ظلمتُ فتاة وأريد أن أتوب!
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: قضايا الشباب - مساوئ الأخلاق - العلاقة بين الجنسين - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يُعرف عني وسط الناس حُسن الخُلُق، ولكني أشعر أني بيني وبين الناس من الصالحين وبيني وبين نفسي (إبليس)!
تعرَّفتُ على زميلةٍ لي، وحصلتُ على رقْمِ هاتفها بطُرُق ملتويةٍ وحادثتُها، وشرحتُ لها حبي، ونسجتُ لها الأباطيل والأكاذيب حول تعلُّقي بها ما لا يُطِيق الحجر إلا أن ينهارَ أمامه.
كنتُ أُرسِل لها رسائل على الفيس بوك، وكانتْ لا تردُّ، فجعلتُ فتاة تحدِّثها عن حبي لها، وأني أريد الزواج منها عقب الانتهاء من الدراسة، والحقُّ أني كنتُ كاذبًا كذبًا مركبًا، بالرغم من عدَم التكافؤ الاجتماعي والمادي بيننا، كما أن أخلاقها لا أتمنى أن تكونَ في زوجتي؛ فهي غير مُلتَزِمة بالحِجاب الإسلاميِّ الشرعيِّ وبعيدة جدًّا عنه، فجعلتُها لُعبة بين يديَّ، وأشعرتُها بجو من الحب، ووعدتها بالزواج!
ظنتْ فيَّ كل خير، ووثقتْ فيَّ؛ لِمَا منَّ الله علي به من مظاهر جيّدة، والخلق الرفيع أمام الناس، والتفوق الدراسي.. إلخ، ثم وجَّهتُ إليها رسالةً قاسيةً، فردتْ عليَّ بأنها لا تريدني زوجًا لها؛ لاختلاف أسلوب تفكيرِ كلٍّ منا؛ ظنًّا منها أني أسعى لخطبتها، وهي لا تعرف الحقيقة!
وجهتُ لها رسالة بعد ذلك مفادها أنها لا تصلح لي كزوجة، أو أمًّا لأولادي، ولا أرضى خُلُقها، وجرحت كرامتها، وكبرياءها، وإنسانيتها، ومسحت بها وبكرامتها وبأهلها التراب، ولم أتركْ لها خطأ اقترفتْه إلا وجعلتُ أبيِّن لها أن مثل تلك الأخلاق ومثل هذا السماح لي بالكلام معها يجعلها لا تصلح أن تكون زوجة لي أو أُمًّا لأولادي.
حملتْ رسالتي كلَّ معاني الإهانة والتحقير والازدراء، وأوقن أنها لو دعتْ عليَّ لاستجاب الله دعاءها، فأنا مَن ظلَمَها، فأنا في قلقٍ شديدٍ، وأريد أن أتوب، فكيف الطريق إلى التوبة؛ فأنا لا أنام، وأشعر بظلمي لها، وأظن أن الله سيعاقبني عقابًا شديدًا، فكيف السبيل؟
يُعرف عني وسط الناس حُسن الخُلُق، ولكني أشعر أني بيني وبين الناس من الصالحين وبيني وبين نفسي (إبليس)!
تعرَّفتُ على زميلةٍ لي، وحصلتُ على رقْمِ هاتفها بطُرُق ملتويةٍ وحادثتُها، وشرحتُ لها حبي، ونسجتُ لها الأباطيل والأكاذيب حول تعلُّقي بها ما لا يُطِيق الحجر إلا أن ينهارَ أمامه.
كنتُ أُرسِل لها رسائل على الفيس بوك، وكانتْ لا تردُّ، فجعلتُ فتاة تحدِّثها عن حبي لها، وأني أريد الزواج منها عقب الانتهاء من الدراسة، والحقُّ أني كنتُ كاذبًا كذبًا مركبًا، بالرغم من عدَم التكافؤ الاجتماعي والمادي بيننا، كما أن أخلاقها لا أتمنى أن تكونَ في زوجتي؛ فهي غير مُلتَزِمة بالحِجاب الإسلاميِّ الشرعيِّ وبعيدة جدًّا عنه، فجعلتُها لُعبة بين يديَّ، وأشعرتُها بجو من الحب، ووعدتها بالزواج!
ظنتْ فيَّ كل خير، ووثقتْ فيَّ؛ لِمَا منَّ الله علي به من مظاهر جيّدة، والخلق الرفيع أمام الناس، والتفوق الدراسي.. إلخ، ثم وجَّهتُ إليها رسالةً قاسيةً، فردتْ عليَّ بأنها لا تريدني زوجًا لها؛ لاختلاف أسلوب تفكيرِ كلٍّ منا؛ ظنًّا منها أني أسعى لخطبتها، وهي لا تعرف الحقيقة!
وجهتُ لها رسالة بعد ذلك مفادها أنها لا تصلح لي كزوجة، أو أمًّا لأولادي، ولا أرضى خُلُقها، وجرحت كرامتها، وكبرياءها، وإنسانيتها، ومسحت بها وبكرامتها وبأهلها التراب، ولم أتركْ لها خطأ اقترفتْه إلا وجعلتُ أبيِّن لها أن مثل تلك الأخلاق ومثل هذا السماح لي بالكلام معها يجعلها لا تصلح أن تكون زوجة لي أو أُمًّا لأولادي.
حملتْ رسالتي كلَّ معاني الإهانة والتحقير والازدراء، وأوقن أنها لو دعتْ عليَّ لاستجاب الله دعاءها، فأنا مَن ظلَمَها، فأنا في قلقٍ شديدٍ، وأريد أن أتوب، فكيف الطريق إلى التوبة؛ فأنا لا أنام، وأشعر بظلمي لها، وأظن أن الله سيعاقبني عقابًا شديدًا، فكيف السبيل؟
الإجابة: أخي الكريم، إن كنتَ حقًّا كما تقول راغبًا في العودة إلى الله، فتأمَّل معي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قبل أن أشرع في جوابك؛ فقد قال: "إن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يُوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين، وتعلمون أنَّا جميعًا متعاونون على البر والتقوى، واجبٌ علينا نصرُ بعضنا بعضًا".
فأقول لك: يلزمُك أولًا أن تحاسبَ نفسك، وتبحث فيها عن السبب الذي دفعك لما فعلت؛ فالمسألةُ لم تقف عند حد أنك استشرفت الفتن، وتطلعتَ إليها، فوقعت فيها وحَسْب، وإنما تعديتها إلى سادِيَّة عجيبة، رجوتَ من خلالها ليس الإيقاع بتلك الفتاة، وإنما تعذيبَها وإهانتَها، والتحقير منها، والازدراء لها، وجرح كرامتها، بل ومسحت بها وبكرامتها وبأهلها التراب على حدِّ تعبيرك ولا أظنك فعلت ما فعلت من أجل أنها متبرجة مثلًا، أو متحررة، أو غير ذلك مما حرمه الله؛ فالأمر في ظني أعمق من ذلك وأبعد، وستعرف السبب من نفسك إن طلبته، ومهما اعتذرتَ بشتى المعاذير عما وقع منك، وراوغت الناس، فلن تفعل ذلك مع نفسك التي بين جنبيك، وعليك هدايتُها إلى الخير، وأن تقودَها وتزكيَها، والويل لك إن انتهيت بها إلى الشر؛ فإن من الأعمال والأقوال والتصورات ما يخلف وراءه آثارًا تضاف لصاحبها في ختام الحساب!
والمقصود: أن تبحث عن أسباب سعيك في الانتقام من فتاة وإن كانت متبرجة، وتكذب عليها كل هذا الكذب، وتمكر بها هذا المكر، فقد يكون الدافع هو الحقد عليها، أو هناك مشكلة اجتماعية أو ثقافية أو معاناة من مرض نفسي! والفائدة من معرفة ذلك هو علاج نفسك، وتجنُّب وقوع ذلك في المستقبل؛ فكثير من مجتمعاتنا ومع الأسف الشديد تربَّت على بعض الصفات الجاهلية؛ كالحسد والحقد الطبقي، وعلى بغض أوساط اجتماعية معينة؛ لا لأنها تكرهها في الله بسبب ما هي عليه من معصية، وإنما تكرهها أو تحقد عليها؛ بسبب الفوارق المادية والاجتماعية، وهذه أمراض خطيرة فتَّاكة، وقد ورد في الشرع الحنيف الدواء الناجع لها.
فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الغِنَى عن كثرة العرض، ولكن الغِنَى غنى النفس" [متفق عليه].
والمعنى: أن الغِنى المحمود غنى النفس وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحِرْص على الزيادة؛ لأنَّ من كان طالبًا للزيادة، لم يستغنِ بما معه؛ فليس له غنى.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى".
وروى مسلم عن أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبِّحون وتكبِّرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرةً"، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
أما مسألة التوبة؛ فباب التوبة مفتوح، والله تعالى يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، والله تعالى غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، والذنب وإن عظم والكفر وإن غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب، بل يغفر الشرك وغيره للتائبين؛ كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين.
وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فإنها مقيَّدة خاصة؛ لأنها في حق غير التائبين، لا يغفر لهم الشرك، أما ما دون الشرك فهو في حقهم معلَّق بمشيئة الله تعالى، والله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]، ويقول تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104].
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يُذنِبون، فيستغفرون الله؛ فيغفر لهم".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (11/ 256): "فالإنسان ظالم جاهل، وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين، ومغفرته لهم، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يدخل الجنةَ أحدٌ بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ منه وفضل"، وهذا لا يُنافي قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى باء المقابلة والمعادلة، والقرآن أثبت باء السبب.
وقول من قال: "إذا أحب الله عبدًا، لم تضره الذنوب"؛ معناه: أنه إذا أحب عبدًا ألهمه التوبة والاستغفار، فلم يصرَّ على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر مَن أصر عليها؛ فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل مَن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومَن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره، وإنما عباده الممدوحون هم المذكورون في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135].
وقال في "مجموع الفتاوى" (15/ 53 - 55): "فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجلِa عباداتهم، التي ينالون بها أجلَّ الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب.
فإذا قال القائل: أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟ كان جاهلًا؛ لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم، فكيف يقال: إنهم لا يحتاجون إليها، فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم.
وإذا قال القائل: فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب، والاستغفار كذلك، قيل له: الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة، فأما ما حصل منه توبة، فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة؛ كما قال بعضُ السلَف: "كان داود بعد التوبة أحسن منه حالًا قبل الخطيئة"، ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر؛ فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء، وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصًا ولا عيبًا؛ بل لما تابوا من ذلك، وعملوا الصالحات، كانوا أعظم إيمانًا، وأقوى عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم؛ فلم يعرف الجاهلية كما عرَفوها، ولهذا؛ قال عمر بن الخطاب: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية".
فالعبد المؤمن إذا تاب، وبدَّل الله سيئاته حسنات؛ انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه الله بها، فلم تبقَ الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فمن نسي القرآن، ثم حفظه، خير من حفظه الأول، لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح وقوي، لم يضره المرض العارض، والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية، والتضرع، والخشوع لله، والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل، والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة؛ كمن ذاق الجوع، والعطش، والمرض، والفقر، والخوف، ثم ذاق الشبع، والرِّي، والعافية، والغنى، والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته، ولذته، والرغبة فيه، وشكر نعمة الله عليه، والحذر أن يقع فيما حصل أولًا ما لم يحصل بدون ذلك.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد، ويحصل له كمال القرب من الله، ويزول عنه كل ما يكره إلا بها".
والله أسأل أن يلهمك رشدك ويعيذك من شر نفسك.
فأقول لك: يلزمُك أولًا أن تحاسبَ نفسك، وتبحث فيها عن السبب الذي دفعك لما فعلت؛ فالمسألةُ لم تقف عند حد أنك استشرفت الفتن، وتطلعتَ إليها، فوقعت فيها وحَسْب، وإنما تعديتها إلى سادِيَّة عجيبة، رجوتَ من خلالها ليس الإيقاع بتلك الفتاة، وإنما تعذيبَها وإهانتَها، والتحقير منها، والازدراء لها، وجرح كرامتها، بل ومسحت بها وبكرامتها وبأهلها التراب على حدِّ تعبيرك ولا أظنك فعلت ما فعلت من أجل أنها متبرجة مثلًا، أو متحررة، أو غير ذلك مما حرمه الله؛ فالأمر في ظني أعمق من ذلك وأبعد، وستعرف السبب من نفسك إن طلبته، ومهما اعتذرتَ بشتى المعاذير عما وقع منك، وراوغت الناس، فلن تفعل ذلك مع نفسك التي بين جنبيك، وعليك هدايتُها إلى الخير، وأن تقودَها وتزكيَها، والويل لك إن انتهيت بها إلى الشر؛ فإن من الأعمال والأقوال والتصورات ما يخلف وراءه آثارًا تضاف لصاحبها في ختام الحساب!
والمقصود: أن تبحث عن أسباب سعيك في الانتقام من فتاة وإن كانت متبرجة، وتكذب عليها كل هذا الكذب، وتمكر بها هذا المكر، فقد يكون الدافع هو الحقد عليها، أو هناك مشكلة اجتماعية أو ثقافية أو معاناة من مرض نفسي! والفائدة من معرفة ذلك هو علاج نفسك، وتجنُّب وقوع ذلك في المستقبل؛ فكثير من مجتمعاتنا ومع الأسف الشديد تربَّت على بعض الصفات الجاهلية؛ كالحسد والحقد الطبقي، وعلى بغض أوساط اجتماعية معينة؛ لا لأنها تكرهها في الله بسبب ما هي عليه من معصية، وإنما تكرهها أو تحقد عليها؛ بسبب الفوارق المادية والاجتماعية، وهذه أمراض خطيرة فتَّاكة، وقد ورد في الشرع الحنيف الدواء الناجع لها.
فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الغِنَى عن كثرة العرض، ولكن الغِنَى غنى النفس" [متفق عليه].
والمعنى: أن الغِنى المحمود غنى النفس وشبعها، وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحِرْص على الزيادة؛ لأنَّ من كان طالبًا للزيادة، لم يستغنِ بما معه؛ فليس له غنى.
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى".
وروى مسلم عن أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبِّحون وتكبِّرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرةً"، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
أما مسألة التوبة؛ فباب التوبة مفتوح، والله تعالى يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، والله تعالى غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، والذنب وإن عظم والكفر وإن غلظ وجسم فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب، بل يغفر الشرك وغيره للتائبين؛ كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين.
وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فإنها مقيَّدة خاصة؛ لأنها في حق غير التائبين، لا يغفر لهم الشرك، أما ما دون الشرك فهو في حقهم معلَّق بمشيئة الله تعالى، والله تعالى يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25]، ويقول تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104].
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يُذنِبون، فيستغفرون الله؛ فيغفر لهم".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (11/ 256): "فالإنسان ظالم جاهل، وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين، ومغفرته لهم، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يدخل الجنةَ أحدٌ بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني اللهُ برحمةٍ منه وفضل"، وهذا لا يُنافي قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى باء المقابلة والمعادلة، والقرآن أثبت باء السبب.
وقول من قال: "إذا أحب الله عبدًا، لم تضره الذنوب"؛ معناه: أنه إذا أحب عبدًا ألهمه التوبة والاستغفار، فلم يصرَّ على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر مَن أصر عليها؛ فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل مَن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومَن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره، وإنما عباده الممدوحون هم المذكورون في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135].
وقال في "مجموع الفتاوى" (15/ 53 - 55): "فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجلِa عباداتهم، التي ينالون بها أجلَّ الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب.
فإذا قال القائل: أي حاجة بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟ كان جاهلًا؛ لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم، فكيف يقال: إنهم لا يحتاجون إليها، فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم.
وإذا قال القائل: فالتوبة لا تكون إلا عن ذنب، والاستغفار كذلك، قيل له: الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبة، فأما ما حصل منه توبة، فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة؛ كما قال بعضُ السلَف: "كان داود بعد التوبة أحسن منه حالًا قبل الخطيئة"، ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر؛ فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء، وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصًا ولا عيبًا؛ بل لما تابوا من ذلك، وعملوا الصالحات، كانوا أعظم إيمانًا، وأقوى عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم؛ فلم يعرف الجاهلية كما عرَفوها، ولهذا؛ قال عمر بن الخطاب: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية".
فالعبد المؤمن إذا تاب، وبدَّل الله سيئاته حسنات؛ انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه الله بها، فلم تبقَ الذنوب بعد التوبة مضرة له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فمن نسي القرآن، ثم حفظه، خير من حفظه الأول، لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح وقوي، لم يضره المرض العارض، والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية، والتضرع، والخشوع لله، والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل، والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة؛ كمن ذاق الجوع، والعطش، والمرض، والفقر، والخوف، ثم ذاق الشبع، والرِّي، والعافية، والغنى، والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته، ولذته، والرغبة فيه، وشكر نعمة الله عليه، والحذر أن يقع فيما حصل أولًا ما لم يحصل بدون ذلك.
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمن، ولا يكمل أحد، ويحصل له كمال القرب من الله، ويزول عنه كل ما يكره إلا بها".
والله أسأل أن يلهمك رشدك ويعيذك من شر نفسك.