السلوان للصبر الجميل عند البلاء
ففي هذه الدنيا التي طُبعت على كدَرٍ، والإنسان الذي خُلق في كبَد يُلاقي مشاقَّ الحياة، ونكدها وكدَّها وتعبها، فيقع عليه شيء من أنواع البلاء؛ شدةً وكربًا، أو همًّا وحزنًا، إما في صحته أو ماله، أو ولده أو زوجه، أو غير ذلك مما يحب...
الحمد لله رب العالمين، مجيب الداعين، ومُغيث المستغيثين، رحمان الدنيا والآخرة، والصلاة والسلام على خير البرية وأزكى البشرية؛ نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أما بعد عباد الله:
ففي هذه الدنيا التي طُبعت على كدَرٍ، والإنسان الذي خُلق في كبَد يُلاقي مشاقَّ الحياة، ونكدها وكدَّها وتعبها، فيقع عليه شيء من أنواع البلاء؛ شدةً وكربًا، أو همًّا وحزنًا، إما في صحته أو ماله، أو ولده أو زوجه، أو غير ذلك مما يحب، ويكره أن يُنال بأذًى أو سوء، وهذا هو حال هذه الدار الفانية، فيبحث جاهدًا عن أمر ينفِّس عنه هذا البلاء، ومهما بذل من أسباب، وسعى جاهدًا لرفع ما أصابه ولحِق به من كرب وهمٍّ وحزن، وبحث عن العزاء له فيما أصابه، فلن يجد سببًا دافعًا لما ألمَّ به، وسلوانًا وجبرًا لفؤاده؛ من أن يعتصم بالله تعالى وكتابه المبين، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد ورد فيهما إرشاد للمؤمنين عند وقوع البلاء من كرب أو همٍّ، أو حزن أو مرض، بالتعلق بربهم عز وجل، وبيان ما يجب على كل مؤمن ومؤمنة حيال ما يقع عليه مما يكره، ويسليه ويربط على قلبه؛ ليتجاوز محنته والشدة التي لحقت به بثبات وطمأنينة، فتنقلب معه المحنة إلى منحة، والبلاءُ إلى عطاء، ولا يكون ذلك إلا بحسن الصبر.
والصبر - أيها الفضلاء - نصف الدين؛ إذ الإيمان نصفان: صبرٌ وشكر، وهو على ثلاثة أقسام: صبر عن المعصية فلا يرتكبها، وصبر على الطاعة حتى يؤديها، وصبر على البلاء فلا يشكو ربه فيه، فالصبر عند وقوع البلاء إما أن يكون اضطرارًا، وإما أن يكون اختيارًا؛ وهو الممدوح، وهو مطلب كل موفَّق وساعٍ للخير، وراجٍ فضل ربه وكرمه، فالصبر الجميل هو الذي سأله يعقوب عليه السلام ربه عز وجل حين جاءه بنوه بقميص يوسف عليه دم كذب، وزعموا أن الذئب أكله؛ كما قال سبحانه: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]؛ قال الشيخ السعدي رحمه الله عن الصبر الجميل: "أي: صبرًا سالمًا من السخط والتشكي إلى الخلق، وأستعين الله على ذلك"، فالصبر الجميل هو الخالي من الجزَع؛ قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله: "ثلاث من الصبر؛ ألَّا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك"، فالدعاء وسؤال الله تعالى الصبرَ الجميل عند وقوع المصيبة والابتلاء عملُ الموفَّقين من عباد الله؛ كدعاء يعقوب عليه السلام؛ وقد أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها حين بلغها ما رُميت به في حادثة الإفك: "والله لا أجد لي ولكم مَثَلًا إلا أبا يوسف؛ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]"، وقد ذكر الله تعالى الصبر في كتابه المبين في نحوٍ من تسعين موضعًا، إما آمرًا به، أو مُثنيًا على أهله، أو آمرًا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر أهله، أو جعله شرطًا لحصول النصر والكفاية، أو مخبرًا أنه مع أهله.
فحُسن الصبر وجميله سبب لحصول كل خير في العاجل والآجل، ولا يتعارض الصبر الحسن عند وقوع البلاء مع بذل الأسباب المشروعة لرفعه، وأعظمها الدعاء، فهذا سبيل الأنبياء عليهم السلام والصالحين من هذه الأمة المباركة.
وقد ذكر العلماء عددًا من الأسباب التي تهدي وتعين على الصبر المحمود، والثبات حال المحن ووقوع البلاء، ووقت انتظار الفرَج، ومنهم الإمام ابن القيم رحمه الله، فقد ذكر عددًا من الأسباب إذا استحضرها المبتلى والمكروب كانت خير معين له - بعد توفيق الله تعالى - على الصبر الحسن والاحتساب الجميل فيما أصابه مما يكره، عندها تنقلب المحنة إلى منحة، والضر إلى خير في العاجل والآجل، ويسلو قلبه عن الشكوى للخلق.
وأول هذه الأسباب المعينة على حسن الصبر والثبات عند وقوع البلاء: استحضار حقيقة هذه الدنيا، وأنها دار ابتلاء وليست بدار جزاء؛ كما قال خالقها جل وعلا: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، والصبر الجميل على البلاء من حسن العمل؛ وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، فالابتلاء متحقق وقوعه في هذه الدار، ومن تأمل حال الأنبياء عليهم السلام وما نزل بهم من أنواع البلاء، مع عظم منزلتهم عند الله سبحانه، هان عليه ما يلقى من بلاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الناس أشد بلاءً؟ فقال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه»؛ (رواه الترمذي)، وسيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مليئة بالمنغِّصات والشدة والبلاء الذي نزل به، مع كرمه ومنزلته العالية عند ربه عز وجل، فتأمُّل ذلك مما يثبت النفس ويسليها.
ثانيًا: استحضار جزاء الصبر الحسن على البلاء وثوابه في الآخرة، فأعظم العطاء حين يكون بلا عدٍّ ولا حساب، وقد وعد الله تعالى به الصابرين؛ فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يَودُّ أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثوابَ، لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض»؛ (رواه الترمذي).
ثالثًا: استحضار تكفير البلاء والمصيبة للسيئات ومحوها لها عند حسن الصبر عليها؛ مصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلم من نصَب ولا وصَب، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذًى ولا غم، حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه»؛ (متفق عليه)، ويقول عليه الصلاة والسلام: «لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في نفسه وماله وولده، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة»؛ (رواه الإمام أحمد، والترمذي).
رابعًا: استحضار قدَر الله تعالى السابق بوقوع هذا الابتلاء، وأنه مقدَّر في أم الكتاب قبل أن نُخلق، وأن الجزع لا يزيد صاحبه إلا مزيدًا من الألم والحسرة؛ قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
خامسًا: استحضار حق الله تعالى على العبد في البلاء، والواجب عليه فيه؛ وهو الصبر والاحتساب، فالعبد مأمور بأداء حق الله وعبوديته فيما أصابه من ابتلاء، وإلا تضاعف عليه ما أصابه؛ إذ الصبر رجاء الأجر والثواب يخفِّف وقع الألم.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "نزلت بي شدة، وأكثرت من الدعاء أطلب الفرج، وتأخرت الإجابة، فانزعجت النفس وقلقت، فصِحت بها: ويلكِ، تأملي أمركِ، أمملوكةٌ أنتِ أم حرة مالكة؟ أمدبَّرة أنتِ أم مدبِّرة؟ أما علمتِ أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فإذا طلبتِ أغراضكِ، ولم تصبري على ما ينافي مرادكِ، فأين الابتلاء؟ وهل الابتلاء إلا عكس المقاصد؟ فافهمي معنى التكليف يهُن عليكِ ما عز، ويسهُل ما استصعب، ثم أنتِ مملوكة، والمملوك العاقل يطالب نفسه بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى، ثم أنتِ يا نفس تطلبين ما لا تعلمين عاقبته؛ فربما كان فيه ضرركِ، فالمدبِّر أعلم بالمصالح".
سادسًا: استحضار أن وقوع البلاء على العبد بسبب ذنوبه؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وهذا عام في كل بلاء صغير أو كبير، فيبادر إلى التوبة والإقلاع عن الذنوب، وينشغل بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع البلاء؛ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة".
سابعًا: أن يعلم العبد أن الله تعالى قد ارتضى له هذا البلاء الواقع، واختاره وقسمه له، وأن العبودية تقتضي رضا العبد بما رضِيَ له به سيده ومولاه.
ثامنًا: أن يعلم أن ما وقع عليه من بلاء هو دواء نافع ساقه الله تعالى إليه، فهو العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيَّأْهُ بسخطه وشكواه؛ فيذهب نفعه له.
تاسعًا: أن يعلم العبد أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية وزوال الألم ما لا يحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهية هذا الدواء ومرارته، فلينظر إلى حسن عاقبته؛ كما قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
عاشرًا: أن يعلم العبد أن المصيبة ما جاءت لتهلكه، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فإن صبر واحتسب، اصطفاه مولاه واجتباه، وإن سخط ولم يرضَ، أُقصِيَ وحُرم الدرجات العالية، فهي لا تنقشع إلا بأنواع الكرامة والاصطفاء للأول، أو الحرمان والخذلان للثاني.
الحادي عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه يربي عبده على السراء والضراء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله تعالى على اختلاف الأحوال، وأما عبدُ السراء فهو يعبد الله على حرف، إن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة وبلاء، انقلب على وجهه، فليس هذا من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فالابتلاء محك إيمان العبد ومعياره.
فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على أنواع البلاء، وكلما قوِيت أثمرت الصبر والرضاء والشكر، فنسأله تعالى أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنِّه وكرمه.
____________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف
- التصنيف: