كيف يعود إليَّ إيماني وتعلقي بربي؟!
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - العقيدة الإسلامية - الزهد والرقائق - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كيف يعود إليَّ إيماني، وتعلُّقي بربي، فأنا أحسُّ أنه لا طعم لشيء؟
لعلَّ المعاصي فعلتْ بي فعلتها فأسرتْني، أريد أن أبكي بين يدي ربي، وأتوب إليه، وأستغفره.
لا أدري ماذا أقول؟ لكن علمي بخبرتكم تكفي لأن أثقَ بأنكم ستتفضَّلون عليَّ بجواب شافٍ؛ بوركتم.
كيف يعود إليَّ إيماني، وتعلُّقي بربي، فأنا أحسُّ أنه لا طعم لشيء؟
لعلَّ المعاصي فعلتْ بي فعلتها فأسرتْني، أريد أن أبكي بين يدي ربي، وأتوب إليه، وأستغفره.
لا أدري ماذا أقول؟ لكن علمي بخبرتكم تكفي لأن أثقَ بأنكم ستتفضَّلون عليَّ بجواب شافٍ؛ بوركتم.
الإجابة: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه، أما بعد:
فعودتُكِ لمثل ما كنتِ عليه من الشعور بطعم الإيمان، أن تعملي ما كنتِ تفعلينه من قبلُ، وتنتهي عما كنتِ تنتهين، ثم التعرُّف على الله تعالى بمعرفة أسمائه الحسنى، وصفاته العلا، فقد ذاق طعمَ الإيمانِ مَن ظفر بهذه المعرفة، وعاش في نعيمٍ لا يشبهه إلا نعيم الآخرة، ولا يزال راضيًا عن ربه، والرضا جنة الدنيا، ومستراح العارفين؛ فإنه طيِّب النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله، ولتطمئني إلى أحكام الله الدينية، ولترضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، وما ذاق طعم الإيمان مَن لم يحصلْ له ذلك، وهذا الرضا هو بحسبِ معرفتكِ بعدلِ الله، وحكمته، ورحمته، وحسن اختياره؛ فكلما كنتِ بذلك أعرف، كنتِ به أَرضَى، ولتعلمي كذلك أن قضاء الله سبحانه لعبدِه دائرٌ بين العدل والمصلحة، والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك ألبتة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (2/ 453): "فإنَّ العلم والإرادة أصلٌ لطريق الهُدَى والعبادة، وقد بعث الله محمدًا صلى الله تعالى عليه وسلم بأكمل محبة في أكملِ معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله التي هي أصل الأعمال المحبةَ التي فيها إشراك وإجمال؛ كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]؛ ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبةَ للذوق الإيماني والوَجْد الديني؛ كما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجدَ حلاوة الإيمان في قلبه؛ مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومَن كان يحبُّ المرءَ لا يحبه إلا لله، ومَن كان يكرهُ أن يَرجِع في الكفرِ بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار"، فجعل صلى الله تعالى عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقًا بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله، وبكراهة ضد الإيمان، وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا"، فجعل ذوقَ طعم الإيمان معلقًا بالرضا بهذه الأصول، كما جعلَ الوَجْد معلقًا بالمحبة؛ ليفرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين الذوق والوَجْد الذي هو أصل الأعمال الظاهرة، وثمرة الأعمال الباطنة، وبين ما أمر الله به ورسوله، وبين غيره؛ كما قال سَهْل بن عبدالله التستري: "كل وجدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطلٌ؛ إذ كان كل مَن أحب شيئًا فله ذوقٌ بحسب محبته، ولهذا؛ طالب الله تعالى مدَّعي محبته بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]"، قال الحسن البصري: "ادَّعى قومٌ على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبُّون الله؛ فطالبَهم بهذه الآية؛ فجعل محبةَ العبد لله موجبةً لمتابعة رسوله، وجعل متابعةَ رسوله موجبةً لمحبة الربِّ عبدَه، وقد ذكر نعتَ المحبِّين في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، فنَعَت المحبِّين المحبوبين بوصف الكمال الذي نعت الله به رسوله الجامع بين معنى الجلال والجمال، المفرِّق في الملتين قبلنا؛ وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله".
وأما قولكِ: "لعلها المعاصي"؛ فأَيْقِني أن الذنوب مهما كثرتْ، ومهما عظمتْ، فإنها لا تتكاثر، ولا تتعاظم أمام رحمة الله العظيمة الواسعة، وهو الذي يقول جل جلاله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه: "يا ابن آدم، إنك ما دعوتَني ورجوتَني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغتْ ذنوبك عنانَ السماء، ثم استغفرتَني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أتيتَني بقُرَابِ الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تشرك بي شيئًا، للقيتُك بقُرَابها مغفرةً" [أخرجه الترمذي في السنن].
فأبشري يا أختي برحمة الله؛ فإن الله جل وعلا يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، بل أبشري أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنبِ كمَن لا ذنبَ له" [رواه الطبراني]، والذي يقول أيضًا صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدمَ خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون" [رواه الترمذي]، وقال الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70].
إذًا؛ فليست فقط مغفرةً ورحمةً، بل إنها فوق ذلك، إنها تبديل لهذه السيئات؛ من سيئات قبيحات إلى حسنات صالحات؛ ترتفعين بها عند رب الأرض والسموات، والحمد لله الذي جعلكِ تائبةً منيبةً إلى ربكِ.
هذا؛ ومن أعظم ما يُستَعان به على التخلُّص من أمراض القلوب الجالبة لحبِّ المعاصي مقاومةُ هذه الشهوات، ومعارضةُ الأهواء التي يُلقِيها الشيطان، وتُلقِيها النفس الأمَّارة بالسوء، وهذا يَقتَضِي منكِ دوام المحافظة على هذه التوبة، ويقتضي منكِ حرصًا بالغًا على أن تكوني بعيدةً عن أسباب المعاصي، فكما تحذرين من الوقوع في المعصية، فاحذري كذلك من أن تقعي في سببها، فالسببُ يُوصِل إلى المسبب، وسبب المعصية يقود إليها، ولذلك كان من حكمة الحكيم الخبير أنه لما حرَّم المحرمات حرَّم الوسائل التي تؤدِّي إليها؛ فمثلًا: لما حرَّم الزنا والفواحش، حرَّم أسبابها؛ فحرَّم النظر بين الرجال، والنساء الأجنبيات، وحرَّم الاختلاط بينهم، وحرَّم التعطر من النساء أمام الرجال الأجانب، وغير ذلك من الأحكام التي تُعِين على دَرْء هذه الفواحش والتخلص منها.
وأيضًا عدم الإصرار على المعاصي؛ وتأمَّلي كلام شيخ الإسلام ابن القيم في هذا الصدد وحاولي تدبُّره، والعملَ به، قال في معرض بيانه لمعنى الحديث القدسي: "لو أتيتَني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تشرك بي شيئًا، للقيتُك بقرابها مغفرةً" "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 336): "فلا يدل على أن ما عدا الشرك كله صغائر، بل يدل على أن مَن لم يشرك بالله شيئًا فذنوبُه مغفورة كائنةً ما كانتْ، ولكن ينبغي أن يعلمَ ارتباط إيمان القلوب بأعمال الجوارح، وتعلُّقها بها، وإلا لم يفهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ويقع الخلط والتخبيط.
فاعلم أن هذا النفي العامَّ للشرك ألا يشرك بالله شيئًا ألبتة، لا يصدر من مصرٍّ على معصية أبدًا، ولا يُمكِن مدمن الكبيرة والمصر على الصغيرة أن يصفوَ له التوحيد، حتى لا يشرك بالله شيئًا، هذا مِن أعظم المحال، ولا يلتفت إلى جدلي لا حظ له من أعمال القلوب، بل قلبه كالحجر أو أقسى، يقول: وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟ ولو فرض ذلك واقعًا، لم يلزم منه محال لذاته!
فدعْ هذا القلب المفتون بجدله وجهله، واعلم أنَّ الإصرار على المعصية يُوجِب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله؛ ما يصير به منغمسًا في بحار الشرك، والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه، إن كان له عقل، فإن ذلَّ المعصية لا بدَّ أن يقوم بالقلب فيُورِثه خوفًا من غير الله، وذلك شرك، ويُورِثه محبةً لغير الله، واستعانةً بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه، فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقة الشرك.
نعم قد يكون معه توحيدُ أبي جهلٍ، وعبَّاد الأصنام، وهو توحيد الربوبية، وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله، ولو أنجى هذا التوحيد وحدَه، لأنجى عبَّاد الأصنام، والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحِّدين.
والمقصود أن مَن لم يُشرِك بالله شيئًا يستحيل أن يَلقَى الله بقُرَاب الأرض خطايا، مصرًّا عليها، غير تائب منها، مع كمال توحيده الذي هو غاية الحب، والخضوع، والذل، والخوف، والرجاء للرب تعالى.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومَن والاه، أما بعد:
فعودتُكِ لمثل ما كنتِ عليه من الشعور بطعم الإيمان، أن تعملي ما كنتِ تفعلينه من قبلُ، وتنتهي عما كنتِ تنتهين، ثم التعرُّف على الله تعالى بمعرفة أسمائه الحسنى، وصفاته العلا، فقد ذاق طعمَ الإيمانِ مَن ظفر بهذه المعرفة، وعاش في نعيمٍ لا يشبهه إلا نعيم الآخرة، ولا يزال راضيًا عن ربه، والرضا جنة الدنيا، ومستراح العارفين؛ فإنه طيِّب النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله، ولتطمئني إلى أحكام الله الدينية، ولترضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، وما ذاق طعم الإيمان مَن لم يحصلْ له ذلك، وهذا الرضا هو بحسبِ معرفتكِ بعدلِ الله، وحكمته، ورحمته، وحسن اختياره؛ فكلما كنتِ بذلك أعرف، كنتِ به أَرضَى، ولتعلمي كذلك أن قضاء الله سبحانه لعبدِه دائرٌ بين العدل والمصلحة، والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك ألبتة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (2/ 453): "فإنَّ العلم والإرادة أصلٌ لطريق الهُدَى والعبادة، وقد بعث الله محمدًا صلى الله تعالى عليه وسلم بأكمل محبة في أكملِ معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله التي هي أصل الأعمال المحبةَ التي فيها إشراك وإجمال؛ كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]؛ ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبةَ للذوق الإيماني والوَجْد الديني؛ كما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجدَ حلاوة الإيمان في قلبه؛ مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومَن كان يحبُّ المرءَ لا يحبه إلا لله، ومَن كان يكرهُ أن يَرجِع في الكفرِ بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار"، فجعل صلى الله تعالى عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقًا بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله، وبكراهة ضد الإيمان، وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا"، فجعل ذوقَ طعم الإيمان معلقًا بالرضا بهذه الأصول، كما جعلَ الوَجْد معلقًا بالمحبة؛ ليفرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين الذوق والوَجْد الذي هو أصل الأعمال الظاهرة، وثمرة الأعمال الباطنة، وبين ما أمر الله به ورسوله، وبين غيره؛ كما قال سَهْل بن عبدالله التستري: "كل وجدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطلٌ؛ إذ كان كل مَن أحب شيئًا فله ذوقٌ بحسب محبته، ولهذا؛ طالب الله تعالى مدَّعي محبته بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]"، قال الحسن البصري: "ادَّعى قومٌ على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبُّون الله؛ فطالبَهم بهذه الآية؛ فجعل محبةَ العبد لله موجبةً لمتابعة رسوله، وجعل متابعةَ رسوله موجبةً لمحبة الربِّ عبدَه، وقد ذكر نعتَ المحبِّين في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، فنَعَت المحبِّين المحبوبين بوصف الكمال الذي نعت الله به رسوله الجامع بين معنى الجلال والجمال، المفرِّق في الملتين قبلنا؛ وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله".
وأما قولكِ: "لعلها المعاصي"؛ فأَيْقِني أن الذنوب مهما كثرتْ، ومهما عظمتْ، فإنها لا تتكاثر، ولا تتعاظم أمام رحمة الله العظيمة الواسعة، وهو الذي يقول جل جلاله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه: "يا ابن آدم، إنك ما دعوتَني ورجوتَني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغتْ ذنوبك عنانَ السماء، ثم استغفرتَني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أتيتَني بقُرَابِ الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تشرك بي شيئًا، للقيتُك بقُرَابها مغفرةً" [أخرجه الترمذي في السنن].
فأبشري يا أختي برحمة الله؛ فإن الله جل وعلا يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، بل أبشري أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنبِ كمَن لا ذنبَ له" [رواه الطبراني]، والذي يقول أيضًا صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدمَ خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون" [رواه الترمذي]، وقال الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70].
إذًا؛ فليست فقط مغفرةً ورحمةً، بل إنها فوق ذلك، إنها تبديل لهذه السيئات؛ من سيئات قبيحات إلى حسنات صالحات؛ ترتفعين بها عند رب الأرض والسموات، والحمد لله الذي جعلكِ تائبةً منيبةً إلى ربكِ.
هذا؛ ومن أعظم ما يُستَعان به على التخلُّص من أمراض القلوب الجالبة لحبِّ المعاصي مقاومةُ هذه الشهوات، ومعارضةُ الأهواء التي يُلقِيها الشيطان، وتُلقِيها النفس الأمَّارة بالسوء، وهذا يَقتَضِي منكِ دوام المحافظة على هذه التوبة، ويقتضي منكِ حرصًا بالغًا على أن تكوني بعيدةً عن أسباب المعاصي، فكما تحذرين من الوقوع في المعصية، فاحذري كذلك من أن تقعي في سببها، فالسببُ يُوصِل إلى المسبب، وسبب المعصية يقود إليها، ولذلك كان من حكمة الحكيم الخبير أنه لما حرَّم المحرمات حرَّم الوسائل التي تؤدِّي إليها؛ فمثلًا: لما حرَّم الزنا والفواحش، حرَّم أسبابها؛ فحرَّم النظر بين الرجال، والنساء الأجنبيات، وحرَّم الاختلاط بينهم، وحرَّم التعطر من النساء أمام الرجال الأجانب، وغير ذلك من الأحكام التي تُعِين على دَرْء هذه الفواحش والتخلص منها.
وأيضًا عدم الإصرار على المعاصي؛ وتأمَّلي كلام شيخ الإسلام ابن القيم في هذا الصدد وحاولي تدبُّره، والعملَ به، قال في معرض بيانه لمعنى الحديث القدسي: "لو أتيتَني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تشرك بي شيئًا، للقيتُك بقرابها مغفرةً" "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 336): "فلا يدل على أن ما عدا الشرك كله صغائر، بل يدل على أن مَن لم يشرك بالله شيئًا فذنوبُه مغفورة كائنةً ما كانتْ، ولكن ينبغي أن يعلمَ ارتباط إيمان القلوب بأعمال الجوارح، وتعلُّقها بها، وإلا لم يفهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ويقع الخلط والتخبيط.
فاعلم أن هذا النفي العامَّ للشرك ألا يشرك بالله شيئًا ألبتة، لا يصدر من مصرٍّ على معصية أبدًا، ولا يُمكِن مدمن الكبيرة والمصر على الصغيرة أن يصفوَ له التوحيد، حتى لا يشرك بالله شيئًا، هذا مِن أعظم المحال، ولا يلتفت إلى جدلي لا حظ له من أعمال القلوب، بل قلبه كالحجر أو أقسى، يقول: وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟ ولو فرض ذلك واقعًا، لم يلزم منه محال لذاته!
فدعْ هذا القلب المفتون بجدله وجهله، واعلم أنَّ الإصرار على المعصية يُوجِب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله؛ ما يصير به منغمسًا في بحار الشرك، والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه، إن كان له عقل، فإن ذلَّ المعصية لا بدَّ أن يقوم بالقلب فيُورِثه خوفًا من غير الله، وذلك شرك، ويُورِثه محبةً لغير الله، واستعانةً بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه، فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقة الشرك.
نعم قد يكون معه توحيدُ أبي جهلٍ، وعبَّاد الأصنام، وهو توحيد الربوبية، وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله، ولو أنجى هذا التوحيد وحدَه، لأنجى عبَّاد الأصنام، والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحِّدين.
والمقصود أن مَن لم يُشرِك بالله شيئًا يستحيل أن يَلقَى الله بقُرَاب الأرض خطايا، مصرًّا عليها، غير تائب منها، مع كمال توحيده الذي هو غاية الحب، والخضوع، والذل، والخوف، والرجاء للرب تعالى.