تيسير المنان في معرفة حكم الصيام بعد منتصف شعبان

خلاصة القول: إن المسألة محلُّ خلافٍ قديمٍ بين أهل العلم، وقد ساق كلُّ فريقٍ ما رآه من الأدلة، ولعل الصواب في المسألة هو القول بعدم الكراهة مطلقًا، وبه قال الجمهور..."

  • التصنيفات: فقه الصيام - ملفات شهر شعبان -

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصوم بعد منتصف شهر شعبان، فقد أخرج الخمسة من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا انتصَف شعبان فلا تَصوموا».

 

وقد اختلف الفقهاءُ في حكم الصوم بعد منتصف شهر شعبان بناءً على اختلافهم في حكم هذا الحديث والعملِ به على قولين مشهورين: القول الأول: ذهَب الشافعية إلى كراهة الصوم أخذًا بالنهي الوارد، ومنهم مَن حرَّم ذلك، وهو قول شاذ اشتَهر عن ابن حزم الظاهري.

 

القول الثاني: ذهَب جمهور أهل العلم إلى جواز ذلك وعدم كراهته، لعدم صحة الخبر عندهم.

 

والراجح أن الصوم بعد منتصف شهر شعبان جائز مطلقًا لا كراهة فيه، وذلك للوجوه الآتية:

أولًا: أن هذا الحديث لا يَصِح من جهة الإسناد، وعلِته تفرُّد العلاء عن أبيه بهذا الحديث، وقد نبَّه الأئمة النقَّاد على ذلك أحمد والنسائي والخليلي وغيرهم، وقال الحافظ ابن رجب في اللطائف (260): وتكلَّم فيه مَن هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا: هو حديث منكرٌ، منهم عبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة، والأثرم، وقال الإمام أحمد: لم يَروِ العلاء أنكر منه، ورده بحديث «لا تَقدَّموا رمضان بصوم يوم أو يومين».

 

ثانيًا: أن في مَتنه نكارة ومخالفة لحديث أبي هريرة المخرج في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقدَّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليَصمْه»، فمنطوق الحديث يدل على النهي عن صوم ما قبل رمضان بيوم أو يومين إلا من كانت له عادة في الصوم. ويدل أيضًا بمفهومه على جواز صوم ما قبل ذلك في جميع الشهر، سواءً أوله أو آخره، ودلالة هذا الحديث مقدمة على حديث العلاء لصحة إسناده، وعدم الإختلاف في متنه، وهو حديث محفوظ، وهذا من قرائن ووسائل الترجيح المعتبرة حال التعارض عند أهل الأصول، ولهذا أعلَّه الإمام أحمد بهذا.

 

ثالثًا: قالت عائشة رضي الله عنها: (فما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استكمَل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثَرَ صيامًا منه في شعبان)؛ (متفق عليه) ، وفي رواية: (ما كان رسول الله يصوم في شهرٍ ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلًا، كان يصومه كلَّه)، وظاهرُ هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من جميع الشهر سواءً في أوله أو آخره، ولم يكن يفرِّق بين النصف الأول والنصف الثاني في الحكم، وهذا يُضعِّف حديث العلاء ويوهي متنه.

 

رابعًا: مما قد يشهَد لهذا أن ليلة النصف من شعبان ليس لها فضلٌ خاصٌّ، ولا مزية في الشرع، ولم يرتِّب الشارع عليها أحكامًا خاصة، ولم يثبُت في ذلك شيءٌ، فهذا المعنى يوجِب عدم توقيت النهي عن الصيام بدخولها جريًا على قاعدة الشارع، ولا معنى للتفريق بين النصف الأول والثاني من الشهر.

أما النهي عن الصوم قبل دخول رمضان، فلحِكَمٍ ظاهرةٍ؛ منها: تمييز النفل عن الفرض، ومنها ترك المكلف التشدَّد، والاحتياط في ابتداء العبادة، ولهذا نُهِيَ عن صوم يوم الشك، وبذلك يتبيَّن أن جمهور العلماء ذهبوا إلى تضعيف حديث النهي عن الصيام بعد نصف شعبان، وبناءً عليه قالوا: لا يُكره الصيام بعد نصف شعبان؛ قال الحافظ ابن حجر: (وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعًا بعد النصف من شعبان، وضعَّفوا الحديث الوارد فيه، وقال أحمد وابن معين: إنه منكر)؛ اهـ من فتح الباري، وممن ضعَّفه كذلك البيهقي والطحاوي.

 

وذكر ابن قدامة في المغني: أن الإمام أحمد قال عن هذا الحديث: (لَيْسَ هُوَ بِمَحْفُوظٍ، وَسَأَلْنَا عَنْهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ، فَلَمْ يُصَحِّحْهُ، وَلَمْ يُحَدِّثْنِي بِهِ، وَكَانَ يَتَوَقَّاهُ؛ قَالَ أَحْمَدُ: وَالْعَلاءُ ثِقَةٌ لا يُنْكَرُ مِنْ حَدِيثِهِ إلا هَذَا)؛ اهـ.

 

وخلاصة القول: إن المسألة محلُّ خلافٍ قديمٍ بين أهل العلم، وقد ساق كلُّ فريقٍ ما رآه من الأدلة، ولعل الصواب في المسألة هو القول بعدم الكراهة مطلقًا، وبه قال الجمهور؛ وذلك لأن الأحاديث التي استشَهد بها أصحابُ هذا القول منها ما هو مخرَّج في الصحيحين، بخلاف ما استدل به أصحاب القول بالكراهة، والجمع بين هذه الأحاديث فيه تعسُّف إن لم يكن متعذرًا، فينبغي العدول إلى الترجيح، والله أعلم.

 

وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

___________________________________________________
الكاتب: د. فهد بن ابراهيم الجمعة