الغيبة

منذ 2025-04-18

المغتاب يَخسر حسناتِه مِن حيث لا يَشعر، ويُعطيها رغمًا عن أنْفِه إلى مَن يغتابه، وهي تعتبر في الوقت نفسِه للطَّرَف الآخر رِبحًا؛ حيث يَجِدُ جَزاءَها يوم القيامة حسناتٍ تُثقِّل ميزانَه، أو سيئاتٍ تُطْرَحُ عنه.

الغيبة

معاشرَ الكرام، دينُ الله كاملٌ شاملٌ؛ تضمَّنَ حقائقَ العقيدة والشريعة، والتوحيد والعبادة، والمعاملة والعادة، يخاطِب العقلَ والقلب، والحِسَّ والنفْس، في مبادئ التشريع والأخلاق، والتربية والسلوك.

 

دينُنا شرَع أمـورًا، وأكَّد عليها، ورغَّب فيها، ونهى عن أشياء، وحرَّمها، وأغلَظ فيها.

 

إخوةَ الإسلام:

كبيرةٌ من كبائر الذنوب، جاء في الترهيب منها قرآنٌ وسنة، منتشرةٌ ولا يَسْلَم منها إلا مَن رحِمَه الله - تعالى - يَرتكبها الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والمتعلِّم والجاهل، وربما تكرَّر ارتكابُها في اليوم مِررًا.

 

إنها ذِكْر العَيب بظَهْر الغَيب، إنها الغِيبة يا عبادَ الله.

 

يقول ربُّنا - عزَّ وجلَّ - في مُحكَم تنْزيله: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

 

يقول - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه مسلم: «أتدْرُون ما الغِيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذِكْرُك أخاك بما يَكْرَه»، قِيل: أفرأيتَ إنْ كان في أخي ما أقول؟ قال: «إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه فقد بَهته»؛ أي: افتريتَ عليه الكذب.

 

الغِيبة تشمل كلَّ ما يُفهم منه مقصودُ الذَّمِّ، سواءٌ أكان بكلام، أمْ بغَمْزٍ، أم إشارة، أم كتابة؛ والقَلَم أحَد اللِّسانين.

 

الغيبة تكون في انتقاص الرجل في دِينه أو خَلْقه أو خُلُقه، أوفي حسَبِه أو نسبه، والمرء قد يَجول في خاطره الكلام، لا يَدري أهو ممَّا يَكرهه الغائب فيكون حرامًا، أم مما لا يكرهه فيكون مباحًا، ولا شكَّ أن السَّلامة في اجتنابه، ولعلَّ هذا سببُ مقولة الفُضيل - رحمه الله -: "أشدُّ الوَرَع في اللِّسان".

 

المغتاب يَخسر حسناتِه مِن حيث لا يَشعر، ويُعطيها رغمًا عن أنْفِه إلى مَن يغتابه، وهي تعتبر في الوقت نفسِه للطَّرَف الآخر رِبحًا؛ حيث يَجِدُ جَزاءَها يوم القيامة حسناتٍ تُثقِّل ميزانَه، أو سيئاتٍ تُطْرَحُ عنه.

 

وهذه عاقبةُ مَن يَغتاب المسلمين، ويَتَطاول في أعراضهم وينهشُها، أو يظلِمُهم أو يأكُل حقوقهم؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «أتدُرون مَن المفْلِس؟»، قالوا: المفلس فينا مَن لا درهمَ له ولا متاع، فقال: «المفلس مِن أمَّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتَمَ هذا، وقَذف هذا، وضرب هذا، وسفَكَ دمَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يُقْضَى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فَطُرِحَتْ عليه، ثم طرح في النار»؛ (رواه مسلم).

 

قيل لبعض الصالحين: لقد وَقَع فيك فلانٌ، حتى أشفَقْنا عليك ورَحِمناك، قال: عليه فأشفقوا، وإيَّاه فارحَموا.

 

أيها الإخوة:

والمستَمِع شريكٌ للمغتاب، ولا يَنجو مِن الإثْم إلا أن يُنكِر بلسانه، فإنْ خاف فبِقلبه، وإن قَدر على القيام فليقم، أو لِيَقطع الكلام بكلام آخر.

 

ناهيك - عِياذًا بالله - عمَّن يستمع ويُصغي على سبيل التعجُّب لِيَزيد من نشاط المغتاب.

 

مَعاشر الكرام:

لقد كان لأهل الخير مَسالِكُ وطرقٌ متنوعة، عند وقوع الغيبة في مجلسهم؛ فمِنهم مَن يَستغفر إذا سَمِع مَن يغتاب، ومنهم مَن يصرِّح بالانكفاف عن الغيبة، ومنهم من يُدِير عجلة الحديث إلى موضوع آخر، كأنْ يسأل عن شيء، أو يخْبِر عن حدَثٍ، أو قصة، أو غير ذلك، كان ميمونُ بن سياه إذا اغتاب أحدٌ أحدًا عنده، يَنهاه؛ فإن انتهى، وإلا قام من المجلس.

 

وليت مَن يقع في عيب الناس يَعْدِل عن الفضيحة، ويَسلُك النصيحة!

 

فإنَّ مما يُعِين المسْلِمَ ويَردعه عن غيبة مسلم، استحضارَ أنَّ هذا مِثْلُ أكْل لَحْمه ميتًا: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، واستحضارَ أنَّ مَن اغتبتَه سيأخذ منك ما هو أغلى مِن الذهب والفضة.

 

ومما يعين أيضًا على ترْك الغِيبة مجالسةُ ومسامرةُ عَفِيفِي الألْسِنة، ومِن أعْجب ما سمعتُ ما فعَلَه بعضُ السلف مِن تربيته لنفسه على ترْك الغيبة بالصَّدَقة كلما وقع فيها؛ إذ النفْس مجبولةٌ على حبِّ المال.

 

ومما يُعِين على مجانبة الغيبة تذكُّرُ النصوص التي جاءت في شأنها، ومن ذلك ما جاء عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لمَّا عُرِج بي مررتُ بقوم لهم أظفار مِن نُحاس يَخْمِشون بها وجوهَهم وصدورهم، فقلتُ: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقَعون في أعراضهم»؛ (رواه أحمد وأبو داود، وصحَّحه الألباني).

 

وإنَّ أعْظمَ ما يُعين على ترْكها التذكيرُ والإنكار، وقد مرَّ بنا عددٌ مِن الطُّرق التي تنفع في ذلك.

 

يقول - عليه الصلاة والسلام -: «مَن ردَّ عن عِرض أخيه، ردَّ الله عن وجهه النارَ يوم القيامة»؛ (رواه الترمذي وقال: "حديث حسن").

 

وقد يقع المسلم في الخطأ والغِيبة، لكنَّ الواجب الاستغفارُ والتوبة: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ، هذه عائشة - رضي الله عنها - قالت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "حسْبُك مِن صفية كذا وكذا" قال بعضُ الرواة: تَعني قصيرةً، فقال: «لقد قلْتِ كلمةً لو مُزِجت بماء البحر لمَزَجتْه»!

 

فانظر عِظَم الغِيبة وإن قلَّت؛ إذ لو كانت هذه الكلمة مادةً وأُلقيَتْ في البحر، لأثَّرتْ به وغيَّرت منه.

 

وختامًا عبادَ الله، تُباح الغيبة - إذا كانت لغرضٍ صحيح شرعيٍّ، لا يمكن الوصولُ إليه إلا بها، وهو ستةُ أسباب جُمعت بقول أحدهم:

الْقَدْحُ لَيْسَ بِغِيبَةٍ فِي سِتَّـــــةٍ   **   مُتَظَلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَــــــذِّرِ 

وَمُجَاهِرٍ فِسْقًا وَمُسْتَفْتٍ وَمَنْ   **   طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي إِزَالَةِ مُنْكَرِ 

 

اللهم احفظ ألسنتنا عن الحرام، ووفِّقنا للتوبة عند الزَّلل والآثام، واستغفروا الله؛ إنه كان غفارًا.

 

ثم صلُّوا وسلِّموا على النبي الكريم.

_____________________________________________________

الكاتب: حسام بن عبدالعزيز الجبرين

  • 1
  • 0
  • 120

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً