سئمت الحياة بسبب والديَّ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مُشكلتي طويلةٌ ومُعقَّدةٌ، ولا أعرف مِن أين أبدأ! ولا كيف أرتِّب أحداثَها، سأتكلم بما يفيض به قلبي مِن مَرارةٍ، دون ترتيبٍ للآلام والضيق الذي في قلبي، فربما يكون الكلامُ مُشَتَّتًا.
أنا فتاةٌ تعديتُ العشرين، أُحِبُّ الالتِزامَ مِن صِغَري، مُحجَّبة الحجاب الكامل، وأُحِبُّ الهدوءَ والترتيب، والصوتَ المنخفِض، والكلامَ الطَّيِّبَ المليء بالرحمة، أكْرَه الإزعاجَ والمَشاكِل والشتائمَ، وأتألَّم كثيرًا حينما أسمع كلمةً سيئة، أكره القسوةَ والضربَ والإهانة، حَرَصتُ جدًّا على أن أُرضِي والديَّ؛ فلن يرضى الله إلا برضاهما، وكنتُ أقول في نفسي: سأبقى لهما، ولن أجعلَهما يحتاجانِ لأحدٍ، فَخِدْمتُهما حقٌّ عليَّ.
كنتُ أحبهما كثيرًا، ولا أطلب منهما شيئًا قط، ولو كنتُ محتاجة؛ حتى لا أتعبَهما، كنتُ أرى في والدي رحمةً عظيمة - لن أنكرَ هذا - وكنت أحبُّه كثيرًا أكثر من روحي، وأدعو الله أن يقبضني قبله؛ فلن أتحمَّل فراقه، فكم كان يترضَّى عليَّ! وكم كان يحبُّني، ويدعو لي! كم له من مواقف رحمة أبكتْني! كنت أحيانًا أكون صائمة، فلا يرضى أن أقدِّم له الماء، أو الشاي؛ حتى لا يتعبني! وإذا قدمت له، أرى الألم والشفقة في عينيه، كان طيبًا، حنونًا، ويقبِّلني كثيرًا، ويضمُّني في حضنِه كثيرًا، كان قلبُه يُفِيض بالرحمة، وكنتُ أدعو له كثيرًا، وكنت أحب أمي، وأشفق عليها لمرضها وتعبِها، كنتُ أكره فيها شتائمها إذا غضبتْ، ولكن كنتُ أتناسَى الشتائم؛ لأجْلِ الله تعالى ولأجْلِ أنها أمي، وأتحمَّل وقتَ غضبها، كنتُ أدعو لها أيضًا، وأتمنى عافيتها، كنتُ يدَها اليمنى في كل شيء؛ أعاونُها في كلِّ شيء، ولا أنام حتى أعطيها العلاج، وأدَلِّك لها أقدامَها، وأقدامَ أبي كذلك، كنتُ أستمتع بخدمتِهما كثيرًا، وأشعرُ أنَّ الله يحبُّني، فكانا لا يطلبان حاجتَهما إلا مني، وكنتُ سعيدة بهذا.
منذ ثلاثة أعوام تقريبًا تغير حال بيتنا بالكلية؛ أصبحوا يكرهونني، وأصبحتُ لا أحبهم وأكرههم، انقلب حال بيتنا كله دون سبب، رأيتُ كلَّ ألوان العذاب منهما في هذه السنواتِ الأخيرة؛ من سبٍّ وشتمٍ ودعواتٍ عليَّ وضربٍ مبرحٍ وتضييقٍ وحرمان من النفقة وكل شيء! لا أريد أن أذكرَ كل ما فعلوه بي؛ فهو يُدمِي القلب، أبي يضربني كثيرًا على رأسي، وأخي يُساعده بأمره، أكاد أَفقِد عقلي مِن كثرة وشدَّة الضرب! أمي تحرِّض عليَّ إخوتي ليضربوني، وأحيانًا يستمعون منها، وأحيانًا لا! وإذا سَمِعوا منها، فذلك يوم العذاب المرِّ، أبي يَضْرِبُني بغلٍّ وحِقْدٍ! كم أصبحتُ أكرهه، حتى في وقت الرضا أكرهه! فهو لا يَضرِبُني، بل يعذِّبني، ربما مَن هُم في السجون الأمريكية أحسنُ مني حالًا!
منعاني مِن المال، ومِن كلِّ ما أحتاج، ولا أجد المال؛ فأنا لا أعمل، ولم أُكمِل تعليمي، ولا أمتلك شيئًا، فمَن أين آتي بالمال؟! أدخلتُ في المشكلة أناسًا مِن أقاربي؛ لأن والديَّ أوصلاني لمرحلة الحاجة الماسَّة، ولا أجد ما يكفيني، لكن الأقارب لم يُفلِحُوا معهما!
فكَّرتُ في أخْذ المال منهما دون علمِهما، وحذَّرتهما من أن أتعلَّم هذه العادة السيئة؛ بسبب تقصيرهما، ولكنهما قالا: إن وجدتِ فخُذِي! هما واثقان أني لنْ آخذ المال، فليس منَّا مَن يمدُّ يدَه على شيء ليس له، وأنا فعلًا أخذتُ مرَّة من والدي، ومرة مِن والدتي، وأنوي أن آخذ مرة ثالثة؛ لأني محتاجة الآن! ولكني نادِمةٌ على أخْذي المال مِن والدتي دون علمِها؛ لأنها ليستْ مُكَلَّفة بالإنفاق عليَّ، ولكني لا أعرف مكان مال أبي؛ لأنه في المرة الأولى عَلِم أن المال نقص، فغيَّر مكان حفظِه للمال، وشكَّ فيَّ، ولكن ليس معه دليلٌ قطعي! وأنا واللهِ أنوي أن أردَّ لهما المال إذا يسَّر الله لي ورَزَقَني مِن ماله، ولا أريد منهما مالًا، ولكن الآن ليس أمامي حلٌّ غير الأخذ منهما؛ فديوني وحاجتي كثرتْ، وما زلتُ أعيش في عذابٍ؛ فمُشكلتي ليستْ في المال فقط، بل مشكلتي في أنهما يُضيقان عليَّ في كل شيء، لدرجة أني أُمنَع من استخدام أشياء كثيرة في المنزل في متناول الجميع ويقولان: اشتري أنتِ لكِ! بل حتى الطعام الذي آكله يريدانِ ثمنَه! ما هذا العذاب والظُّلْم؟! أصبحتُ أَسْتَحْيِي أن أمدَّ يدي على الأكل؛ لأنهما يتكلمان عليَّ، ويُراقبان أكلي؟! ليس بخلًا؛ لأن هذا لا يكون إلا معي فقط! أنا لا أُبالِغ واللهِ بل ما أُخفِيه أشدُّ مرارة مِن هذا، ولا أريد الإفصاح عن كلِّ أفعالهما معي.
أشعر بأن أمي تُعاملني كضرَّة لها، لا كأمٍّ حنون، وأبي جافٌّ جدًّا وصعبٌ، ولم تَعُدْ في قلبِه ذرَّة رحمةٍ أو حنان عليَّ، أما بقيَّة أخواتي وإخواني فلهم كل شيء، وهم يُصرِّحون بهذا، ويعلمون أنه يفرِّق بيننا! كل هذا لإيذائي وإذلالي.
يتكلَّمان عليَّ بكل ذمٍّ في أي مجلس يجلسان فيه، وإذا زارنا أيُّ أحدٍ، يتكلَّمان عليَّ وينتقصاني، وجُلُّ كلامِهما غيرُ صحيح، والله يَشهَدُ على قولي.
لا يَشْعُرانِ بأني ابنتهما بتاتًا، ولا يُشفقان عليَّ! أبي يَشتَهِي قتلي، ودائمًا أسمعُه يقول لأمي: سأقتلُها! في اليوم الذي أُضرَب فيه وأَبكِي، تفرح أمي ويسعد قلبها، وكأن أحدًا بشَّرها بخيرٍ، أنا لا أتكلَّم معهما، ولكن في كل وقت يفتعلانِ معي مشكلة، أكون أنا الخاسرة؛ لأني أُضرب وأُهان، ولست بقوتهما.
حالتي النفسية الآن سيئة جدًّا جدًّا، وأشعر باليأس والضعف، والإهانة والمذلَّة، وكل شيء في هذه الدنيا مُؤْلِم، كل يوم أشكو حالي لله، وأبكي بين يديه، ولا أشعر بقرب نحوه سبحانه وتعالى أشعر أنه لا يريدني! وأنه يَكرَهُني! وهذا ما يقتلني؛ كيف تكون الدنيا ومَن بها عليَّ؟ ورب الأرض كذلك عليَّ؟ إحساسي بكُره الله لي دمَّر حياتي، وأفقدني الأملَ في الفرَج أو الرحمة!
فكَّرتُ في الانتحار مرَّات كثيرة لا تُعد، وأحتفظ بسمٍّ قاتلٍ في ثوانٍ معدودة، ولكني سأدخلُ النارَ إن انتحرتُ، وأنا لا أريد أن أدخلَ النارَ، مصيبتي في ديني، وليستْ في دنياي، فلو كان البلاءُ دنيويًّا، لصبرتُ واحتسبتُ، ولكن مصيبتي أنَّ الله لا يرضى إلا برضاهما، وهذا الذي دمَّر حياتي وحطَّمني، وأفقدني السعادةَ والأمل وكل شيء؛ لأنني أعلم يقينًا أن الله لن يرضى عني، ولن يقبل مني شيئًا، ولن يوفِّقني، بل أنا لستُ موفَّقة في شيءٍ قط، حتى في أَتْفهِ الأمور أصبحتُ فاشلة فيها؛ لأنها تخلو من توفيق الله، يَئِستُ من أن تَشْمَلنِي رحمةُ ربي وحالي مع والدي هكذا!
لو أن الله يرضى بغير رضاهما، لاسترحتُ وتحملتُ كلَّ شيء، وعملتُ لربي، وما ضرَّني ظلمهم، ولا تعذيبهم، ولا حرمانهم.
أصبحتُ أردُّ عليهما بمِثْل ما يقولان لي، وأدعو عليهما وأشتمهما؛ فقد كَرِهتُهما مِن كلِّ قلبي، وأتمنَّى لو يخرجان مِن حياتي، أدعو عليهما في كل وقتٍ بأن أتخلَّص منهما؛ لأنهما دمَّرا حياتي مع ربي.
يشتماني بأفظعِ الألفاظ، بل تدعو عليَّ والدتي بدعوات سيئة؛ بما يسوِّد الوجه، وأنتم تعرفون ما أقصد، وهي تعلم شدةَ التزامي، وحبي لطاعة الله، فَلِمَ تدمِّر حياتي بدعواتها وكلامها السيئ؟!
تدعو عليَّ بأن أُحرَم الذريةَ، وهذا يَحرِق قلبي؛ فأنا عاطفية حنونة جدًّا، وعاطفة الأمومة عندي كبيرة، فكيف سيكون حالي لو حُرِمتُ؟! تُعيِّرني بأني عانس! فهل هذه أمٌّ؟! وقد تقدَّم إليَّ الكثيرون، ولكن ليس فيهم مَن أَرتَضِي دينَه وخُلُقَه، ولا أريد أن أَقبَل أي أحدٍ لأفرَّ مِن الظُّلم، وأعيش حياة تعيسة، فأملي في الخلاص مِن الظلم الذي أعيش فيه زوجٌ صالح حنون.
أمِّي قاسية، ولا أشعر معها بالأمان، أكرهُها بشدة؛ حرقتْ قلبي، ودمَّرتْ حياتي، وغيَّرتْ طَبْعِي، إذا مَرِضتُ لا يشعرانِ بي قط! بل أبقى أيامًا أتألَّم وأبكي، ولا أستطيع القيام مِن المرض، ولا يحرِّك هذا فيهما ساكنًا، بل أرى فرحةً في عيونهما، وكأن الله انتقم لهما مني! وإذا مرض أحدُ إخوتي فلا يبقى طبيب ولا مستشفى، إلا ويذهبانِ به إليه!
لا تقولوا لي: إنه لا يوجد أبٌ أو أمٌّ لا يحبان أولادهما؛ فهذا غير صحيح، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ هناك مِن الآباء مَن نزعَ الله الرحمةَ مِن قلبِه.
لو بقيتُ على هذا الحال، فسأدخلُ النار بسببِهما، ولو انتحرتُ فسأدخل النار، ولو تركتُ ديني لأبتعد عن شرطِ رضاهما فسأدخل النار، فأين أذهب بحالي؟
لا تقولوا: اصبري عليهما، أو وُدِّيهما ولو كانا كافرين، فأنا لا أحبُّهما أبدًا! وأعلم جيدًا ما يجبُ عليَّ تُجَاههما، ولكني أَكرَهُهما.
أنا الآن أريدُ أن يَرضَى الله عني، وأن أَدخُل الجنَّة، دون أن أَذُوقَ النار، وأن أَعتَبِر نفسي يتيمةً، وهما ليسا والديَّ، وليس لهما أدنى حقٍّ عليَّ، فكيف يكون هذا؟
تعبتُ جدًّا جدًّا، وليس بيدي شيءٌ، أضطر أحيانًا لأن أَضرِبَ رأسي بالحائط مِن شدَّة ما أُعَانِي منهما، لا تعلمون مِقْدار الألم الذي أشعر به، والعذاب، والظلم، والحرمان الذي أعيشه، كم سألتُ الله أن يقبضني ويريحني من هذه الحياة، مع معرفتي بالنهي عن تمني الموت! ولكن وصلتُ إلى مرحلة لا أستطيع التحمل، أنا الآن حالتي النفسية متعبة جدًّا جدًّا، كل الأبواب سُدَّتْ أمامي، حتى باب الرحمن، فأنا أشعر أنه لا يحبُّني ولن يرحمني، ولا أعلم لِمَ يكون هذا من أجل اثنين يظلمانني؟
لا تقولوا: لأنهما تَعِبَا عليَّ في طفولتي، وأمي حَمَلتْني وسَهِرت، و... إلخ؛ فهذا لا يُبِيح لهما ظلمي وحرماني، وكل الأهل قد يَقْسُون على أبنائهم، ولكن لا يظلمونهم بهذه الطريقة القاسية.
ما راسلتُكم إلا لأني أيقنتُ أن الكفر واليأس من رحمة الله يهدِّدان ديني، وأخافُ أن أموت على الكفر، وفي حياتي لا أرى إلا الظلم والأسى.
أصبحت كثيرة التسخُّط على قدرِ الله عليَّ؛ لأنه ليس راضيًا عني، فلو أعلم أنه راضٍ، فسأصبر على أي بلاء، دون أن يكون في حياتي أمٌّ أو أبٌ، أريد أن أرتاح وأعود إلى الله كما كنت، دون رضا الوالدين، وأعتذر جدًّا على طول رسالتي.
الأخت الكريمة، قرأتُ رسالتَكِ بعنايةٍ فائقةٍ؛ فوجدْتُ مُشكلةً كبيرةً، ورأيتُ أنه مع طولِها، وعباراتِها المعبِّرةِ، والمُفْعَمَةِ بالمشاعِر المتضارِبةِ يُمكن أن نحصرَ المشكلةَ في أمرينِ رئيسينٍ؛ وهما: الانقلابُ والتحوُّل العجيب لجميع أفراد العائلة، وتواردُهم جميعًا على قسوةٍ غير معهودة تحيِّر العقول، حتى صار مَن هم في السجون الأمريكية أحسن حالًا منكِ!
والأمر الآخر: قنوطٌ ويأسٌ نابعٌ مِن ظنٍّ خاطئٍ منكِ بأنَّ الله غيرُ راضٍ عنكِ يَدفَعُكِ لعدمِ الرغبة في الحياة!
وسأبدأ معكِ في هذا الأخير؛ لأنه الأهمُّ، ولما يظهر أنه سببُ التوتر، حتى وقعتِ في الدور السبقي المنافي للمعقول؛ فأنتِ لا تصبرين؛ لزعمِكِ بأن الله غيرُ راضٍ عنكِ، ولو علمتِ أنه سبحانه راضٍ عنكِ، لصبرتِ، وهكذا المقدِّمة تؤدِّي للنتيجة، وهي بدورها تؤدِّي للمقدمة.. وهكذا، ولكن لو هدأتِ قليلًا، وصبرتِ أو تصبَّرتِ، لعلمتِ أن الصبر جالبٌ لرضا الله.
والصبرُ يجلب الرِّضا يقينًا، وهذه نواميسُ كونيةٌ لا تتبدَّل ولا تتخلَّف، وقد أمرنا الله بها، وهو سبحانه يُحِبُّ الصابرين، وما أُعطِي أحدٌ عطاءً أوسعَ ولا أفضل من الصبرِ، والله يوفِّي الصابرين أجرَهم بغيرِ حسابٍ، وما كان لكِ وأنتِ الفتاة المتدينة أن يخدَعَكِ الشيطان، ويَلبِس عليكِ، ويُوقِعكِ في القنوط، بعدما قرأتِ قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]؛ فسَعَةُ رحمتِه وكرمُه، وعظيمُ فضله، يحثُّ عباده على التوبة والإنابة، بل يبدِّل سيئات عباده التائبين حسناتٍ؛ فقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70]، وخصَّ الكفَّار بالعذاب؛ فقال تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 17]، وقال تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]، وآيات الرحمة والرجاء أكثرُ من أن نُحِيط بها في هذا الجواب المختصَر؛ قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6]، وقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا . يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26 - 28]، وقال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]، وقال: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 73]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 7].
فتأمَّلي شَرَح اللهُ صَدْرَكِ وتدبَّري تلك الآياتِ تدبرًا يمسُّ قلبَكِ؛ لتُدرِكي سَعَة رحمةِ ربِّ العالمين بعباده، فبذكْر آيات الرحمة تَطْمَئِنُّ النفس، ويَسكُن القلب إلى ذِكْر الله، ويحصل له الفرَح؛ فيَلِين، كما قال الرحمن الرحيم: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]؛ ففرِّي إلى الله تعالى الذي يَبسُط يدَه بالليل؛ ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار؛ ليتوبَ مسيءُ الليل، حتى تطلعَ الشمس مِن مغربها؛ كما رواه مسلمٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن شَهِد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، وأن عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنةَ حقُّ، والنار حق؛ أدخلَه الله الجنةَ على ما كان مِن العمل" [متفق عليه]، وفي رواية: "حرَّم الله عليه النار".
قال عز وجل في الحديث القدسي: "مَن جاء بالحسنة فله عشرُ أمثالِها وأزيد، ومَن جاء بالسيئةِ فجزاؤه سيِّئة مثلها أو أغفر، ومَن تقرَّب مني شبرًا تقرَّبتُ منه ذراعًا، ومَن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، ومَن أتاني يَمشِي أتيتُه هرولةً، ومَن لَقِيني بقُرَابِ الأرض خطيئةً لا يُشْرِك بي شيئًا لقيتُه بمثلِها مغفرةً، ولا يَهلِكُ على الله تعالى إلا هالك"؛ أي: مَن أسْرَف جدًّا على نفسه، فصار بعد كلِّ تلك الرحمة والكرم العميم إلى الكفر الصرف، فتأمَّلِي فضلَ الله ورحمته ووعدَه الذي لا يخلف بالزيادة، بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعفٍ، وإلى أضعاف كثيرة؛ فمغفرةُ الله عز وجل ورحمته أوسعُ مِن غضبه، ولذلك لا ينزلُ عقابه ابتداءً، وإنما يستعمل رحمته سبحانه وتعالى ويهديها عباده أولًا، ولما خلق الله الخلق كَتَب في كتابٍ فهو عنده فوق العرش: "إن رحمتي تَغلِبُ غضبي"، وهو حديث شريف، رُوِي في صحيح البخاري ومسلم، وفي رواية: "غَلَبت غضبي"، وفي رواية: "سَبَقتْ غضبي".
وفيهما أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَبْيٍ، فإذا امرأةٌ من السَّبْي تسعى؛ إذ وجدتْ صبيًّا في السبي، أخذتْه فألزقتْه ببطنها، فأرضعتْه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأةَ طارحةً ولدها في النار؟، قلنا: لا والله، فقال: للهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها"!، فبيَّن أن الله أرحم بعباده من أرحم الوالدات بولدها، فإنَّ مَن جعَلها رحيمةً أرحم منها.
وهذا مما يدل عليه قوله: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3]، وقولنا: "الله أكبر"، فإنه سبحانه أرحم الراحمين، وخير الغافرين، وخير الفاتحين، وخير الناصِرين، وأحسن الخالقين، وهو نِعْم الوكيل، ونِعْم المولى ونِعْم النَّصِير، وهذا يقتضي حمدًا مُطلقًا على ذلك، وأنه كافٍ مَن توكَّل عليه، وأنه يتولَّى عبده توليًا حسنًا، وينصره نصرًا عزيزًا، وذلك يقتضي أنه أفضل وأكمل مِن كلِّ ما سواه، وهو سبحانه سميعٌ قريب؛ قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50]، وهو تعالى رحيم ودودٌ، و"الودُّ": اللطف والمحبَّة؛ فهو يودُّ عباده المؤمنين، ويجعل لهم الودَّ في القلوب؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، قال ابن عباس وغيره: يحبُّهم، ويحبِّبُهم إلى عباده.
وتدبُّر تلك الأدلةِ يُدحِض القنوطَ ويُعدِمه، فمَن يَحُول بينكِ وبين تحصيل رضا ربكِ بالصبر والعمل الصالح، وإن أذنبتِ مهما أذنبتِ فإنه يغفر سبحانه ولا يبالي؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: "أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفِرْ لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أَذنَب عبدي ذنبًا فعَلِم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويَأخُذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أَيْ رب اغفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرتُ لعبدي، فليفعل ما شاء" [متفق عليه].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو لم تُذْنِبُوا لذَهَب الله بكم، وجاء بقوم يُذْنِبُون، فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم" [رواه مسلم].
فأَحسِني الظنَّ بالرحمن الرحيم؛ فهو سبحانه وعزَّ وجل عند ظنِّ عبدِه به؛ كما رُوي في الصحيحين واللفظ لمسلم: "أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرُني، والله، للهُ أفرحُ بتوبةِ عبدِه مِن أحدكم يجدُ ضالَّته بالفَلَاةِ، ومَن تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، ومَن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلتُ إليه أُهَرْوِل".
وهذا الحديثُ بمفرده كان يَكفيكِ؛ فمعناه باعثٌ على عدم القنوط مِن رحمة الله تعالى فإذا أذنب تاب، وإذا ابتُلِي صبَر.
ألم تتذكَّري أنه سبحانه لكمال رحمته الواسعة، وحلمِه العظيم، وأن مَن تاب إليه تاب عليه دعا عبَّاد المسيح مع كذبهم وافترائهم، وفجورهم وبُهْتهم، وكفرهم وعنادهم، وقولهم عن الرسولِ والقرآن ما قالوا دعاهم للتوبة والإقلاع عمَّا هم فيه إلى الإسلام والهُدَى؛ فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 73، 74]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]، قال الحسن البصري: "انظروا إلى هذا الكرَم والجُودِ، قتلوا أولياءه وهو يَدعُوهم إلى التوبة والرحمة سبحانه وتعالى"!
فعُودِي لرُشْدِكِ، واستعيذي بالله مِن الشيطان الرجيم، واقرئي القرآنَ بتدبُّر، وَقِفِي على رؤوس الآيات، وتعرَّفي على رحمة الله؛ بالنظر في كتابه المقروء، وهو القرآن، وكتابه المنظور، وهو الكون ومنه نفسُكِ التي بين جنبيكِ وكتابه المأثور، وهو التاريخ.
أما الأمرُ الآخر، وهو الانقلابُ العجيب، والتحوُّل مِن النقيض للنقيض للوالدين معك، وقسوتهما غير المعهودة، ألستَ معي في هذا؟! كيف ينقلب الحبُّ كرهًا، والرحمة قسوةً، والكرم بخلًا، والأب والأم جبَّارين؟! فهذا ما لا أستطيع فهمَه، ولا تصوُّره، وأنتِ لم تُفصِحي عن سبب التغيُّر، وهم وأنتِ مِن العقلاء الأسوياء، ومن الممتنع عادةً أن يحصلَ هذا التغيُّر الكلي بدون سببٍ! فهذا لا يعرف في جنس البشَر ولا في عاداتهم! لهذا فأنا أُلَاحِظ في كلامِكِ فجوةً زمنيةً، وحلقةً مفقودةً، خاصةً أنكِ تقولين: إن الجميع ضدَّك على قلبِ رجلٍ واحدٍ، فكيف تواردَ كلُّ هؤلاء على معاداتِكِ؟ فابحثي رحمكِ الله عن السبب، وستجدينه مختبئًا في نفسِكِ، وعالجي الأمر؛ فلكلِّ داءٍ دواءٌ، مهما عظم الداء، فإن أَعْيَاكِ شيء عظيم، فافزعي إلى الله، واصدقي اللجوء إلى مَن يُجِيب المُضْطَرَّ إذا دعاه، ويَكشِف السوء، ولتطرحي نفسَكِ بين يديه على بابه، مستغيثةً به، متضرِّعةً متذلِّلةً مستكينةً، فمتى وفِّقتِ لذلك، فقد قرعتِ باب التوفيق، فالله يَهدِي مَن يشاء إلى الصواب، ويفتح لمن أدام قرْع باب التوفيقِ منه كلَّ باب، وله النعمة السابغة، والحجة البالغة.
وافعلي ما هو واجبٌ عليكِ؛ مِن برٍّ ورحمةٍ، وصلةٍ وحُسنِ خلقٍ، واتركي نقيض هذا واصبري؛ فالنصرُ مع الصبر؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].
والله تعالى يَختَبِرُنا بما شاء، كيف شاء، متى شاء؛ قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31]؛ فالذين اتَّصلَتْ قلوبهم بالقوَّة الكبرى لا يُفتَنون، والإيمان ليس كلمةً تُقال، إنما هو حقيقةٌ ذاتُ تكاليفَ، وأمانةٌ ذاتُ أعباءٍ، وجهادٌ يحتاج إلى صبرٍ، وجهدٌ يحتاج إلى احتمال على الفتنة التي هي أصلٌ ثابتٌ، وسنة جارية، صبر على أمانة الله التي لا يحملها إلا أهلها، وفي قلوبهم تجرُّد لها وإخلاص، ويُؤثِرون رضا الله على غيره، وفتنة الأهل والوالدين خصوصًا أمرٌ شاقٌّ عسير، والله المستعان، وعليه التكلان، وقد قصَّ الله علينا في القرآن نبأَ خليله إبراهيم مع أبيه آزر؛ فتدبَّري القصة، واستقيمي على صراطِ الإيمان، واستَوِي على مُرْتَقاه، واصبِرِي على المعوقات والمثبِّطات، وأُهدِي إليك دُرَّةً من دُرَر أديب الإسلام "سيد قطب" في ظلاله؛ حيث يقول: "وما بالله - حاشا لله - أن يعذِّب المؤمنين بالابتلاء، وأن يُؤذِيَهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمُّل الأمانة".
فهي في حاجةٍ إلى إعداد خاصٍّ، لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاقِّ، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه، على الرغم من طول الفتنة، وشدة الابتلاء.
والنفس تصهرُها الشدائد، فتَنفِي عنها الخبث، وتَستَجِيش كامنَ قُوَاها المذخورة، فتستيقظ وتتجمَّع، وتطرقها بعنف وشدة؛ فيشتد عُودُها، ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامدًا إلا أصلبُها عودًا، وأقواها طبيعةً، وأشدها اتصالًا بالله، وثقةً فيما عنده من الحُسْنَيَينِ النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية، مؤتمنين عليها بعد الاستِعداد والاختبار.
وإنهم ليتسلمون الأمانةَ وهي عزيزةٌ على نفوسهم بما أدَّوا لها مِن غالي الثمن، وبما بَذَلوا لها من الصبر على المِحَن، وبما ذاقوا في سبيلِها مِن الآلام والتضحيات، والذي يبذل من دمه وأعصابه، ومن راحته واطمئنانه، ومن رغائبِه ولذَّاته، ثم يَصبِرُ على الأذى والحرمان؛ يَشعُر ولا شكَّ بقيمةِ الأمانةِ التي بَذَل فيها ما بذل، فلا يسلمها رخيصةً بعد كلِّ هذه التضحيات والآلام" اهـ. من ظلال القرآن (5/ 2721).
والله أسأل أن يُلهِمَكِ رُشْدَكِ ويُعِيذَكِ من شرِّ نفسِكِ، وأن يَرفَع عنكِ البلاء، آمين.
- التصنيف:
- المصدر: