ضللت الطريق، وأجلد ذاتي لأعود

منذ 2014-02-17
السؤال:

أنا شابٌّ في بداية العشرينيات مِن عمري، كنتُ أسير كيفما يسير الناس، وكيفما يسير التيَّار، لا أبذُل جهدًا في شيء، أُحِب الأشياء السهلة، ولم أفكرْ يومًا في أن تكونَ لي أفكارٌ أصيلةٌ خاصة بي، فأفكاري تقليدية اتباعيَّة، لم يهتم والدي بإرشادي للطريق؛ لأعرف ما أريد مِن هذه الحياة.

سمعتُ يومًا عن قصة ذلك الرجل المؤمن الذي كان مع صحْبِه عند أحد أنهار العراق، ويغمس الخبز اليابس في الماء ويأكله, ثم يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه، لجالدونا عليه بالسيوف!

عندما سمعتُ بهذه القصة، تَرَكتْ شيئًا في نفسي، وكانت هذه القصة أولى محاولاتي لأُصبح رجلًا مُلتزمًا، لكن في أحد الأيام سمعتُ شخصًا -سامحه الله- يقول: إن رجالَ الدين رجالٌ فاشلون، لم يُفلحوا في حياتهم، واتجهوا للدين؛ فأثَّر ذلك على نفسي؛ لأنني ما كنتُ يومًا فاشلًا!

عِشْتُ حياتي بوجهَيْنِ، عندما أكون وحدي فأنا إنسانٌ مستسلمٌ لشهوتي، ناقمٌ على نفسي، وألقي عليها التهَم وأُعاتِبُها، حتى كرهتُ نفسي جدًّا، كرهتُ نفسي حتى النُّخاع، وآمنتُ أن هذه النفس ضعيفة، غير قادرة على شيء، حتى وصلتُ للمرحلة الجامعيةِ، ودخلتُ أحد التخصصات، أكملتُ أول سنة -والحمد لله- بشكلٍ جيدٍ؛ لكن زاد صراعي مع نفسي وكرهي لكوني بوجهين!

بدأتُ أنعزل عن المجتمع، وأتجنَّب الناس، حتى رسبتُ في إحدى المواد، وزاد إحباطي، وتركتُ الجامعة لمدة فصلٍ دراسي كاملٍ.

كنتُ مُنهمكًا على الإنترنت طوال الوقت؛ حتى أحببتُ الفراغ بشكل فظيع، وتقلق نفسي إذا وُكِلَتْ إليَّ مهمةً، ركزتُ على مشاهدة أي شيء ذي طابعٍ رومانسي! من مسلسلات، وأفلام، وحتى أفلام الكرتون "أنميشين"؛ وذلك لتلبية رغباتٍ وحاجات في قلبي.

بعد أن تركتُ الدراسة والصلاة لفصلٍ كاملٍ، سمعتُ مقطعًا دينيًّا أثَّر فيَّ، وقررتُ العودة للصلاة في المسجد، والتضرُّع لله، وفي نفس الوقت رجعتُ للدراسة، وبدأ صراعٌ وسواسي أني لم أرجعْ للصلاة إلا لأني أشعر بأني سأمُرُّ بفترة دراسية صعبة، ولم يكن رجوعي لله خالصًا لوجهه الكريم.

قررتُ تَرْك الموسيقا، ومُشاهدة الأفلام والمسلسلات، لكن حلتْ على قلبي وحشةٌ ووحدةٌ لم أشعر بها مِن قَبْلُ، وكأن صدري أو قلبي أصبح فارِغًا، وأصابتْني كآبةٌ غريبةٌ، والنوم أصبح مهمةً صعبةً جدًّا.

بدأتُ أُفَكِّر في ترْكِ الدراسة، والصلاة في المسجد، وأن أعود لمشاهدة المسلسلات، والأفلام، واستسلم لهذه المشاعر! انتابني خوفٌ عظيمٌ مِن عودتي للدراسة، وقلقٌ مِن أني فاشلٌ، ولن أفلح في الدراسة حتى لو غيَّرْتُ التخصُّص.

عملتُ -للأسف- على تهميش ذاتي طوال حياتي، وعلى جلْدِها، ودفْنِها عميقًا في الداخل؛ حتى وصل بي الحال أني عندما أرى رجلًا فقيرًا، أقول في نفسي: ماذا لو أستطيع أن أعطيه حياتي ماذا سيحقق بها؟ هو يستحقها أكثر مني!

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فهوِّن -أيها الأخ الكريم- على نفسك، ودعْ عنك جلد الذات؛ فضررُه أكثرُ مِن نفعِه، وحاول أن تنظرَ لنفسك نظرةً مختلفةً؛ فابحثْ عن أوجُه القوة في شخصيتك، وستجدها، فانظر إليها وحسب، واعملْ على تقويتها ورعايتها، وتذكَّرْ دائمًا أنك -بِفَضْل الله وتوفيقه لك- استطعتَ أن تقهرَ نفسك، وتعودَ للصلاة، وهذا عسيرٌ على كثيرين غيرك، وكذلك استطعتَ -بعون الله- الكف عنْ سماع الغناء ومُشاهدة المسلسلات والأفلام، وهذا يدُلُّ على عُلُوِّ همتك، وقوة عزيمتك، وأنك ممن يستطيعون أن يأخذوا أنفسهم بالقوة، وأنت -أيها الحبيب- تعيش في مجتمعٍ، وترى الناس حولك لا تكف عن شيء مِن شهواتها، فاحمد الله على تلك النِّعمة، وتعاملْ مع نفسك -من الآن- بطريقةٍ مختلفة، وقد لاحظتُ فيك خصلة خيرٍ أخرى؛ انتبِهْ لها، وارْعها، واعملْ على تنميتها، وهي أن قلبك -بفضل الله- رقيقٌ يتأثَّر سريعًا بالمواعظ؛ ولذلك يحرص الشيطان على صَرْفك عن ذلك؛ بالإصغاء لبعض المنفِّرين عن الحق، المدعين أن التدين بضاعة الفاشلين، وكذب وربِّ الكعبة، ولو تأملتَ المتدينين حولك لرأيتهم شريحةً من المجتمع، فيها المتعلِّم الحاصل على أعلى الشهادات، وتبوَّأ أعلى المناصب، ومنهم المتوسط، وكذلك الإنسان البسيط؛ أما حصرهم في فئةٍ دونيةٍ، فقائل هذا القول من الذين استذلَّهم الشيطان، واستخدمه أعداء الرسل في الصدِّ عن سبيل الله.

فاستعنْ بالله ولا تعجز -أيها الحبيب -واقرأ القرآن بتدبُّر، وتنبَّه لخطرات الشيطان، ولا تسترسلْ معها، واستمر في أخذ نفسك بالشدة والحزم، ولا تتهاونْ معها، وستذهب عنك تلك الوحشة بصِدْق اللجوء إلى الله، والافتقار إليه؛ أن يصلحَ حالك، وأن يُعيذك مِن شر الشيطان وشركه، وسأنقل لك درةً علميةً لشيخ الإسلام والمسلمين ابن تيميَّة؛ وهو يُقَرِّر حقيقةً علميةً تُفَسِّر لك سر القسوة التي شعرتَ بها أو الوساوس؛ عساها أن تكون بدايةً لك في الخير؛ قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (7/ 282 -284) :

''كثيرًا ما تعرض للمؤمن شعبةٌ مِن شُعَب النفاق، ثم يتوب الله عليه؛ وقد يرد على قلبه بعض ما يوجب النفاق، ويدفعه الله عنه، والمؤمن يُبتلى بوساوس الشيطان، وبوساوس الكفر التي يضيق بها صدره؛ كما قالت الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخر مِن السماء إلى الأرض أحب إليه مِن أن يتكلم به، فقال: «ذاك صريح الإيمان»، وفي روايةٍ: ما يتعاظم أن يتكلم به قال: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» أي: حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له ودفعه عن القلب هو من صريح الإيمان؛ كالمجاهد الذي جاءه العدو فدافعه حتى غلبه؛ فهذا أعظم الجهاد.

والصريح: الخالص كاللبن الصريح.

وإنما صار صريحًا، لما كرهوا تلك الوساوس الشيطانية ودفعوها، فخلص الإيمان، فصار صريحًا.

ولا بد لعامة الخلْقِ مِن هذه الوساوس؛ فمِن الناس مَن يجيبها، فيصير كافرًا أو منافقًا؛ ومنهم مَن قد غمر قلبه الشهوات والذنوب، فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنًا، وإما أن يصيرَ منافقًا؛ ولهذا يعرض للناس مِن الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلوا؛ لأنَّ الشيطان يكثر تعرُّضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه، والتقرب إليه، والاتصال به؛ فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر مما يعرض للعامة؛ ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلكْ شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبلٌ على هواه، في غفلةٍ عن ذِكْر ربه؛ وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة فإنه عدوهم يطلب صدَّهم عن الله؛ قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6]، ولهذا أُمِر قارئ القرآن أن يستعيذَ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن قراءة القرآن على الوجه المأمور به تورث القلب الإيمان العظيم، وتزيده يقينًا وطمأنينةً وشفاءً، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] ، وقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] ، وقال تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وقال تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} </font>} [التوبة: 124].

وهذا مما يجده كلُّ مؤمنٍ مِن نفسه؛ فالشيطانُ يُريد بوساوسه أن يشغلَ القلب عن الانتفاع بالقرآن؛ فأمر الله القارئ إذا قرأ القرآن أن يستعيذَ منه؛ قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98-100]، فإنَّ المستعيذ بالله مستجيرٌ به، لاجئٌ إليه، مستغيثٌ به مِن الشيطان؛ فالعائذُ بغيره مستجيرٌ به؛ فإذا عاذ العبد بربه كان مستجيرًا به، مُتوكلًا عليه؛ فيعيذه الله من الشيطان، ويجيره منه؛ ولذلك قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34-36].

وفي الصحيحَيْنِ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، فأمر -سبحانه- بالاستعاذة عند طلَب العبد الخير؛ لئلا يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه مِن الشر ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات، وعندما يأمره الشيطان بالسيئات؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: مَن خَلَق كذا؟ مَن خَلَق كذا؟ حتى يقول: مَن خَلَق الله؟ فمَنْ وجد ذلك فليستعذْ بالله ولينته» (صحيح مسلم)، فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شرٍّ، أو يمنعه من خيرٍ؛ كما يفعل العدو مع عدوه.

وكلما كان الإنسانُ أعظم رغبةً في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك مِن غيره بحيث تكون قوته على ذلك أقوى، ورغبته وإرادته في ذلك أتم، كان ما يحصل له -إن سلمه الله من الشيطان- أعظم، وكان ما يفتتن به -إن تمكَّن منه الشيطان- أعظم؛ ولهذا قال الشعبيُّ: "كلُّ أمةٍ علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم، وأهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل؛ وذلك أنَّ كل أمةٍ غير المسلمين فهم ضالُّون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدًى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم؛ فعلماؤهم خيارهم، وكذلك أهل السنة أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب''.

وفقك الله لكلِّ خير.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 5
  • 2
  • 7,287

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً