بناء الأسرة في الإسلام
إن من أعظم النِّعَم التي ينعم الله بها على عِباده نعمة الأولاد، فهم - إذا صلحوا - عملٌ صالح يستمر للأبوين حتى بعد موتهما، فقد قال النَّبي ﷺ: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عملُه إلَّا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يَدعو له»
عباد الله، إن من أعظم النِّعَم التي ينعم الله بها على عِباده نعمة الأولاد، فهم - إذا صلحوا - عملٌ صالح يستمر للأبوين حتى بعد موتهما، فقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عملُه إلَّا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يَدعو له»، ومع صلاحهم ينال الأبوان برَّهم، وطاعتهم، ونفعهم، وهكذا تكون نِعمة الأولاد، تعود على الأبوين بالخير في الدنيا والآخرة، وهم زينة الحياة الدنيا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، والأولاد المقصود بهم الأبناء والبنات.
هم والله أمانة؛ لأن الأمر من الملك الجبار جاء بوجوب وقاية الأولاد من النار، وأن يبعدهم المسؤول عنهم عن كلِّ طريق يوصل إلى جهنم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، قال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: عَلِّمُوهُمْ، وَأَدِّبُوهُمْ.
وجاء البيان من رسول ربِّ العالمين بأنَّ المرء يُسأل عن رعيَّته يوم الدين، فبأي شيء يجيب مَن ضيَّع أولاده؟ وبماذا سينطق مَن خان الأمانة؟ يقول عليه الصلاة والسلام: «كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته...، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زَوجها ومسؤولة عن رعيَّتها»، فتربية الأولاد ورعايتهم مسؤوليَّة قد يتسبَّب إهمالها وعدم حفظها في مَصير مؤلم ينتظر الوالدين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما مِن عبدٍ يَسترعيه الله رعيَّةً، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته، إلا حرَّم الله عليه الجنَّة».
ومما يُربَّى عليه الأبناء والبنات مراقبة الله عز وجل: لقد ركز منهج الإسلام في التربية على تنمية جانب المراقبة لله عزَّ وجلَّ، قال الله تعالى عن لقمان الذي أرشد ولدَه إلى هذه المراقبة: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
ومما يُربَّى عليه الأبناء عمود الإسلام الصلاة، قال الله تعالى لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين تبعًا له {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، وأثنى الله على نبيِّه إسماعيل عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55].
وعَنْ عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
ومما يُربَّى عليه الأبناء القدوة الحسنة، فقد كثرت القدوات السيئة من الحمقى وأصحاب الأهواء وجامِعِي الأموال.
ولذا كان المنهجُ الإلهيُّ - في إصلاحِ البشريَّةِ وهدايتِها إلى طريقِ الحقِّ - مُعتمِدًا على وجودِ القُدْوَةِ التي تحوِّل تعاليمَ ومبادئَ الشريعةِ إلى سلوكٍ عمليٍّ، وحقيقةٍ واقعةٍ أمام البشر جميعًا؛ فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هو القدوةَ التي تترجم المنهج الإسلامي إلى حقيقة وواقع، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ولما سُئِلَت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها - عن خُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان خُلُقُهُ القُرآنَ!.
ومما يعين على التربية الدعاء للأولاد بالصَّلاح والهداية والخير، فها هو الخليل إبراهيم عليه السلام يدعو فيقول: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقال أيضًا: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، وها هم عباد الرَّحمن يدْعون بأن يهب الله لهم ما تقر به أعينهم من الذريَّة الصالحة: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
وإن من أعظم ما يقدم الأب لابنه تربيته على الدين وصالح الأخلاق، فهو بذلك يهيِّئ المجتمع لصلاح أفراده، فإذا صلح الأفراد صلح المجتمع، يقدم للمجتمع أبناء وبناتًا صالحين للزواج مقدرين للحياة الزوجية، ويجب عليه توجيه الأولاد وتعريفهم بأن العلاقات الزوجية المستقرة والسعيدة تقوم على تقوى الله، وحسن المعاشرة، وتبادل مشاعر الحب والتقدير والاحترام، وغض الطرف، وتقدير أهل الزوجين، وجاء بيان ذلك في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «.... وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»، وعلى الوالدين تربية المقبلين على الزواج من الأولاد، وحثهم للتركيز على الإيجابيات، وغض الطرف عن السلبيات.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ أي (لا يُبغِض) مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»، أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ».
إِنَّ الوَلَدَ الصَّالِحَ من بنين وبنات لَمِنْ خَيرِ مَا يَدَّخِرُهُ المَرْءُ لِنَفْسِهِ بعدَ وَفَاتِهِ، فَأَولَادُ الرجُلِ مِن كَسْبِهِ، وَعَمَلُهُم الصَّالِحُ مِنْ عَمَلِهِ إِنْ كَانَ بِسَبَبِهِ، وَدُعَاؤُهُم الصَّالِحُ زَادٌ لَهُ فِي قَبْرِه.
ودعاء الوالد لولده من الدعاء المستجاب الذي يُرجى أن يتحقَّق بإذن الله عز وجل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شكَّ فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد، ودعوة المسافر».
عباد الله، إن صلاح الأب في نفسه له أثر عظيم في صلاح الأبناء، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]، قال بعض المفسرين: فِيهِ إِرْشَادٌ لِلآبَاءِ الذِينَ يَخْشَونَ تَرْكَ ذُرِّيةٍ ضِعَافٍ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ في سَائِرِ شُؤُوْنِهِم حَتَّى تُحْفَظَ أَبْنَاؤُهُم وَتُغَاثَ بِالعِنَايَةِ مِنْهُ تَعَالى، وَفِيه تَهْدِيدٌ بِضَيَاعِ أَوْلَادِهِمْ إِنْ فَقَدُوا تَقْوَى اللهِ تَعَالى، وإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَقَوَى الأُصُولِ تَحْفَظُ الفُرُوعَ؛ ا هـ.
وقَالَ تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ -رحمه الله-: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يُحفَظُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَتَشْمَلُ بَرَكَةُ عِبَادَتِهِ لَهم فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، بِشَفَاعَتِهِ فِيْهِم، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِم إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الجَنَّة، لِتَقَرَّ عَيْنُهُ بِهِم، كَمَا جَاءَ فِي القُرْآنِ وَوَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ أنَّه الأَبُ السَّابِعُ، وقِيلَ: العَاشِرُ. وَأَيًّا كَانَ، فَفِي الآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الآبَاءِ يُفِيدُ العِنَايَةَ بِالأَبْنَاءِ؛ ا هـ.
وَعَن ابنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُمَا صَلَاحٌ؛ ا هـ.
ويقول الإِمَامُ العَادِلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ -رحمه الله-: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَمُوتُ إِلَّا حَفِظَهُ اللَّهُ فِي عَقِبِهِ وَعَقِبِ عَقِبِهِ؛ ا هـ.
وصلوا رحمكم الله.
___________________________________________
الكاتب: رافع العنزي
- التصنيف: