الكل يطلب مني حلق لحيتي!
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - استشارات تربوية وأسرية -
السلام عليكم، أنا شاب مغربي، عمري 24 سنة، ملتزم، خجولٌ قليلاً، أفضل البقاءَ بعيدًا عن النَّاس؛ مشكلتي هي: أنه بعد كبري؛ أصبح كلٌّ من عائلتي وأصحابي يُلِحُّون عليَّ أن أحلقَ لحيتي، فماذا أفعل؟
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فالحمد لله الذي مَنَّ عليك بالالتزامِ بإعفاء اللحية، والاقتداء برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنَّ المؤمنَ الحق والذي يخشى الله، ويرجو ثوابه، ويخافُ عقابه يدفعه إيمانُه إلى التأسِّي بالرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، نسألُ الله أن يثبتَنا وإياك على العملِ بالسنة، وأن يجنبَنا وإياك مضلاتِ الفتن؛ ما ظهرَ منها وما بطن.
أمَّا إلحاحُ أقاربِكَ وأصحابِكَ عليك لتحلق لحيتك، فيجبُ عليهم أن يتقوا الله في أنفسِهم، ويكفُّوا عن أمرِهم لك بالمنكر، كما عليك أن تخبرَهم وتذكِّرَهم بالله، وبأنَّ إعفاءَ اللحية واجبٌ على كلِّ مسلم، وأنها سنةُ نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم وسنة الأنبياء من قبلِه صلوات الله عليهم جميعًا، ونحن قد أُمرنا بطاعةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والاقتداء والتأسِّي به، والآياتُ والأحاديثُ في ذلك كثيرة؛ منها قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54]، ثم هدَّد وتوعد على مخالفتِه بقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54]، والتَّهديد على المخالَفةِ دليلُ الوجوب، وأيضًا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وأيضًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، والمُراد من قولِه: {قَضَى}؛ أي: ألْزَم، ومن قوله: {أَمْرًا}؛ أي: مَأمورًا، وما لا خِيَرة فيه من المأموراتِ لا يكون إلاَّ واجبًا.
وما أحسن ما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (1 / 80): "فالإسلامُ مبنيٌ على أصلين؛ أحدهما: أن نعبدَ الله وحده لا شريك له، والثاني: أن نعبدَه بما شرعه على لسانِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، لا نعبده بالأهواءِ والبدع؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19]، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21]، فليس لأحدٍ أن يعبدَ الله إلا بما شرعه رسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم من واجبٍ ومستحب، لا يعبدُه بالأمورِ المبتدعة؛ كما ثبت في السننِ من حديثِ العرباض بن سارية، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي مسلمٍ أنه كان يقولُ في خطبته: "خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"" اهـ.
فلا تلتفتْ إلى كلامِهم، ولا يجوزُ لك بحالٍ من الأحوال أن تركنَ لكلامهم، أو تترك شيئًا من الدين حياءً من أحد؛ فَرِضَا الله مقدَّمٌ على رضا من سواه من البشر، كائنًا مَن كان، وحبُّ الله وحبُّ ما يحبه الله مقدَّمٌ على حبِّ من سواه؛ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، وكذلك: لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق؛ كما ثبت ذلك عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
فعليك أخي الكريم أن تُقدِّم حكمَ الله وأمره، وأمر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وسنته على كلِّ شيء، حتى لو كانت زوجتَك، نسأل الله لنا ولك، ولها ولسائرِ المسلمين، حسنَ الاتباع والاقتداء برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
هذا؛ وإعفاء اللِّحية من الأوامرِ الشَّرعيَّة الأكيدة، التي تفيدُ الوجوب؛ ففي "الصحيحَيْن" وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "خالِفوا المشركين؛ وَفِّروا اللِّحى، وأَحْفُوا الشَّوارب".
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "قُصُّوا الشوارِبَ، وأعفوا اللِّحى؛ خالِفوا المُشركين" [متَّفقٌ عليه].
وقوله: "جُزُّوا الشوارب، وأرخُوا اللِّحى، خالِفوا المَجوس" [رواه أحمد ومسلم].
والأحاديثُ في هذا الباب كثيرةٌ في "الصحيحَيْن" وغيرهما، والأمر يَقتضي الوجوبَ في قولِ جمهور الأصوليِّين والفقهاء؛ وقد اجتمع في ذلك قولُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وفِعْله، وهو هَدي النَّبيِّين جميعًا، وكذلك فِعْل الصَّحابة، والتَّابعين لهم بإحسان، لا يُعرَف منهم مخالِفٌ؛ ولذلك حكى أبو محمد بن حزم رحمه الله الإجماعَ على حُرْمَةِ حَلقها؛ حيث قال: "واتَّفقوا أنَّ حَلقَ جميعِ اللِّحية لا يَجوز" اهـ، وأقرَّه شَيخُ الإسلام ابنُ تيمية في "نقض مراتب الإجماع"؛ فلم يَتعقَّبه.
وقال الإمامُ ابن عبد البرِّ في "التمهيد": "يحرُم حَلقُ اللِّحية، ولا يَفعله إلا المُخنَّثون منَ الرِّجال"؛ يعني بذلك: المتشبِّهين بالنِّساء.
وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم "كثيف شعر اللِّحية" [رواه مسلمٌ عن جابر رضي الله عنه] وفي روايةٍ: "كثيف اللِّحية"، وفي أخرى: "كَثَّ اللِّحيةِ"، والمعنى واحدٌ.