قضاء الصلوات الفائتة
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الصلاة - استشارات تربوية وأسرية -
السؤال: أنا شابٌّ في السادسةَ عشرةَ مِن عمري، مشكلتي بدأتْ منذ سنِّ التكليف؛ فلم أكنْ أُحافظ على صلاتي، وكنتُ أُصَلِّي أسبوعًا، وأتركها شهرًا، ولكن بعد أن أصبحتُ في الخامسةَ عشرةَ مِن عمري، بدأتُ أشعر بالذنب، وتبتُ أكثر مِن مرة، ولكنني أعودُ لترْكِها!
الآن يعلم الله أنني تبتُ توبةً صادقةً مخلصةً، وعدتُ للصلاة - ولله الحمد - لكن يُراودني شعورٌ بالذنب عنْ كلِّ الصلوات التي تركتُها، وتُراودني أحاسيسُ ووساوسُ في كلِّ صلاةٍ أنها لن تُقبَل؛ لأني لم أقضِ ما قد تركتُه مُسبقًا.
يعلم الله أنني منذ فترةٍ وأنا أتعذَّب في صلاتي، وأقول في نفسي أثناء الصلاة: إنها لن تُقبَل؛ مع العلم بأنني لا أُحصي عدد الصلوات التي تركتُها.
الآن يعلم الله أنني تبتُ توبةً صادقةً مخلصةً، وعدتُ للصلاة - ولله الحمد - لكن يُراودني شعورٌ بالذنب عنْ كلِّ الصلوات التي تركتُها، وتُراودني أحاسيسُ ووساوسُ في كلِّ صلاةٍ أنها لن تُقبَل؛ لأني لم أقضِ ما قد تركتُه مُسبقًا.
يعلم الله أنني منذ فترةٍ وأنا أتعذَّب في صلاتي، وأقول في نفسي أثناء الصلاة: إنها لن تُقبَل؛ مع العلم بأنني لا أُحصي عدد الصلوات التي تركتُها.
الإجابة: الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومَن والاه، أما بعد:
فالحمدُ لله الذي منَّ عليك، وجعلَك مِن جملة الشباب الذين نشؤوا في عبادة الله عز وجل، فالشبابُ - كما قيل - شعبةٌ مِن الجنون؛ لأنه يدعو النفس لاستيفاء غرضِها من شهوات الدنيا، ولذَّاتها المحظورة، فمَن سَلِم مِن ذلك فقد سَلِم؛ ولذلك أخبر النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: أنَّ كلَّ مَن نشأ مِن الشباب متلبسًا بعبادة الله تعالى ومصاحبًا لها، وملتصقًا بها، جزاؤه النجاة يوم القيامة.
ولا يكون هذا أيها الابن العزيز إلا بمُجاهَدة النفس، ومخالفة الهوى، وكلُّ هذا يحتاج أولًا: إلى رياضةٍ شديدةٍ، وصبرٍ على الامتناع مما يدعو إليه داعي الشهوة، أو الغضب، أو الطمع، وفي تجشُّم ذلك مشقَّةٌ شديدةٌ على النفس، ويحصل لها به تألم عظيم، تعقبُه الراحةُ الأبديةُ؛ ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلُّهم الله في ظلِّه، يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه، ورجلٌ قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ طلبتْه امرأة ذاتُ منصبٍ وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدَّق، أَخفَى حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفِق يمينه، ورجلٌ ذكر الله خاليًا - ففاضتْ عيناه"، وفي الحديث: "عَجِب ربُّك مِن شابٍّ ليستْ له صَبْوَة"، وفي بعض الآثار: يقول الله: "أيها الشاب، التاركُ شهوتَه، المتبذلُ شبابَه مِن أجلي، أنتَ عندي كبعض ملائكتي".
أما تفريطُك في بعض الصلوات بعدما بلغتَ العاشرة؛ فالذي يظهر أنك لم تكن مكلَّفًا حينها، ولم يجرِ عليك قلمُ التكليف؛ لأن سنَّ بلوغ التكليف تكون في الغالب بين 14 - 15 سنةً، أما سن العاشرة فليستْ سن تكليف للصغار، وإنما في هذه السن يقوم الكبار بأمر أبنائهم بالصلاة، وتعويدهم عليها، وضربهم إذا أخلُّوا بها؛ فالمكلَّفُ إذًا: الوالدان، وليس الأبناء، يظهر هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضرِبُوهم عليها لعشر سنين" [رواه أحمد]؛ فالأمرُ للأولياء، وليس للأبناء، يبين هذا أنَّ الله تعالى رفَعَ التكليفَ عن الصغير حتى يَحتَلِم؛ كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي: "رُفِع القلم عن ثلاثةٍ: عن الصغير حتى يَبْلُغ، وعن النائم حتى يَستَيقِظ، وعن المُصَاب حتى يُكشَف عنه".
ورَفعُ القلم؛ أي: رفع المؤاخذة.
وعلى فَرْضِ أنك كنتَ قد بلغت الحُلُم في تلك السن؛ فالراجحُ من قولَي العلماء: أن الصلاة المتروكة - عمدًا - لا يجب قضاؤها، ولا تُقبَل، ولا تصحُّ إنْ فُعِلتْ؛ لأنها صلِّيتْ في غير وقتها، وكان تأخيرُها عنه لغير عذرٍ شرعيٍّ؛ فلم تُقبَل، واحتجُّوا بأن الأمر بالأداء ليس أمرًا بالقضاء، بمعنى أن قضاء الفوائت يحتاج لأمر جديدٍ؛ وهو قول شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وأبي محمد بن حزم، وابن القيم، وبعض أصحاب الشافعي.
قال أبو محمد بن حزم في "المُحَلَّى": "مَن تعمَّد ترْكَ الصلاة حتى خرَج وقتها، فهذا لا يقدر على قضائها أبدًا، فليُكثِر مِن فِعْل الخير، وصلاة التطوُّع؛ ليَثقُل ميزانه يوم القيامة؛ وليَتُبْ وليستغفر الله عز وجل، وبرهان صحة قولنا قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5]، وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، فلو كان العامد لترْكِ الصلاة مدركًا لها بعد خُروج وقتها لما كان له الويل ولا لَقِي الغيَّ؛ كما لا ويلَ ولا غيَّ لمن أخَّرها إلى آخر وقتِها الذي يكون مُدركًا لها.
وأيضًا؛ فإنَّ اللهَ تعالى جعل لكلِّ صلاة فرض وقتًا محدود الطرفين، يدخل في حين محدود؛ ويبطل في وقت محدود، فلا فرقَ بين مَن صلَّاها قبل وقتها، وبين مَن صلَّاها بعد وقتِها؛ لأن كليهما صلَّى في غير الوقت، وأيضًا فإن القضاء إيجاب شرع، والشرع لا يجوز لغير الله تعالى على لسان رسوله".
قال أبو محمد: "ونسألهم عمَّن تعمَّد ترْكَ الصلاة إلى بعد الوقت: أطاعةٌ هي أم معصية؟ فإن قالوا: طاعة، خالَفوا إجماع أهل الإسلام كلهم المتيقَّن، وخالفوا القرآن والسُّنَن الثابتة، وإن قالوا: هو معصية، صدَقوا، ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة".
وأيضًا؛ فإنَّ الله تعالى قد حدَّ أوقات الصلاة على لسان رسولِه صلى الله عليه وسلم وجعل لكلِّ وقتٍ صلاةً منها أولًا، ليس ما قبله وقتًا لتأديتها، وآخرًا ليس ما بعده وقتًا لتأديتها، هذا ما لا خلاف فيه مِن أحد مِن الأمة؛ فلو جاز أداؤها بعد الوقت لما كان لتحديده عليه السلام آخرَ وقتها معنًى، ولَكَان لغوًا مِن الكلام، وحاشا لله من هذا.
وأيضًا؛ فإن كل عمل علِّق بوقت محدودٍ، فإنه لا يصحُّ في غير وقته، ولو صحَّ في غير ذلك الوقت، لما كان ذلك الوقتُ وقتًا له، وهذا بيِّن.
فإن قالوا: قِسْنَا العامدَ على الناسي، قلنا: إن القياس عند القائلين به إنما هو قياس الشيء على نظيره، لا على ضدِّه، وهذا ما لا خِلاف فيه بين أحدٍ مِن أهل القياس، والعمد ضد النسيان، والمعصية ضد الطاعة.
وبرهان ذلك؛ أنهم ليسوا عصاةً في تأخيرها إلى أي وقت صلَّوها فيه، وكل أمر الله عز وجل فإنه منقسم على ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما أمر غير معلَّق بوقت؛ فهذا يجزئ أبدًا متى أدِّي؛ كالجهاد، والعمرة، وصدقة التطوُّع، والدعاء، وغير ذلك، فهذا يجزئ متى أدِّي، والمسارعة إليه أفضل؛ لقول الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]، وإما أمر معلَّق بوقت محدود الأول، غير محدود الآخر؛ كالزكاة، ونحوها، فهذا لا يجزئ قبل وقته، ولا يسقط بعد وجوبه أبدًا؛ لأنه لا آخر لوقته، والمبادرة إليه أفضل؛ لما ذكرنا، وإما أمر معلق بوقت محدود أوله وآخره، فهذا لا يجزئ قبل وقته، ولا بعد وقته، ويجزئ في جميع وقته في أوله وآخره ووسطه؛ كالصلاة، والحج، وصوم رمضان، ونحو ذلك.
ونقول لمن خالفنا: قد وافقتمونا على أن الحج لا يُجزِئ في غير وقته، وأنَّ الصَّوم لا يجزئ في غير النهار؛ فمِن أين أجزتُم ذلك في الصلاة؟ وكل ذلك ذو وقت محدود أوله وآخره، وهذا ما لا انفكاك منه.
ولو كان القضاءُ واجبًا على العامد لترك الصلاة حتى يخرج وقتها، لما أغفل الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا نَسِيَاه، ولا تعمَّدا إعناتنا بترك بيانه؛ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، وكل شريعة لم يأتِ بها القرآن ولا السنة، فهي باطل.
وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن فاتتْه صلاةُ العصر، فكأنما وتر أهلَه، ومالَه"؛ فصحَّ أن ما فات فلا سبيل إلى إدراكه، ولو أُدرِك أو أمكن أن يُدرَك، لما فات، كما لا تفوت المنسية أبدًا، وهذا لا إشكال فيه، والأمة أيضًا كلها مُجمِعة على القول والحكم بأنَّ الصلاة قد فاتتْ إذا خرج وقتها، فصحَّ فوتها بإجماع متيقَّن، ولو أمكن قضاؤها وتأديتُها؛ لكان القول بأنها فاتتْ كذبًا وباطلًا؛ فثبت يقينًا أنه لا يُمكن القضاء فيها أبدًا.
وممن قال بقولنا في هذا: عُمر بن الخطاب، وابنه عبدالله، وسعد بن أبي وقاص، وسليمان، وابن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وبُدَيْل العُقَيْلي، ومحمد بن سيرين، ومطرَّف بن عبدالله، وعمر بن عبدالعزيز، وغيرهم". اهـ باختصار وتصرُّف يسير.
وهذا ما أفتتْ به "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" بالسعودية؛ حيث قالتْ: "مَن ترَك الصيام والصلاة عمدًا - وهو مكلَّف - فلا يَقضِي ما فاته، ولكن عليه التوبةُ والرجوع إلى الله جل وعلا والإكثار مِن التقرُّب إليه بالأعمال الصالحة، والدعاء، والصدَقات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التوبةُ تَجُبُّ ما كان قبلها، والإسلام يَهدِم ما كان قبله".
فالحمدُ لله الذي منَّ عليك، وجعلَك مِن جملة الشباب الذين نشؤوا في عبادة الله عز وجل، فالشبابُ - كما قيل - شعبةٌ مِن الجنون؛ لأنه يدعو النفس لاستيفاء غرضِها من شهوات الدنيا، ولذَّاتها المحظورة، فمَن سَلِم مِن ذلك فقد سَلِم؛ ولذلك أخبر النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: أنَّ كلَّ مَن نشأ مِن الشباب متلبسًا بعبادة الله تعالى ومصاحبًا لها، وملتصقًا بها، جزاؤه النجاة يوم القيامة.
ولا يكون هذا أيها الابن العزيز إلا بمُجاهَدة النفس، ومخالفة الهوى، وكلُّ هذا يحتاج أولًا: إلى رياضةٍ شديدةٍ، وصبرٍ على الامتناع مما يدعو إليه داعي الشهوة، أو الغضب، أو الطمع، وفي تجشُّم ذلك مشقَّةٌ شديدةٌ على النفس، ويحصل لها به تألم عظيم، تعقبُه الراحةُ الأبديةُ؛ ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلُّهم الله في ظلِّه، يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه، ورجلٌ قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ طلبتْه امرأة ذاتُ منصبٍ وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدَّق، أَخفَى حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفِق يمينه، ورجلٌ ذكر الله خاليًا - ففاضتْ عيناه"، وفي الحديث: "عَجِب ربُّك مِن شابٍّ ليستْ له صَبْوَة"، وفي بعض الآثار: يقول الله: "أيها الشاب، التاركُ شهوتَه، المتبذلُ شبابَه مِن أجلي، أنتَ عندي كبعض ملائكتي".
أما تفريطُك في بعض الصلوات بعدما بلغتَ العاشرة؛ فالذي يظهر أنك لم تكن مكلَّفًا حينها، ولم يجرِ عليك قلمُ التكليف؛ لأن سنَّ بلوغ التكليف تكون في الغالب بين 14 - 15 سنةً، أما سن العاشرة فليستْ سن تكليف للصغار، وإنما في هذه السن يقوم الكبار بأمر أبنائهم بالصلاة، وتعويدهم عليها، وضربهم إذا أخلُّوا بها؛ فالمكلَّفُ إذًا: الوالدان، وليس الأبناء، يظهر هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضرِبُوهم عليها لعشر سنين" [رواه أحمد]؛ فالأمرُ للأولياء، وليس للأبناء، يبين هذا أنَّ الله تعالى رفَعَ التكليفَ عن الصغير حتى يَحتَلِم؛ كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي: "رُفِع القلم عن ثلاثةٍ: عن الصغير حتى يَبْلُغ، وعن النائم حتى يَستَيقِظ، وعن المُصَاب حتى يُكشَف عنه".
ورَفعُ القلم؛ أي: رفع المؤاخذة.
وعلى فَرْضِ أنك كنتَ قد بلغت الحُلُم في تلك السن؛ فالراجحُ من قولَي العلماء: أن الصلاة المتروكة - عمدًا - لا يجب قضاؤها، ولا تُقبَل، ولا تصحُّ إنْ فُعِلتْ؛ لأنها صلِّيتْ في غير وقتها، وكان تأخيرُها عنه لغير عذرٍ شرعيٍّ؛ فلم تُقبَل، واحتجُّوا بأن الأمر بالأداء ليس أمرًا بالقضاء، بمعنى أن قضاء الفوائت يحتاج لأمر جديدٍ؛ وهو قول شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وأبي محمد بن حزم، وابن القيم، وبعض أصحاب الشافعي.
قال أبو محمد بن حزم في "المُحَلَّى": "مَن تعمَّد ترْكَ الصلاة حتى خرَج وقتها، فهذا لا يقدر على قضائها أبدًا، فليُكثِر مِن فِعْل الخير، وصلاة التطوُّع؛ ليَثقُل ميزانه يوم القيامة؛ وليَتُبْ وليستغفر الله عز وجل، وبرهان صحة قولنا قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5]، وقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، فلو كان العامد لترْكِ الصلاة مدركًا لها بعد خُروج وقتها لما كان له الويل ولا لَقِي الغيَّ؛ كما لا ويلَ ولا غيَّ لمن أخَّرها إلى آخر وقتِها الذي يكون مُدركًا لها.
وأيضًا؛ فإنَّ اللهَ تعالى جعل لكلِّ صلاة فرض وقتًا محدود الطرفين، يدخل في حين محدود؛ ويبطل في وقت محدود، فلا فرقَ بين مَن صلَّاها قبل وقتها، وبين مَن صلَّاها بعد وقتِها؛ لأن كليهما صلَّى في غير الوقت، وأيضًا فإن القضاء إيجاب شرع، والشرع لا يجوز لغير الله تعالى على لسان رسوله".
قال أبو محمد: "ونسألهم عمَّن تعمَّد ترْكَ الصلاة إلى بعد الوقت: أطاعةٌ هي أم معصية؟ فإن قالوا: طاعة، خالَفوا إجماع أهل الإسلام كلهم المتيقَّن، وخالفوا القرآن والسُّنَن الثابتة، وإن قالوا: هو معصية، صدَقوا، ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة".
وأيضًا؛ فإنَّ الله تعالى قد حدَّ أوقات الصلاة على لسان رسولِه صلى الله عليه وسلم وجعل لكلِّ وقتٍ صلاةً منها أولًا، ليس ما قبله وقتًا لتأديتها، وآخرًا ليس ما بعده وقتًا لتأديتها، هذا ما لا خلاف فيه مِن أحد مِن الأمة؛ فلو جاز أداؤها بعد الوقت لما كان لتحديده عليه السلام آخرَ وقتها معنًى، ولَكَان لغوًا مِن الكلام، وحاشا لله من هذا.
وأيضًا؛ فإن كل عمل علِّق بوقت محدودٍ، فإنه لا يصحُّ في غير وقته، ولو صحَّ في غير ذلك الوقت، لما كان ذلك الوقتُ وقتًا له، وهذا بيِّن.
فإن قالوا: قِسْنَا العامدَ على الناسي، قلنا: إن القياس عند القائلين به إنما هو قياس الشيء على نظيره، لا على ضدِّه، وهذا ما لا خِلاف فيه بين أحدٍ مِن أهل القياس، والعمد ضد النسيان، والمعصية ضد الطاعة.
وبرهان ذلك؛ أنهم ليسوا عصاةً في تأخيرها إلى أي وقت صلَّوها فيه، وكل أمر الله عز وجل فإنه منقسم على ثلاثة أوجه لا رابع لها: إما أمر غير معلَّق بوقت؛ فهذا يجزئ أبدًا متى أدِّي؛ كالجهاد، والعمرة، وصدقة التطوُّع، والدعاء، وغير ذلك، فهذا يجزئ متى أدِّي، والمسارعة إليه أفضل؛ لقول الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]، وإما أمر معلَّق بوقت محدود الأول، غير محدود الآخر؛ كالزكاة، ونحوها، فهذا لا يجزئ قبل وقته، ولا يسقط بعد وجوبه أبدًا؛ لأنه لا آخر لوقته، والمبادرة إليه أفضل؛ لما ذكرنا، وإما أمر معلق بوقت محدود أوله وآخره، فهذا لا يجزئ قبل وقته، ولا بعد وقته، ويجزئ في جميع وقته في أوله وآخره ووسطه؛ كالصلاة، والحج، وصوم رمضان، ونحو ذلك.
ونقول لمن خالفنا: قد وافقتمونا على أن الحج لا يُجزِئ في غير وقته، وأنَّ الصَّوم لا يجزئ في غير النهار؛ فمِن أين أجزتُم ذلك في الصلاة؟ وكل ذلك ذو وقت محدود أوله وآخره، وهذا ما لا انفكاك منه.
ولو كان القضاءُ واجبًا على العامد لترك الصلاة حتى يخرج وقتها، لما أغفل الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا نَسِيَاه، ولا تعمَّدا إعناتنا بترك بيانه؛ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، وكل شريعة لم يأتِ بها القرآن ولا السنة، فهي باطل.
وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن فاتتْه صلاةُ العصر، فكأنما وتر أهلَه، ومالَه"؛ فصحَّ أن ما فات فلا سبيل إلى إدراكه، ولو أُدرِك أو أمكن أن يُدرَك، لما فات، كما لا تفوت المنسية أبدًا، وهذا لا إشكال فيه، والأمة أيضًا كلها مُجمِعة على القول والحكم بأنَّ الصلاة قد فاتتْ إذا خرج وقتها، فصحَّ فوتها بإجماع متيقَّن، ولو أمكن قضاؤها وتأديتُها؛ لكان القول بأنها فاتتْ كذبًا وباطلًا؛ فثبت يقينًا أنه لا يُمكن القضاء فيها أبدًا.
وممن قال بقولنا في هذا: عُمر بن الخطاب، وابنه عبدالله، وسعد بن أبي وقاص، وسليمان، وابن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وبُدَيْل العُقَيْلي، ومحمد بن سيرين، ومطرَّف بن عبدالله، وعمر بن عبدالعزيز، وغيرهم". اهـ باختصار وتصرُّف يسير.
وهذا ما أفتتْ به "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" بالسعودية؛ حيث قالتْ: "مَن ترَك الصيام والصلاة عمدًا - وهو مكلَّف - فلا يَقضِي ما فاته، ولكن عليه التوبةُ والرجوع إلى الله جل وعلا والإكثار مِن التقرُّب إليه بالأعمال الصالحة، والدعاء، والصدَقات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التوبةُ تَجُبُّ ما كان قبلها، والإسلام يَهدِم ما كان قبله".