هل تحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حقًا؟
هل فكرت يومًا أن هناك حبًّا يسمو فوق هذه المحبّات جميعًا؟ حبًّا ليس مرتبطًا بمصلحة، ولا مقيدًا بعاطفة زائلة
قد تحبّ ابنك، فيملأ قلبك بهجةً حين يضحك، وتفديه بروحك لو مسّه ضرر. وقد تحبّ والديك، فتشعر أن البرّ بهما دينٌ تؤدّيه، وأنّ رضاهما هو مفتاح سعادتك. وقد تحبّ نفسك، فتحرص على سلامتها، وتسعى في الدنيا من أجلها.
لكن، هل فكرت يومًا أن هناك حبًّا يسمو فوق هذه المحبّات جميعًا؟ حبًّا ليس مرتبطًا بمصلحة، ولا مقيدًا بعاطفة زائلة، بل هو حبٌّ لو خلا منه قلبك، لن يبلغ إيمانك غايته، ولن تذوق حلاوته!
إنه الحبّ الأعظم، حبٌّ تتعلّق به القلوب، وتأنس به الأرواح، ويغدو فيه المحبوب أغلى من النفس، وأحبّ من الولد، وأعزّ من الوالد... حبّ سيد الخلق، محمد صلى الله عليه وسلم.
فهل بلغ هذا الحب قلبك؟ وهل صار النبيّ صلى الله عليه وسلم أحبّ إليك من كل شيء؟ تعال نبحر في هذا الحديث العظيم، الذي جعله ميزانًا للإيمان: "لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ ، ووالدِهِ ، والناسِ أجمعينَ".
إن الإيمان ليس كلمة تُقال، ولا شعارًا يُرفع، ولا صلاةً تُؤدّى بلا روح، ولا صيامًا بلا تقوى، ولكنه حقيقةٌ راسخة في القلب، تظهر في السلوك والأخلاق، وتجري في الدم مجرى الحياة. ومتى استقر الإيمان في القلب، كان الحبّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لازمًا من لوازمه، فلا ينفكّ عنه، كما لا تنفكّ الروح عن الجسد.
لكنّ هذا الحبّ ليس كأيّ حبّ، ليس حبًّا من طرف واحد، وليس عاطفةً عابرة، وليس حبًّا يشوبه نفعٌ أو مصلحة. إنه حبٌّ يعلو على محبة الوالد والولد، بل يعلو على محبة النفس ذاتها. كيف لا، وهو حبٌّ يقرّب إلى الله، ويوصل إلى جناته، ويمكّن الإنسان من الاقتداء بخير من وطئت الأرضَ قدمُه؟
قد يقول قائل: كيف يمكن أن يكون حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعظم من حبّ الإنسان لابنه، ووالده، وأقرب الناس إليه؟ أليس الابن فلذة الكبد، والأب سبب الوجود، والأهل سند الحياة؟
نعم، لكنّها محبةٌ مؤقتة، تُفنى بالموت، وتنقطع عند القبر، أما حبّ النبي صلى الله عليه وسلم فهو حبٌّ خالد، لأنه حبٌّ متصل بحبّ الله، ومن أحبّ النبيّ بصدق، أحبّه الله، ومن أحبه الله، فاز برضوانه وجنّته، فأيّ حبٍّ أعظم من هذا؟
إن الحبّ الحقيقي للنبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يملأ القلب طمأنينةً، ويهدي العقل رشدًا، ويدفع النفس إلى طاعته واتباعه، والتمسك بهديه وسنته، والغيرة على دينه، والذبّ عن شريعته، والنصح لأمّته.
قد يدّعي المرء حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنّ المحكّ الحقيقي لهذا الحبّ ليس مجرد القول، ولا التظاهر بالمظاهر، بل هو اتباع هديه، والاقتداء بسيرته، وتقديم أمره على هوى النفس.
لقد كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يعيشون هذا الحبّ في كل لحظة من حياتهم، لم يكن حبًّا شعارات فقط، ولا كلماتٍ تُنشد في المجالس، بل كان نورًا يسري في حياتهم كلها. هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: "والله يا رسول الله، لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا نفسي"، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك"، فقال عمر على الفور: "والله لأنت الآن أحبّ إليّ من نفسي". فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر".
لقد أدرك الفاروق أنّ حبّه للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليس مجرّد شعور، بل هو حقيقة ينبغي أن تتغلغل في النفس، فتجعل أمره فوق أمر النفس، ورأيه فوق رأيها، وطاعته فوق شهواتها.
إن المسلم حين يملأ قلبه حبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا يعود يرى في الدنيا شيئًا أعظم من سنته، ولا يجد في الوجود طريقًا أنقى من طريقه، ولا يشتهي في حياته إلا أن يكون ممن يلقونه على الحوض، فيسقيهم بيده الشريفة، ويرفع عنهم الظمأ إلى الأبد.
هذا الحبّ هو الذي يجعل المسلم يتحرى الحلال، ويبتعد عن الحرام، ويصلح أخلاقه، ويجعل همه في الدنيا أن يكون عبدًا لله، متبعًا لرسوله، يسعى إلى نصرة دينه، ويعمل على إعلاء كلمته، ويحيا ويموت على سنته.
إن سؤالًا ينبغي لكل واحد منا أن يطرحه على نفسه: هل أنا ممن يحبّون النبيّ صلى الله عليه وسلم حقًّا؟ هل هو أحبّ إليّ من ولدي؟ هل هو أحبّ إليّ من والدي؟ هل هو أحبّ إليّ من نفسي التي بين جنبي؟
إن الإجابة على هذا السؤال ليست في الكلمات، بل في الأفعال. فمن أحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، التزم بسنته، ودافع عن دينه، وعمل بوصاياه، ووالى من والاه، وعادى من عاداه، وأحبّ ما أحبّه، وكره ما كرهه.
يا عبد الله، إن كنت تحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجعل هذا الحبّ نورًا يضيء طريقك، اجعله ميزانًا لخطواتك، وسراجًا لروحك، ودافعًا لهمّتك، لا تجعله مجرد كلماتٍ تردّدها في المجالس، أو عاطفةً عابرةً تخبو عند أول امتحان، بل ليكن حبًّا صادقًا يترجم إلى أفعال، فتكون لك في كل لحظة وقفة: هل سيسعد النبيّ صلى الله عليه وسلم لو رآني على هذه الحال؟ هل سيفرح لو رأى عملي وسيرتي؟ هل سأكون ممن يناديهم على الحوض، أم ممن يقال لهم: سحقًا، سحقًا؟! انظر في نفسك، في صلاتك، في معاملاتك، في أخلاقك، في غيرتك على دينه، واسأل نفسك: هل أنا حقًا من المحبين؟ فإن كنت كذلك، فاعمل عمل المحبّين، ولا ترضَ لنفسك بالدون، ولا تكتفِ بالقول دون الفعل، فإنّ مَن أحبّ أحدًا تبِعه، ومن تبع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فطوبى له، ثم طوبى، فقد وعدنا الله بأن يكون المرء مع من أحبّ، فهل هناك أمنيةٌ أغلى من أن تكون معه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون؟! فامضِ في طريقك مستمسكًا بسنته، ثابتًا على هديه، عاملاً بوصاياه، ذابًّا عن دينه، واثقًا أنّ هذا الحبّ ليس كلماتٍ تكتب، ولا أشواقًا تُشعل القلوب فحسب، بل هو عهدٌ ووعدٌ وميثاق، نسير عليه حتى نلقاه، فنراه، فيبشّرنا، ويقول لنا بوجهه النورانيّ: "أنتم إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني"، فهنيئًا للمحبّين الصادقين، ويا خيبة من قصّر وفرّط!
إنّها نعمة عظيمة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ إلينا من كل شيء، نعمة لا ينالها إلا من شرح الله صدره للإيمان، وملأ قلبه بالنور، وجعل حبّ النبيّ عنده أعظم من الدنيا وما فيها.
فاللهم اجعلنا من أهل هذا الحبّ، وأحينا على سنته، وأمتنا على ملّته، واحشرنا في زمرته، واسقنا من حوضه، وأدخلنا في شفاعته، وأكرمنا برؤيته في الجنة، وارزقنا صحبته في الفردوس الأعلى، مع الذين أنعمت عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
- التصنيف: