وقفات مع حديث: (كم أجعل لك من صلاتي؟)

منذ 23 ساعة

الصلاة على النبي ﷺ فضيلة فاضلة، وسُنة مؤكدة، وعبادة مقرِّبة، لا يشك في ذلك شاكٌّ، وَرَدَ الأمر بها في القرآن والسنة، واعتنى الصحابة بالسؤال عن كيفيتها، كما ورد في التصريح بفضلها أحاديث كثيرة

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة فاضلة، وسُنة مؤكدة، وعبادة مقرِّبة، لا يشك في ذلك شاكٌّ، وَرَدَ الأمر بها في القرآن والسنة، واعتنى الصحابة بالسؤال عن كيفيتها، كما ورد في التصريح بفضلها أحاديث كثيرة، ومن ثَمَّ أفردها العلماء بالتأليف منذ زمن بعيد؛ من أشهر المؤلفات في ذلك كتاب: (جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام)، للإمام ابن القيم رحمه الله.

 

وفي السطور التالية وقفة مع حديث من الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، اختلف العلماء في الحكم على سنده، وفي المقصود بألفاظه.

 

أولًا: نص الحديث:

روى الإمام الترمذيُّ عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: ((قلت: يا رسول الله، إني أُكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: «ما شئت»، قلت: الرُّبُعَ؟ قال: «ما شئت، وإن زدت فهو خير لك»، قلت: النصف؟ قال: «ما شئت، وإن زدت فهو خير لك»، قلت: الثُّلُثَين؟ قال: «ما شئت، وإن زدت فهو خير لك»، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: «إذًا تُكفى همك، ويُغفر لك ذنبك».

 

ثانيًا: معنى الصلاة في الحديث:

قال الشوكاني: "المراد بالصلاة هنا الدعاء الذي من جملته الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس المراد الصلاة ذات الأذكار والأركان ... فكأنه قال: أجعل كل دعاء أردتُ أن أدعو به لنفسي لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذًا تُكفى همك ...»؛ إلخ؛ أي: إذا جعلت مكان الدعاء لنفسك الدعاء لي حصلت لك المغفرة، وكفاية المهمات"؛ (الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني 4/ 2022).

 

وقال ابن حجر الهيتمي: "المراد بالصلاة: الدعاء، والمعنى: إن لي زمانًا أدعو فيه لنفسي، فكم أصرف من ذلك الزمان للدعاء لك"؛ [الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي، ص: 12].

 

ثالثًا: المعاني التي يحتملها الحديث:

سُئل الشيخ ابن عثيمين عن المقصود بالحديث المذكور، فأجاب: "هناك احتمالان: الاحتمال الأول: وإليه ذهب شيخ الإسلام فيما أظن، أن الرسول كان يعلم له دعاءً معينًا، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجعل دعاءً معينًا كله للرسول عليه الصلاة والسلام، والوجه الثاني: أن يُقال: المراد أنك تشرك النبي عليه الصلاة والسلام في كل دعاء تدعوه، وإلا فإن من المعلوم أن الإنسان لو أخذ بظاهر الحديث، لكان لا يقول: رب اغفر لي، ولا يقول: اللهم ارحمني، ولا يقول: اللهم ارزقني، بل يقول: اللهم صلِّ على محمد، ويُكفى الهم، وهذا خلاف ما جاءت به الشريعة، فالإنسان مأمور أن يدعو لنفسه في السجود، وفي الجلسة بين السجدتين، وفي دعاء الاستفتاح على أحد الوجوه التي وردت فيه، فهذا يُحمل على المعنيين: إما أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم أنه يدعو بدعاء معين، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجعله للرسول، وإما أن يشركه معه في دعائه، فكأنه قال: صلاتي كلها؛ يعني: كلما دعوت لنفسي صليت عليك"؛ (لقاء الباب المفتوح (148/ 21)).

 

رابعًا: إسناد الحديث بين التصحيح والتضعيف:

الحديث أخرجه الترمذي في سننه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي بعض النسخ: "هذا حديث حسن"، وأخرجه الحاكم، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه"، ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في فتح الباري: "أخرجه أحمد وغيره بسند حسن"، وحسنه المنذري في (الترغيب والترهيب)، وصححه الألباني وابن باز وابن عثيمين، وحسنه محققو المسند، ومحققو جامع الأصول.

 

وفي المقابل، ضعَّفه جمع من العلماء، وحجتهم في ذلك أن في إسناده راويًا اسمه: عبدالله بن محمد بن عقيل، أكثرُ كلام أئمة الحديث على تضعيفه وعدم الاحتجاج بحديثه، فقد ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة؛ وقال عنه: "كان منكرَ الحديث، لا يحتجون بحديثه، وكان كثير العلم"، وقال علي بن المديني: "لم يروِ عنه مالك بن أنس، ولا يحيى بن سعيد القطان"، قال يعقوب: "وهذان ممن ينتقي الرجال"، وعن علي بن المديني: "لم يُدخل مالك في كتبه ابن عقيل"، وعن أحمد بن حنبل: "ابن عقيل منكر الحديث"؛ [انظر: تهذيب الكمال للحافظ المزي (16/ 80)، وتهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (6/ 13)].

 

وقال محقق المنتخب من مسند عبد بن حميد (الشيخ: مصطفى العدوي) (1/ 181): "سنده ضعيف، في سنده عبدالله بن محمد بن عقيل، متكلم فيه كثيرًا، وهو إلى الضعف أقرب".

 

خامسًا: دراسات معاصرة للحديث المذكور:

الدراسة الأولى: نشرت مجلة الدراسات الإسلامية، المجلد الثلاثون، العدد الأول، دراسة للباحث صالح بن فريح البهلال، بعنوان: "حديث أبي بن كعب في سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم: ((كم أجعل لك من صلاتي؟)) دراسة حديثية"، ومن أهم النتائج التي توصل إليها الباحث:

    • أن حديث أُبي بن كعب إسناده ضعيف، وقد ورد للحديث شواهد لا تخلو من ضعف.

     

      وأن أهل العلم المصححين له اختلفوا في كيفية جعل الدعاء صلاة؛ فمنهم من قال: إن المراد هو جعل الدعاء كله صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إن هذا كان دعاء كان يخص به أُبيٌّ نفسه، ومنهم من قال: بإشراك النبي صلى الله عليه وسلم في كل دعاء، ومنهم من قال: إنه يشرع لمن يدعو عقب قراءته أن يقول: اللهم اجعل ثواب ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم.

       

      ورأيُ الباحث أن هذه التخريجات لا يسلم شيء منها من التعقب.

       

      ويميل الباحث إلى أن الحديث ضعيف؛ نظرًا لمعارضته النصوص المتواترة في حث المسلم على الدعاء لنفسه.

       

      أما أهم التوصيات، فهي ضرورة نظر الناقد إلى متن الحديث كما ينظر إلى سنده، فهذا من أصول النقد العلمي الذي سار عليه الأئمة النقاد.

       

      الدراسة الثانية: نشرت مجلة كلية أصول الدين والدعوة بأسيوط، المجلد الحادي والأربعون، العدد الثالث، دراسة للباحث ياسر بن عبدالعزيز الربيع، بعنوان: "مشكل حديث أبي بن كعب رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"، وقد خلص الباحث إلى نتائجَ؛ منها:

      أن حديث أبي بن كعب رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رُوي عن عدد من الصحابة، ولا يثبت منها شيء سوى حديث أبي رضي الله عنه على ضعف فيه، وحديث أبي رضي الله عنه رواه سفيان الثوري عن محمد بن عبدالله بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، تفرد به محمد بن عبدالله بن عقيل، ومحمد بن عبدالله بن عقيل وإن كان صدوقًا، إلا إنه لا يحتمل تفرده أو مخالفته، وهذا الحديث مما تفرد به كما تقدم.

       

      أوهَمَ ظاهر الحديث الإشكال في معنى صلاة أبي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المراد بها، وسلك أهل العلم رحمهم الله مسلكَين في الجواب عن هذا الإشكال: إعلال الحديث وردُّه، وقبول الحديث وتأويله بما يرفع الإشكال؛ وذلك بأن معنى صلاة أبي رضي الله عنه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة القولية – الدعاء - وليست الصلاة ذات الركوع والسجود، وأن المعنى الأقرب من معاني جعل الدعاء كله صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أن الحكم خاص بأبي بن كعب رضي الله عنه، والله أعلم.

       

      سادسًا: الخلاصة:

      الذي يظهر لي - والله أعلم - أن الحديث المذكور ضعيف من جهة الإسناد، ومن جهة المتن فظاهره يتعارض مع النصوص القطعية التي فيها الأمر بالدعاء والإكثار منه في كل وقت وحين، والله تعالى أعلم.

      أحمد عبد المجيد مكي

      حاصل على درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية

      • 1
      • 0
      • 61

      هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

      نعم أقرر لاحقاً