السلام-: ما أقلَّ حياء من يطمعُ في جنتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي؟!.
وعن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة.
وعن الحسن يقول الله يوم القيامة: جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا الجنة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: