على مكث

منذ 23 ساعة

فالقرآن الكريم تبيانٌ وبيان تامٌّ لكل ما يحتاجه الإنسان في مسيرته في الحياة الدنيا؛ من عقيدة صحيحة، وسلوك قويم، وشريعة محكَمة، فلا حجة بعده لمحتجٍّ، ولا عذر لمعتذرٍ، فلا عقيدة أو سلوك أو شريعة يرضاها الله إلا ما جاء فيه

على مكث

{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]، قوله تعالى: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: 106]؛ قال مجاهد: على تُؤَدَةٍ، وقال السعدي: "أي: على مَهَلٍ؛ ليتدبروه ويتفكروا في معانيه، ويستخرجوا علومه".

 

وقال مجاهد وابن عباس وابن جريج: {عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء: 106]: أي: على ترسُّلٍ في التلاوة وترتيل.

 

والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين، والتالين له؛ ليعرضوا أنفسهم عليه، ويقيسوا حجم التطابق بين ما يفعلون وما يقولون، وبين ما يريده منهم خالقهم جل وعلا، دون عجَلة، وهذا هو الهدف من قراءة القرآن؛ وهو تحصيل التدبر والعيش مع الآيات، والاستمتاع بها، وليس كثرة القراءة دون فهم ودون تحصيل فائدة، وحتى يتيسر لهم حفظه بسهولة، وحتى يتمكنوا من تطبيق تشريعاته وتوجيهاته تطبيقًا عمليًّا دقيقًا، وهكذا فِعل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لم يكن القرآن بالنسبة لهم متعة عقلية ونفسية فحسب، وإنما كان القرآن بجانب حبهم الصادق لقراءته وللاستماع إليه منهجًا لحياتهم، يطبِّقون أحكامه وأوامره، ونواهيَه وآدابه، في جميع أحوالهم الدينية والدنيوية.

 

قال أبو عبدالرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن، أنهم كانوا يستقرئون عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلَّموا عشر آياتٍ، لم يتركوها حتى يعملوا بما فيها؛ فتعلَّمنا القرآن والعمل جميعًا".

 

فالقرآن الكريم ليس كتابًا يُوضع في البيت للبركة فقط، بل لا بد أن نضعه في بيوتنا وقلوبنا، وأعمالنا ومدارسنا، ومعاهدنا ومصانعنا، وجميع مؤسساتنا؛ لأنه اشتمل على كل شيء، ففيه حل لجميع مشاكلنا؛ قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].

 

وقد قال الخليفة الأول: "لو ضاع مني عقال بعير، لوجدتُه في كتاب الله".

 

فالقرآن الكريم تبيانٌ وبيان تامٌّ لكل ما يحتاجه الإنسان في مسيرته في الحياة الدنيا؛ من عقيدة صحيحة، وسلوك قويم، وشريعة محكَمة، فلا حجة بعده لمحتجٍّ، ولا عذر لمعتذرٍ، فلا عقيدة أو سلوك أو شريعة يرضاها الله إلا ما جاء فيه، ولا صلاح للفرد والجماعة إلا بهذه العقيدة والعبادة والسلوك، والشرع والحُكم الإلهي التام الكامل المنزَّه عن الشبهات والهوى؛ فالله سبحانه الذي خلق الإنسان، وهو من يُبين له ذلك وحده؛ ففيه بيان الأصول والعقائد والقواعد لكل شيء.

 

وكيف نصِل لتدبُّر القرآن؟

سُئل الشيخ السعدي رحمه الله: كيف أصِل لتدبر القرآن؟ قال: "لا تزال تقرأ، ثم تقرأ، ثم تقرأ، حتى يفتح الله في قلبك للتدبر".

 

ويقول الشيخ ابن باز رحمه الله: "فالمشروع للمؤمن عند التلاوة - وهكذا المؤمنة - التدبر والتعقل والتفهم، فمعناه: تفهم الآية، يتدبرها يعني: يتعقلها، ما هو المراد، أن يتعقل ويتفهم ما هو المراد من قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، من قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، من قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، من قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وغير ذلك".

 

وهذه بعض خطوات تُعين على التدبُّر والتفهُّم لكلام الله:

1- القرب مما يحبه الله والامتثال لأمره، والابتعاد عما نهى عنه.

2- استشعار عظمة القرآن، وأنه رسائلُ أرسلها الله إلى عباده؛ لهدايتهم لأفضل السُّبُل.

3- أن يحسب المتدبر أنه هو المخاطب بالقرآن الكريم؛ قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائلَ من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار".

4- معرفة أن القرآن لا تنقضي عجائبه، فلا يُقتصر على ما ورد في تفسير الآية، بل يُعمِل الفكر والنظر، ويتأمل في الآيات وما تدل عليه.

5- تكرار الآية وترديدها، والعودة المتجددة للآيات، فذلك له أثر عظيم في حضور القلب، واستحضار الآيات والتأثر بها.

 

6- التفاعل مع الآيات بالسؤال والتعوُّذ والاستغفار ونحوه، عند مناسبة ذلك، فذلك يُعين على حضور القلب عند التلاوة.

 

7- القراءة بتأنٍّ وهدوء، والتفاعل مع الآيات بحضور القلب، وإلقاء السمع، وإمعان النظر، وإعمال العقل، فلا يكون همه الإكثار من القراءة بدون تأمل وفهم لِما يقرؤه.

 

8- الاطلاع على ما ورد في تفسير الآية، والعودة إلى فهم السلف للآية.

 

9- أن يربط الإنسان بين آيات القرآن والواقع الذي يعيشه، ويجعل من الآيات منطلقًا لإصلاح حياته وواقعه، وميزانًا لمن حوله وما يحيط به.

 

10- التأمل في سياق الآية، والسياق يتكون من السباق واللحاق، فالسباق هو ما قبل الآية، واللحاق هو ما بعد الآية.

 

نسأل الله أن يوفِّقنا لتعلُّم كتابه وفَهمه، وتدبُّره وتطبيقه في حياتنا، وتعليمه أبناءنا، والله أعلم،

 

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.

________________________________________________
الكاتب: نورة سليمان عبدالله

  • 0
  • 0
  • 31

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً