صلاحية الشريعة للزمان والمكان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ» [متفق عليه].
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ» [متفق عليه].
فلما كان صلى الله عليه وسلم هو اللبنة وبه خُتم النبيون، وقد أرسل إلى الناس كافة كما قال صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» [متفق عليه]، فقد كفل الله لهذا الشرع المحكم ما يجعله صالحاً لكل زمان ومكان على اختلاف طبائع الناس، وتطور حياتهم ومكتشفاتهم جيلاً بعد جيل، وزمانًا تلو آخر.
ولذلك؛ فقد امتازت الشريعة بقدرتها على استيعاب كل جديد مِن مستحسن ومستقبح، أن يعرف الناس لربهم فيه حكمًا؛ وذلك لأنه وباختصار الذي شرع هو الذي خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
وما كان وما سيكون فهو مِن قدره جل وعلا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، فما مِن شاردة ولا واردة، ولا قديم ولا مستحدث إلا وفي الوحي -قرآنًا وسنة- من حُكمه خبر، فسبحان علام الغيوب! {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
فبرغم أن لكل تشريع سبب نزول، ولبعض الآيات حادثة نزلت عندها إلا أن تلك الآيات وما فيها مِن أحكام ليست قصرًا على تلك الواقعة؛ لذا فإن (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، فكم من لفظ عام دخلت تحته أمور جدت بعد عهده صلى الله عليه وسلم لم تكن موجودة وقت ذاك.
ومِن ذلك قوله جل وعلا في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فكان هذا قانونًا عامًا لنا أن كل طيب حلال، وكل خبيث حرام، مهما جد في الدنيا من طيب أو خبيث؛ ولذلك كان دليلاً على تحريم شرب الدخان والسجائر، والتي أجمع العقلاء؛ لا سيما الأطباء على خبثها وضررها.
كذلك قد تجِدّ حوادث لا نص فيها، ولكنها تنطبق مع علة أمور أخرى لها أحكام منصوص عليها في الكتاب أو السنة، فكان مقتضى العقل -وقبله الشرع- إلحاق الفرع "الأمر الجديد" بالأصل "الأمر الأصلي المنصوص عليه" في الحكم، وهذا هو القياس الذي علَّمه صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم مصداق قوله جل وعلا: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]. ومِن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: (لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟). قَالَ: نَعَمْ، قَالَ (فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى)» [متفق عليه]، فعلَّمه صلى الله عليه وسلم قياس دين الله على دين المخلوق.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه حين سأله عن القُبلة للصائم: «أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟! قُلْتُ: لا بَأْسَ بِه. قَالَ: فَمَهْ؟!» [رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني]، فقاس القُبلة على المضمضة بجامع أن الكل مقدمة الفطر.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟». قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟. قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟. قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ»[رواه أحمد وأبو داود، وصححه الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير].
فشريعتنا قادرة على احتواء جميع نواحي الحياة لأي مجتمع رغم الاختلافات الطبيعية من بلد لآخر؛ إما بما نصت عليه أو بما دلت عليه نصوصها.
وقد تعلَّم الصحابة رضي الله عنهم ذلك وأحسنوا توظيفه، فمن ذلك:
- قول الصحابة لأبي بكر رضي الله عنه: "رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟!"، فقاسوا خلافته على المسلمين على استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم له في إمامة الصلاة، ورفض أن يؤمهم غيره.
- ولما علم عمر رضي الله عنه أن بعض أمرائه -وهو سمرة- أخذ الخمر من تجار أهل الذمة في العشر، وخللها وباعها؛ قال عمر: "أما علم سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا؟!» [متفق عليه]". فقاس عمر رضي الله عنه الخمر على الميتة في تحريم ثمنها.
- وقول عمر رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما ولاه القضاء: "ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور برأيك".
- وقال الإمام السيوطي رحمه الله في كتابه (الأشباه والنظائر): "اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم به يطلع على حقائق الفقه ومداركه ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على مر الزمان؛ ولهذا قال بعض أصحابنا: "الفقه معرفة النظائر" انتهى.
- ومِن هنا استوعبت الشريعة أحكامًا أوسع مِن مجرد الوقوف على ألفاظها ونصوصها.
- ولو كان هناك ما لم يُنص عليه أو يدخل تحت عموم أو ليس له ما يقاس عليه؛ فهو إذن حلال على البراءة الأصلية (الأصل في الأشياء الإباحة) ولو سأل سائل عن دليل عدم حرمتها قلنا: (الدليل عدم الدليل -أي عدم دليل التحريم-).
وفي ذلك أبلغ الرد على مَن يتهم الشرع بقصوره، وعدم مواكبته للعصر والتقدم، وعدم قدرته على استيعاب الجديد! أو يقول كيف سنحكم شرعًا مضى عليه أربعة عشر قرنًا؛ ولا يقول ذلك إلا فاسد العقيدة أو جاهل بروح الشرع؟!
ولقد خرج علينا البعض منذ فترة يسيرة بفتوى عجيبة مُفرقا بين أنواع الخمر في الحرمة؛ بزعم اقتصار النص على نوع واحد! مع أن مقتضى العقل -وقبله الشرع- عدم التفرقة بين المتساويين؛ وإلا كان تناقضًا يُنزه الشرع عنه، فكل أنواعها مادته هي "الكحول الإيثيلي" المسكر، بل وله الأثر البالغ على خلايا المخ -وإن قلّت الكمية المتناولة- لا سيما لو تعود على شرابها؛ فكلها حرام إما بالقياس أو بالدخول تحت عموم الحديث: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» [رواه مسلم]، وحديث: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ» [رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني]، ولحديث: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» [رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني].
فكلها تخامر العقل أي تُسمى: "خمرًا"، تمامًا كالمخدرات، والتي لو حرمها صاحب الفتوى قياسًا أو للضرر -إذ لا نص فيها- لناقض بذلك فتواه!
بل والأطَمُّ أن مقتضى الفتوى جمود الشرع، وعدم صلاحيته لاستيعاب الجديد في حياة الناس -حسنًا كان أو قبيحًا- أن يدخل تحت مظلة حكم الشرع، أم أن المقصود مِن مواكبة العصر والتقدم هو القول بحل كل جديد -فضلاً عن القديم المنصوص عليه- بزعم المرونة وعدم الجمود؟!
فما أجمد هذه الفتوى وأبعدها عن مقاصد النصوص -روح الشرع- المنزل مِن لدن حكيم خبير، والذي ختم تشريعه بتلك الآية الغراء:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
فاللهم مسِّكْنا الإسلام حتى نلقاك عليه، واحفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمّت بنا عدوًا ولا حاسدين.
وصلِّ اللهم على محمد، وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
محمد إسماعيل أبو جميل