مضمار الصالحين
لقد كان الصالحون يتلذذون بالليل وقدومه، فلا تَسَلْ عن فرحهم إذا ظفِروا به، الليل فيه يبُثُّ المذنبون شكايتهم إلى ربهم، يستنزلون رحمته ومغفرته، فكم من مذنب كان الليل دليله للتوبة والصلاح
افتخر النهار على الليل قائلًا: أنا وقت النشاط والعمل، والبناء والنماء، بل أنا الحياة على الحقيقة، في ساعاتي انتصر جند الله على مر العصور، فسائِلْ عني طلائعَ الفتوح، وبشائر النصر، وبي أقسم الله في كتابه؛ فقال: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2]، اغترَّ النهار بصمت الليل وسكونه، فتمادى في الفخر وحقَّره قائلًا: أمَّا أنت فزمانُ الكسل والخمول والدَّعَة، فأوقاتك تُعمر بالنائمين الخاملين، أنت بيت الذُّعر والخوف، فبك يفرح اللصوص وأرباب الجرائم.
انتفض الليل من سكونه ونطق: أنا زمن السكون والراحة، جعلني الله سكنًا ولباسًا لعباده، أنا مأوى العباد وأرباب الإحسان، فلهم معي أحاديثُ وأسمار، كم فرِح بي الأنبياء والأتقياء والصالحون! وكم كان سوادي سترًا لمسرى الأنبياء أحرسهم من أعين الأعداء! أسحاري لذة العارفين، وسلوة الخائفين، وملاذ المذنبين، أقسم الله بي في القرآن، بل سُمِّيت بي سورة من سوره، في ثلثي الأخير ينزل الرب جل وعلا.
طأطأ النهار رأسه خجلًا وحياءً، واتجه إلى الليل يقبِّل رأسه، ويعترف له بالفضل.
إنه الليل مِضمار الصالحين، فيه يصُفُّ أهل الحب الصادق أقدامهم بين يدي سيدهم جلَّ ذِكره، فيه تكون المناجاة والضراعة والابتهال، والمسارَّة بالعمل، وفيه أزمنة شريفة، ففي ليلِه نزل القرآن، وفي كل ليلة منه ينزل الرب إلى السماء الدنيا جل وعز، فتُفتح أبواب الرحمات، وتُجاب الدعوات، وتُقال العثرات:
قلت لليل: هل بجوفك سر
عابق بالحديث والأسرارِ
قال لي: لم ألقَ في حياتي حديثًا
كحديث السُّمَّار في الأسحارِ
الليل فيه يبُثُّ المذنبون شكايتهم إلى ربهم، يستنزلون رحمته ومغفرته، فكم من مذنب كان الليل دليله للتوبة والصلاح، وخاصة ليالي رمضان التي تحفها الرحمات!
الليل له مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحين والأخيار من بعدهم قصصٌ وأخبار؛ يقول عز وجل لرسوله ومصطفاه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، فامتثل الحبيب عليه الصلاة والسلام أمْرَ ربه، فقام وأطال في القيام، وبكى وأطال في البكاء؛ يقول الله عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20].
وتصف عائشة رضي الله عنها حالَ أبيها رضي الله عنه فتقول: ((ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره، وبرز، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكَّاء، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن))؛ (رواه البخاري).
وعن أسلمَ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يصلي ما شاء الله، حتى إذا كان آخر الليل يعظ أهله، يقول: الصلاةَ الصلاةَ، ويتلو: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]؛ (رواه أبو داود).
قال الحافظ ابن كثير عن ليل عمر: "كان يصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيته، فلا يزال يصلي إلى الفجر".
لقد كان الصالحون يتلذذون بالليل وقدومه، فلا تَسَلْ عن فرحهم إذا ظفِروا به، لسان حالهم: (حبيب جاء على فاقة)، وقال بعض السلف: "إني لأفرح بالليل حين يُقبل؛ لِما يلتذ به عيشي، وتقر به عيني من مناجاة من أُحب، وخلوتي بخدمته، والتذلل بين يديه"، قيل للحسن: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: "لأنهم خلَوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره"، وقيل لحسان بن سنان رحمه الله: ما تشتهي؟ قال: "ليلة بعيدة الطرفين أُحيي ما بين طرفيها"، وقال بعض العلماء: "لذة المناجاة ليست من الدنيا، إنما هي من الجنة، أظهرها الله تعالى لأوليائه، لا يجدها سواهم"، وقال ابن المنكدر رحمه الله: "ما بقِيَ من لذات الدنيا إلا ثلاثٌ: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في الجماعة".
___________________________________________
الكاتب: أ. شائع محمد الغبيشي
- التصنيف: