صلاة الفجر
إن من طرق تحصيل النجاح بعد توفيق الله أن تقرأ في اهتمامات الناجحين، وترقُب أفعالَهم، وتتعرف على ما يحرك مشاعرَهم، فتحاكيَهم وتتأسى بهم، وتصبر على ذلك، وتستعين بالله ولا تعجز.
- التصنيفات: فقه الصلاة -
إن من طرق تحصيل النجاح بعد توفيق الله أن تقرأ في اهتمامات الناجحين، وترقُب أفعالَهم، وتتعرف على ما يحرك مشاعرَهم، فتحاكيَهم وتتأسى بهم، وتصبر على ذلك، وتستعين بالله ولا تعجز.
إن من أعظم قصص النجاح في التاريخ نجاحَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمارة الدنيا وقبل ذلك الدين، الذين حظَوا برعاية وتربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك خبرَ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنسِ بن مالك، كما يرويه الإمام ابن كثير رحمه الله: كان أنس بن مالك إذا تذكر فتح تستر بكى، فما خبرُها؟!
تستر كانت مدينةً فارسيةً عصيةً، حاصرها المسلمون سنةً ونصف سنة، ثم سقطت المدينة في يد المسلمين، وتحقق لهم فتحٌ مبينٌ، وكان من أصعب الفتوح التي خاضها المسلمون، فيا عجبًا! لمَ كان أنس رضي الله عنه يبكي إذًا؟!
لقد فُتحت تستر قبيل ساعات الفجر بقليل، وانهزمت الجيوش الإسلامية داخل الحصن، ودار قتالٌ رهيبٌ بين ثلاثين ألفَ مسلم مقابل مائة وخمسين ألف فارس، وكان قتالًا في منتهى الضراوة، وكانت كل لحظة من لحظات القتال تحمل في طياتها الموتَ بكافة تفصيلاته.
أزمةٌ من أخطر الأزمات، ولكن تفضل الله على عباده وكتب لهم النصر المبين، وكان هذا الانتصار بعد لحظات من شروق الشمس، تم النصر بحمد الله، ولكن اكتشف المسلمون أن صلاة الفجر خرج وقتُها.
لقد ضاعت على أنس، فبكى وقال: "لقد ضاعت مني صلاة الصبح، ما وددت أن لي الدنيا جميعًا بهذه الصلاة".
ضيَّع الفجرَ لانشغاله بذروة سَنام الإسلام، ولانشغاله بحفظ دماء أهل الإسلام، ضيع الفجرَ لانشغاله بتعبيد الناس إلى رب الناس، ضاع منهم الفجر لأن قلوبهم محِبةٌ للخير لكل الناس، ليرى الناس نور الإسلام فيدخلوا فيه أفواجًا، فيسلموا في الدنيا ويفوزوا في الآخرة.
يا ألله! ما يبكيك يا أنسُ؟ ضاعت صلاة الصبح، ما وددت أن لي الدنيا جميعًا بهذه الصلاة!
يا أحفادَ أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ، ويا أتباعَ محمد صلى الله عليه وسلم، لقد فقِه أنس مع أصحابه عظمةَ الصلاة عند الله، التي فُرِضت في السماء، وجُعلت قرةَ عيون المصلين، ووصيةَ الأنبياء والمرسلين، لقد خدم أنسٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وعلِم عنايتَه الفائقة بها، وعظيمَ أجرها، وتعددَ أفضالها، وخسارةَ من فرط فيها.
عباد الله: هنيئًا لمن أكرمه الله فصلَّى الفجر مع المسلمين، ولكن من تخلف حين تخلف، ما عذره؟ سؤال يحتاج إلى توقف واعتبار.
فيا كل إنسان وهبه الله أمنًا وإيمانًا ورغدًا في العيش، ميسرَ السبل، ما منزلة الصلاة في قلبك؟ الفجر تشتكي قلة المصلين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهل أنتم في أجر صلاة الفجر زاهدون، أم لم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم عن فضل سنتها؟ اسمع بقلبك، وفكر بعقلك، واجعل يوم لقاء ربك نُصب عينيك.
أيها الفضلاء، لا يخفى على شريف علمكم قصة استشهاد الفاروق رضي الله عنه على يد أبي لؤلؤة المجوسي - عليه من الله ما يستحق - وحين أُغمي عليه، ناداه الناس، فقال أحد العارفين به: "إنكم لن تُفزعوه بشيء مثل الصلاة".
قال ابن عباس: فقلنا: الصلاةَ يا أمير المؤمنين، فمسح عينيه ثم قال: "أصلَّى الناس؟" قلنا: نعم، فقال عمر: "نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة"، فصلى عمر وجرحه يثعب دمًا، لكن قد كانت الصلاة ورضا الله واتباع سنة رسول الله هو ما يشغلهم، فرَضِيَ الله عنهم وعمن ترضَّى عنهم.
فيا كل إنسان وهبه الله أمنًا وإيمانًا ورغدًا في العيش، ما منزلة الصلاة في قلبك؟ إن كنت معظِّمًا لها، محافظًا عليها وعلى راتبتها، فهنيئًا لك، وسَلِ الله الثبات، وإن كنت غير ذلك فتنبَّه!
عباد الله، هل أنتم في أجر صلاة الفجر زاهدون، أم لم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم عن فضلها وفضل راتبتها؟ اسمع بقلبك، واجعل يوم لقاء ربك بين عينيك.
«ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»؛ (رواه أحمد ومسلم والنسائي)، فتأمل الدنيا وما صحبها، وقال عليه السلام: «لا تدَعوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل»؛ (رواه أحمد وأبو داود، والبيهقي والطحاوي).
وتقول عائشة رضي الله عنها: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر))؛ أي: إنه يصليهما بعد الأذان.
صلاة الفجر فيها تجتمع الملائكة؛ ملائكة الليل وملائكة النهار؛ قال عليه السلام: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار...».
صلاة الفجر أفرد الله ذكرها في القرآن؛ فقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
صلاة الفجر أحد أعظم الأسباب لرؤية الله تبارك وتعالى؛ أخرج البخاري قال صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترَون ربكم يوم القيامة كما ترَون القمر ليلة البدر، لا تُضامُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألَّا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا».
وقال عليه السلام: «من صلى البُردين دخل الجنة»؛ أي: الفجر والعصر.
صلاة الفجر المحافظة عليها مع جماعة المسلمين براءة من النفاق؛ قال عليه السلام: «ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين من صلاة الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيها لأتَوهما ولو حَبوًا».
صلاة الفجر مع ما يُؤدَّى من أخواتها في الظلمة تكسب المؤمنين نورًا في عرَصات القيامة؛ قال عليه السلام: «بشِّر المشاءين في الظلمات بالنور التام يوم القيامة».
صلاة الفجر ارتبطت بتاريخ الأمة بأحداث عِظام:
• صلاة الفجر آخر صلاة صلَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل وفاته.
• وصلاة الفجر آخر صلاة صلاها الصحابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهُرهم.
• صلاة الفجر التي استُشهد فيها عمر وعلي رضي الله عنهما.
يقول عليه السلام: «من صلى الفجر فهو في ذمة الله، فلا يطلبنَّكم الله بشيء من ذمته».
وإن من أعظم الفأل أن يؤدي الرجل الفجر في جماعة مع المسلمين، فهو أول اختبار في اليوم والليلة؛ فأداء صلاة الفجر نوعُ طمأنينة وهدوء وسكينة، فهو في ذمة الله.
ما أجمل وأعظم الفجر! يترك العبد مضجعه ليقف بين يدي الله، مستجيبًا لأمر الله، معظِّمًا لما عظم الله.
من أراد أن يصلي الفجر فليبتعد كل البعد عن كل سبب يبعده عن أدائها؛ من سهر، أو صاحب، أو مشاهدة، أو مسامرة؛ فصلاة الفجر أعظم وأعلى.
احرص على أن تنام متوضئًا، ذاكرًا لأذكار النوم، سائلًا الله أن يعينك عليها، والله لا يخيب من قصده وتوجه إليه، ولئن أخفقت مرةً فأعِدِ المحاولة، وتذكر حديث أبي هريرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعقِد الشيطان على قافيةِ رأس أحدكم ثلاثَ عُقد إذا نام، كل عقدة يضرب عليك ليلًا طويلًا، فإذا استيقظ فذكر الله، انحلَّت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان، فإذا صلى انحلت العقد، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيثَ النفس كسلان»؛ (متفق عليه).
تأمل في هذا المشهد الذي يبين حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاته:
((أُغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، ثم أفاق فقال: «أحضرتِ الصلاة؟» قالوا: نعم، قال: «مُرُوا بلالًا فليؤذن، ومُروا أبا بكر فليُصلِّ بالناس» ، ثم أُغمي عليه، فأفاق فقال: «أحضرت الصلاة؟» قالوا: نعم، قال: «مروا بلالًا فليؤذن، ومروا أبا بكر فليُصلِّ بالناس» ، ثم أُغمي عليه، فأفاق فقال: «أحضرت الصلاة؟» فقالوا: نعم، قال: «مروا بلالًا فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس» .
فقالت عائشة: إن أبي رجل أسيف، فإذا قام ذلك المقام يبكي لا يستطيع، فلو أمرت غيره، ثم أُغمي عليه، فأفاق فقال: «مروا بلالًا فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحبُ يوسف» - أو قال مثل ذلك - فأمروا بلالًا فأذن، وأمروا أبا بكر فصلى بالناس)).
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفةً، فقال: «انظروا لي من أتَّكئ عليه»، فجاءت بريرة ورجل آخر، فاتكأ عليهما، فلما رآه أبو بكر ذهب لينكص، فأومأ إليه أنِ اثبت مكانك، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنب أبي بكر، حتى قضى أبو بكر صلاته، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبض.
آخر وصايا حبيبكم: «الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم».
__________________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني