إصلاح القلب في الكتاب والسنة
«ألاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وهيَ القَلْبُ»
الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
الحمد لله الذي أصلح بلطفه الصالحين، وخلَعَ عليهم خِلَعَ الإيمانِ واليقين، وحفظهم بعنايته مما يَقْبُحُ ويَشين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مالكِ يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبيُّ الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنَّ مدار التقوى على إصلاح القلب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ألاَ وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وهيَ القَلْبُ» [متفق على صحته] .
فقلبكَ يا ابن آدم! أصلُ صلاحك وفسادِك، سهلُ التقلُّب، قال أبو موسى رضي الله عنه: «(إنما سُمِّي القلبُ لتقلُّبه، ومَثَلُ القلبِ مَثَلُ ريشةٍ في فلاةٍ، ألْجَأَتُهُ الريحُ إلى شَجَرةٍ، فالريحُ تصفِقُهَا ظَهْرَاً لبطنٍ)» [رواه ابن المبارك في الزهد] .
لذا كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يَحُثُّ على الاعتناءِ به أشدَّ العناية، ومن ذلك: أن أكثرَ دُعائه صلى الله عليه وسلم: «(يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثبِّتْ قَلْبي على دِينِكَ)، فقالت أُمُّ سلمة رضي الله عنها: (يا رسُولَ اللهِ: ما لأَكْثَرِ دُعَائِكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثبِّتْ قَلْبي على دِينِكَ؟ قالَ: يا أُمَّ سَلَمَةَ إنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إلاَّ وقَلْبُهُ بينَ أُصْبُعَيْنِ مِن أَصَابعِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ)» [رواه الترمذي وحسَّنه] .
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «إنَّ قُلُوبَ بَني آدَمَ كُلَّهَا بينَ إِصْبَعَيْنِ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»، ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا علَى طاعَتِكَ» [رواه مسلم] .
فمن صرف الله قلبه على طاعته فهو القلب الحي السليم، قال تعالى: {﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾} [الشعراء: 88، 89]، ومن أزاغ الله قلبه كان قلبُه ميِّتاً، لا يعرف ربَّه، ولا يعبُده، فهو عبدٌ لشهواته، إنْ أحبَّ أحبَّ لهواه، وإنْ أبغضَ أبغضَ لهواه، قال الله تبارك وتعالى: {﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾} [البقرة: 7]، وبين هذا وذاك القلب المريض، دائرٌ بين الحياة والموت، قال تعالى: ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [الحج: 53].
أيها المسلمون: إن هذه الفتن التي تعرض على القلوب، من فتن الشهوات والشبهات، وفتن الغيِّ والضلال، وفتن المعاصي والبدع، وفتن الظلم والجهل، هي سبب أمراض القلوب، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «(تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّياً لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)» [رواه مسلم] .
أي: أن فتن الشهوات والشبهات لا تزالُ تَظهرُ على القلوب فتنةً بعد أُخرى، كما يُنسَجُ الحصيرُ عوداً عوداً، فإذا خالطت القلب أُشربَ حُبَّها فدَخلت فيه دُخولاً تاماً، ولَزِمَها لُزوماً كاملاً، وحلَّت منه مَحَلَّ الشرابِ في نفوذ المسامِّ وتنفيذِ الْمَرامِ فأثَّرت فيه، وأيُّ قلبٍ أنكرَها وردَّ الفتنَ وامتنعَ من قبولها نُكتَ فيه نُكتةٌ بيضاءُ فأُثبتت ودامت واستمرَّت، فتصيرُ القلوب صنفين.
وما أصاب الأُمةَ من الشرور والبلاء والبدع والمنكرات إلا بسبب أمراض القلوب، قال ابن القيم: (قالَ ثابتُ بْنُ قُرَّةَ: «راحَةُ الجِسْمِ في قِلَّةِ الطَّعَامِ، وراحَةُ الرُّوحِ في قِلَّةِ الآثامِ، ورَاحَةُ اللِّسَانِ في قِلَّةِ الْكَلامِ»، والذُّنُوبُ لِلْقَلْبِ بمَنْزِلَةِ السُّمُومِ، إِنْ لَمْ تُهْلِكْهُ أَضْعَفَتْهُ ولا بُدَّ، وإذا ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَةِ الأَمْرَاضِ، قَالَ طَبِيبُ الْقُلُوبِ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
«رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ
وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ
وخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا»
فَالْهَوَى أَكْبَرُ أَدْوَائِهَا، وَمُخَالَفَتُهُ أَعْظَمُ أَدْوِيَتِهَا) انتهى.
عبدَ الله: اعمل على إصلاح قلبك، فصلاحه صلاحٌ لجميع أعضائك، وصلاحُه لا يكون إلا بالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته وتوحيده، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ومعرفته سبحانه وحُبِّه والإخلاص له، واتباع نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يكون إلا بتدبُّر كتابه والعلم والعمل بأحكامه، {﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾} [يونس: 57].
فلنغتنم إصلاح قلوبنا بحُسنِ النيَّة في كُلِّ مطلوبٍ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «(إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)» [رواه مسلم] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «(ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ العَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ)» رواه الترمذي، وقال الجُوزقاني: (هذا حديثٌ مَشْهُورٌ حَسَنٌ).
قال ابن الأثير: (والمعنى: أنَّ هذه الْخِلالَ الثلاثَ تُستصلَحُ بها القلوبُ، فمَن تَمَسَّكَ بها طَهُرَ قلبُهُ من الخيانةِ والدَّغلِ والشرِّ) انتهى.
قال الحارثي ت 386 رحمه الله: (من اجتمعت فيه هذه الخصال في زماننا هذا، فهو من أولياء الله عزَّ وجلَّ) انتهى. نسأل الله من فضله.
فماذا سيقول فيمن اجتمعت فيه هذه الخصال في زماننا هذا؟.
ولنسأل مولانا أن يُطهِّر قلوبنا من الغلِّ والحقدِ، ومن الكِبْرِ والتعاظُّم على العبادِ والحَسَد.
فطوبى لِمن أخلص لله في أقواله وأفعاله، ورجا فضله في حاله ومآله، وطهَّر قلبه من البغضاء والعداوة للمسلمين، وتعاونَ معهم في أُمور الدنيا والدين، وويلٌ لِمن تعلَّقَ قلبُه بأحدٍ من المخلوقين، أو امتلأ من الغلِّ والحقدِ على المؤمنين؛ أمَّا الأولُ فإنه يسعى في علوِّ الدرجات، وأما الآخَرُ فإنه يتردى في مهاوي الهلكات.
اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا وقلوب والدينا وأهلينا، ويا مَن بيده خزائنُ كُلِّ شيءٍ أسعفنا بمطلوبنا، ويا مَن يغفر الذنوب جميعاً اغفر ذنوبنا واستر عوراتنا وعيوبِنا، إنك أنت الجواد الكريم.
♦♦ ♦♦ ♦♦
أمَّا بعدُ: من أسباب حياة القلوب: العلمُ بالكتاب والسنة، فبهما يَعرفُ المعروفَ ويُنكر المنكر، قال صلى الله عليه وسلم: ( «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» ) [رواه البخاري ومسلم] .
ومنها: الإقبال على الله تعالى وتلاوة كتابه وتدبُّره والاشتغال بذكره، قال ابن تيمية: (والقُرآن شِفَاءٌ لِما في الصُّدُورِ، وَمن في قلبه أمراضُ الشُّبُهَاتِ والشهواتِ، فَفِيهِ من الْبَينَات ما يُزِيل الْحقَّ من الْبَاطِلِ) انتهى، وقال تعالى: {﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ } [الرعد: 28]، وقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «(مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ) » [رواه مسلم] .
ومنها: النظرُ في عواقب الأُمم التي قبلنا، وعواقب الظالمين وما حلَّ بهم، قال الله تعالى: {﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾} [الحج: 45، 46].
ومنها: كثرة الدعاء بالمأثور، كدعائه صلى الله عليه وسلم: «(اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)» [رواه مسلم] ، وعن أنَسٍ قَالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ««اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبي عَلَى دِينِكَ»» [رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ إني عبدُكَ، ابنُ عبدِكَ، ابنُ أَمَتِكَ،ناصِيَتي بيدِكَ، ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عدلٌ فيَّ قضاؤُكَ، أسألُكَ بكُلِّ اسمٍ هو لَكَ، سمَّيْتَ بهِ نفسَكَ، أو علَّمتَهُ أحَداً من خلقِكَ، أو أنزلْتَهُ في كتابكَ، أو استأْثَرْتَ بهِ في عِلمِ الغيبِ عندَكَ، أنْ تَجعَلَ القُرآنَ رَبيعَ قلبي، ونُورَ صَدْرِي، وجِلاءَ حُزْني، وذهابَ هَمِّي» [رواه أحمد وصحَّحهُ ابنُ القيم] ، والله الموفق.
- التصنيف:
- المصدر: