حُق لكوسوفا أن تفرح بإسقاط من وقف ضد الاعتراف بها

منذ 2012-03-01


في الأسبوع الأخير من شهر أبريل من العام الماضي، نشر ـ كاتب هذه السطور ـ مقالا الكترونيا في عدد من المواقع عنوانه: "يا كوسوفا: عذراً لقد تأخرت في الاعتراف بك".

يحكي فيه خواطر/ خلفيات/ شجون نشأت بمتابعة مشكلة "الجمهورية الوليدة".. جمهورية "كوسوفا" المستقلة منذ 17 فبراير 2008م.

وكانت السطور قد تطرقت لتاريخ وجغرافية جمهورية كوسوفا Republika e Kosovës، "فلذة كبد الألبان".هي)كوسوفا (بالألبانية، أو (قوصوة)/ (قوصوه).. الاسم العربي التاريخي لإقليم كوسوفا سابقًا، أما الاسم الصربي له فكان (كوسوفو).

وكيف كانت محط خلاف محتدم، ليس لغوياً فحسب، بل سياسياً/ وتاريخيا بين صربيا وألبانيا بسبب غالبية سكانها من الألبان المسلمين في حين أنها كانت تخضع للاحتلال الصربي.

حتى أعلن البرلمان الكوسوفي بالإجماع استقلالها يوم 17 فبراير لعام 2008 وإعلان برشتينا عاصمة لها.

وجمهورية كوسوفا تقع حيث سكن أجدادهم (الداردانيون) و(القبائل الإيليرية) الأخرى، وكانت دولتهم تسمى (داردانيا) بالعربية (أرض الكمثري)، وبمر الزمان ضعفت فاحتلها (الرومان) وبقيت تحت احتلالها إلى أن زالت إمبراطوريتهم، وانقسمت إلى شرقية وغربية فأصبحت (بلاد الألبان) تحت حكم الإمبراطورية الشرقية حتى فتح المسلمون بلادهم ونعمت قرونا تحت حكمهم.

على أن الإسلام قد دخل، على نطاق ضيق ومحدود، إلى البلاد البلقانية قبل الفتح العثماني، وذلك عن طريق التجار والدبلوماسيين والدعاة.

أما الانتشار الفعلي للإسلام في تلك البلاد فقد كان بعد مجيء العثمانيين، حيث دخل الشعب الألباني في الإسلام أفواجًا، وحسن إسلامهم وكان منهم في الدولة العثمانية القادة العظام مثل (بالابان باشا) قائد من قادة فتح القسطنطينية، وكبار الكتاب والشعراء الذين كانوا يؤلفون بلغات خمس: (الألبانية) و(البوسنية) و(العربية) و(التركية) و(الفارسية) مثل(محمد عاكف أرسوي). (وفق ما يؤكد د. راغب السرجاني عبر موقعه الإلكتروني).

وقد تمكن الحكم العثماني في جزيرة البلقان بصورة نهائية بعد المعركة الشهيرة (معركة كوسوف) التي قاد فيها السلطان العثماني (مراد الأول) الجيش الإسلامي بنفسه، وقبيل انتصار الجيش الإسلامي استشهد السلطان (مراد) وتسلم القيادة السلطان (با يزيد) الذي انتصر على الجيوش المتحالفة الأوروبية وقتل الملك (لازار) الصربي وذلك سنة 1389م. - 938 هـ.

فبعد هذه المعركة الحاسمة خضعت (كوسوفا) و(صربيا) للحكم العثماني ما عدا مدينة (بلغراد)، فإنها فتحت في عهد السلطان (سليمان القانوني) وذلك في 26 من شهر رمضان المبارك سنة 1521 م. - 938 هـ.

كانت ولاية (كوسوفا) أكبر الولايات العثمانية في رومليا (أوروبا)، وكانت أول عاصمة لها مدينة (بريزرن) ثم مدينة (بريشتينا)، وفي الأخير مدينة(أشكوب) عاصمة (ماكدونيا) اليوم، وما زال فيها إلى يومنا هذا عدد الألبان أكبر من عددهم في (تيرانا) عاصمة (ألبانيا).

منطقة تدافع مستمر:

في هذه المنطقة البلقانية يتصادم فيها كل شيء بكل شيء، الدين بالقومية، والتاريخ بالجغرافيا، ورموز النظام الدولي القديم برموز النظام الدولي الجديد.

ظل الأتراك هنا خمسة قرون، ومن بوسعه ألا يبقى هنا عمره كله؟! بين جنبات طبيعة ساحرة وبين أناس بسطاء متشبثين بهويتهم القومية والدينية، وهذه وتلك أسباب وجيهة للسلام، لا لحرب ما أن تضع أوزارها حتى تشتعل من جديد(وفق ما يقول أسعد طه).

لكوسوفا أهمية تاريخية وثقافية بالنسبة للصرب، لأنها برأيهم ـ شطر البلاد الذي أسسوا فيه أولى ولايات القرون الوسطى، وبنينا العديد من الكنائس والأديرة الجميلة، منها دير (ديتشاني) احد عمائرهم الدينية التي بنيت عام 1335م في مدينة (بيتش) كما ينطقها الصرب، أو (بيا) بالألبانية.

وتمثل لهم مركز رئاسة الكنيسة الأرثوذكسية، وأهم مزارات الصرب الدينية والقومية. لذا فهم يقولون: إن مهد حضارتهم كان فيها.

كانت جزءا من ألبانيا تحت الحكم العثماني طيلة خمسة قرون منذ فتحها السلطان العثماني مراد الأول عام 1389 حتى هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، ثم أعطيت للصرب عقب هزيمة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ضمن أجزاء كثيرة قطعت من ألبانيا للحيلولة دون قيام دولة إسلامية في أوروبا عام 1912، وبعد سلسلة مؤتمرات دولية أهمها سان ستيفانو، برلين، لندن وباريس آل الإقليم رسميا في نهاية المطاف إلى صربيا وأصبح جزءاً منها. خضعت كوسوفو في الحرب العالمية الثانية لألبانيا التي كانت بدورها خاضعة لإيطاليا.

بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا عام 1946 ضم إقليم كوسوفا إلى يوغوسلافيا الاتحادية، وفي عهد الرئيس جوزيف بروز تيتو ووفق دستور 1947 عاشت كوسوفو حكماً ذاتيا ضمن إطار اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية إلى أواخر السبعينات من القرن العشرين.

في عام 1989 ألغى الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به ألبان كوسوفا وحَكَم الإقليم بالحديد والنار، مستخدماً أساليب بوليسية وقمعية عنيفة.

نظم أهالي كوسوفو أنفسهم لمواجهة الاضطهاد الذي يتعرضون له بعد إلغاء الحكم الذاتي واتخذ تنظيمهم طابعا قوميا أكثر منه دينياً وقادهم آن ذاك حزب الاتحاد الديمقراطي الألباني الذي كان يترأسه الأديب والأستاذ الجامعي إبراهيم روغوفا وكان يتخذ من النضال السياسي السلمي منهجاً له.

في يوليو 1990 أجرى أهالي كوسوفو استفتاء عاماً كانت نتيجته معبرة عن رغبة الغالبية العظمى في الانفصال عن صربيا وإقامة جمهورية مستقلة، وفي سبتمبر من العام نفسه نظم الألبان إضرابا واسعاً يشبه العصيان المدني لصربيا. في الرابع والعشرين من مايو عام 1992 انتخب الألبان إبراهيم روغوفا رئيساً لجمهوريتهم التي أطلقوا عليها اسم جمهورية كوسوفو ولم تعترف بها صربيا.

حاول الرئيس المعروف بنهجه السلمي كسب تعاطف المجتمع الدولي ونيل اعترافه بجمهورية كوسوفو لكنه لم ينجح فكون الشباب الألباني خلايا عسكرية سموها جيش تحرير كوسوفو.

كان عام 1998 هو العام الذي لفت أنظار العالم بقوة إلى خطورة الأوضاع في كوسوفو حيث دخل جيش تحرير كوسوفو في صراع مع الجيش الصربي فأرتكب الأخير مجازر وحشية ضد المدنيين الألبان مما أجبر المجتمع الدولي على التحرك.

بحسب إحصائيات فإن مائة وثمانية وعشرين ألف بيت للألبان دُمرت أو أحرقت، كما قُتل وذُبح ما يزيد عن اثني عشر ألف مواطن ألباني، وهو عدد غير نهائي لأننا مازلنا نكتشف المقابر الجماعية، التي وصل عدد المكتشف منها حتى الآن خمسمائة وخمسين مقبرة، تضم ما بين اثنين إلى مائة وخمسين قتيلاً، وتحتفظ سجلات بأسماء مائة وثمان وسبعين عائلة قتل كل أفرادها، كما قدر عدد المفقودين بثلاثة آلاف ومائتي مواطن، غير أساليب شرسة من التعذيب كانت تماس ضد المعتقلين، كما تعرضت ثلاث آلاف فتاة وسيدة للاغتصاب من قبل القوات الصربية.

في مارس 1999، شن حلف شمال الأطلسي غارات جوية على صربيا ما أرغم "ميلوشيفيتش" على الانسحاب من كوسوفا. وفقدت بلغراد السيطرة الفعلية على الإقليم الذي وضع تحت حماية الأمم المتحدة والحلف الأطلسي الذي ينشر نحو 17 ألف عسكري فيه.

وجرت مفاوضات حول الوضع النهائي لكوسوفو بين الصرب والكوسوفيين الألبان، قدم في ختامها "مارتي اهتيساري" الذي كلفته الأمم المتحدة إعداد وضع نهائي للإقليم خطة تقضي باستقلاله تحت إشراف دولي، دعمها الأميركيون ومعظم الأوروبيين.

فأينما ذهبت، على قارعة الطريق، أو بين الحقول، أو في الميادين العامة تجد نصباً تذكارية، ومقابر جماعية مزينة بالأعلام والزهور، لتشعر كما لو أن الناس هنا يريدون للأجيال المقبلة ألا تنس أبداً ما حدث لها.

اركب سيارتك واذهب إلى أي مكان في كوسوفا، وامش في أي شارع، في أي مدينة، أو قرية، واسأل أي مواطن ألباني أياً كان عمره تسمع حكايات يشيب لها المرء.

تمر الأيام.. وتتغير الأحوال:

تمر الأيام.. وتتغير الأحوال، بل تنقلب ـ بالثورات العربيةـ رأساُ علي عقب. ويفرح الكوسوفيون -رسمياً وشعبياً - كما فرحنا. فقد "هرموا أيضا من أجل هذه اللحظة التاريخية".

ولقد تابعت - بشغف - أنباء وتجليات ومظاهر تلكم "الفرحة العارمة" التي يعيشها شعب كوسوفا بسقوط "رأس النظام المصر".

فقد عبروا عنها خلال لقائهم بالوفد الشعبي المصري - الذي زار العاصمة برشتينا خلال اليومين الماضيين - برئاسة السفير "محمد رفاعة الطهطاوي" مساعد وزير الخارجية السابق، وعضو ائتلاف الثورة (وبه ثلة من الصحفيين).

لقد خرج الدبلوماسيون والساسة الرسميون الكوسوفيون عن "تحفظاتهم التقليدية" للتعبير عن هذه الفرحة فأبدت رئيسة الجمهورية "عطيفة يحيي" تهنئتها لثوار التحرير وانتصار إرادة المصريين.

كما عبر رئيس الوزراء الكوسوفي "هاشم تاجي" للوفد الشعبي: أزحتم ديكتاتوراً وعلي الثورة المصرية/ العربية ألا تتوقف حتى يتم التحرر من رموز الفساد والديكتاتورية التي أهدرت طاقات المسلمين والعرب.

علي جانب آخر.. طلب "أنور هوشيه" وزير الخارجية في الدولة الوليدة من الوفد الشعبي نقل تهنئة شعب كوسوفا بالقضاء علي "نظام كان معيناً للأنظمة الفاشية والديكتاتورية في العالم".

كل هذه التصريحات وغيرها من مظاهر معبرة عن فرحة عمت كوسوفا لها أسبابها وحيثياتها.

وإن تنسي الدول مواقف بعينها لكنها لا تنسي أبداً من بادر وسارع وشارك في "ولادتها" وأعترف بها دولة مستقلة كغيرها من دول العالم. كما لا تنس من رفض وحرّض ووقف ضد الاعتراف بدولة قدمت تضحيات وتحملت فظاعات احتلال عنصري دموي شوفيني بشع.

وقد كان نظام مصر البائد/ المتنحي من هذا الصنف الأخير. فحُـق لكسوفا أن تفرح بذهابه، إلي حيث ذهب، كما فرح الشعب المصري بتنحيه.

علم، وشعار، وموقع جمهورية كوسوفا "الوليدة"(باللون الأحمر).

لقد كان ـ الكثيرون ـ يستغربون هذا الحلف والتحالف بينه وبين النظام الصربي/ اليوغوسلافي البائد أيضا. والذي حاكمه المجتمع الدولي بتهمة التطهير العرقي والإبادة الجماعية لشعب كوسوفا. لقد وقف "رأس" النظام المصري البائد بالمرصاد للشعب الكوسوفي المسلم حيث رفض الاعتراف بإعلان دولته منذ عامين. في حين ساعد النظام الصربي الذي أباد المسلمين وقتل منهم نحو نصف مليون شخص علي مدي 10 سنوات من التطهير العرقي.

بإعلان إقليم "كوسوفا" استقلاله عن حكومة بلغراد وقيام "جمهورية كوسوفا" في يوم 17 فبراير/شباط 2008. أمر رفضته الحكومة الصربية المركزية وروسيا، بينما أيدته الولايات المتحدة وعدد من دول الإتحاد الأوروبي ونفر قليل من الدول العربية. لقد شكل النظام المصري البائد تحالفات ـ بالتعاون مع النظام الصربي الفاشي ـ لتنظيم "حرباً سياسية" ضد الاعتراف بدولة كوسوفا أثناء المؤتمر الإسلامي عام 2010 في السنغال بما أحدث شرخاً في موقف الدول الإسلامية من الاعتراف باستقلال دولة يدين 95% من سكانها بالإسلام وترتبط تاريخياً بالدولة التركية والدول العربية. في الوقت الذي وافقت علي الاستقلال 22 دولة أوروبية والولايات المتحدة وبلغت حتى الآن 76 دولة عضوا بالأمم المتحدة. لكن لكي تصبح عضوا في الأمم المتحدة يجب أن تحصل على اعتراف 97 دولة

ينتظر الشعب الكوسوفي من الحكومات والشعوب العربية والإسلامية: الاعتراف بجمهورية كوسوفا، وفهماً ووعيا بقضيتها، وتأييدا سياسياً، ودعماً وتعاوناُ في كافة المجالات الثقافية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية الخ. فباستثناء بعض التحركات الرسمية فإن علاقة كوسوفا مع العالم الإسلامي مازالت محدودة، ومازال العالم الإسلامي يعتقد أن احتياجاتها محصورة في أكياس الطحين، والمساعدات الإنسانية.

لذا فمرحبا بتلكم الزيارات الشعبية، والأمل معقود علي استتباعها بأخرى رسمية.

ويا جمهورية "كوسوفا" مرة ثانية ورابعة: أنا اعترف بك.. وعذرا إن جاء الاعتراف متأخراً.. فإن يأتي متأخراً خير من أن لا يأتي علي الإطلاق.


ناصر أحمد سنه
 

  • 1
  • 0
  • 2,698

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً