وقعت في معصية ولمست فتاة
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: قضايا الشباب - تزكية النفس - النهي عن البدع والمنكرات - العلاقة بين الجنسين -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا طالبٌ جامعي ملتزمٌ، أحاول عدم الحديث مع النساء، إلا في حدود الضرورة، كنتُ أتحدث مع معيدة كانتْ بجواري، ثم لمستُ كتفها عن غير عمْدٍ مني، لكني أظنها تعمَّدتْ لمسي! وفي الحقيقة أنا مُعْجَبٌ بها، لكني لم أخبرها بذلك!
وبسبب هذا الموقف فإني متضايق؛ لأني أشعر أني أنا السبب في ذلك، أريد أن أتزوجها، لكني أخاف أن تكون كباقي الفتيات، وفي الوقت نفسه لا أريد أن أسيء الظن بها.
تبدو هذه الفتاة لطيفةً، لكنها ليستْ بالالتزام الذي أتمناه؛ فهي تضع مساحيق التجميل، وتلبس ملابس غير شرعية، وكل عملها فيه اختلاط، وهذا أمر لا أرتضيه لزوجتي.
أنا ما زلتُ أدرس، وليستْ لديَّ إمكانية للزواج، وأنا نادم على ما فعلتُ، وكأني كنتُ في غيبوبة!
فانصحوني، جزاكم الله خيرًا.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فاحمدِ الله أيها الابن الكريم أنْ عَصَمَك مِن الوقوع فيما خذل فيه غيرك، فوقعوا في كثيرٍ من المعاصي، ولا ينافي هذا ما ذكرته؛ فالإنسانُ ضعيفٌ أمام الفتن، ومِن ثَمَّ أَمَرَهُ الشارعُ بالفرار منها، وحماية نفسه مِن الفِتَن كما في الصحيحين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستكون فتنٌ، القاعدُ فيها خيرٌ مِن القائم، والقائمُ فيها خيرٌ مِن الماشي، والماشي فيها خيرٌ مِن الساعي، ومَن يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْه، ومَن وجد ملجأً أو معاذًا فلْيَعُذْ به».
فاعتصمْ بالله، واتخْذ نفسك بالحزْم؛ ففتنةُ النساء لا يَصْلُح معها إلا الفرار والأخذُ بالأحوط، فالمرأةُ إذا خرجتْ سافرةً مُتَبَرِّجةً واختلطتْ بالرجال كانتْ أشد شيئًا فسادًا لدين الرجال ودنياهم وبإغرائهنَّ وإمالتهنَّ عن الحق، فلْيَحْذَرِ العاقل مِن تلك الفتنة العظيمة، ففي الصحيحين، عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ترَكْتُ بعدي فتنة أضَر على الرجال من النساء».
وفي صحيح مسلم مِن حديث أبي سعيد الخُدْرِي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الدنيا، واتقوا النساء».
ومِن أعظم ما يعينك على الفرار من فتنة النساء: غضّ البصر طاعةً لله، حتى نظر الفجأة، اصْرِفْ بصرك كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ونظرة الفجأة هي النظرة الأولى التي تقع بغير قصدٍ مِن الناظر، ولا يُعاقب عليها، ولكن حتى لا تكون برزخًا للنظرة الثانية تعمدًا، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نظرة الفجأة أن يصرفَ بَصَرَهُ، ولا يستديم النظر؛ فإنَّ استدامة النظَر كتكريره.
وتأمل - رعاك الله - كلام ابن القيم في كتابه ''روضة المحبين ونُزهة المشتاقين'' (ص: 97): ''وفي غض البصر عدة فوائد:
- أحدها: تخليصُ القلب مِن ألم الحسرة، فإنَّ مَنْ أطْلَقَ نَظَرَهُ دامتْ حسْرَتُهُ، فأضرُّ شيءٍ على القلب إرسال البصر، فإنه يريه ما يشتد طلبه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غايةُ ألمه وعذابه؛ قال الأصمعي: رأيتُ جاريةً في الطواف كأنها مهاة، فجعلتُ أنظر إليها، وأملأ عيني مِن محاسنها، فقالتْ لي: يا هذا، ما شأنك؟ قلتُ: وما عليك من النظَر؟ فأنشأت تقول:
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ المَنَاظِرُ
رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
والنظرةُ تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرَّمِيَّة، فإن لم تقتلْه جرحتْه، وهي بمنزلة الشرارة مِن النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم يحرقْه كله أحرقتْ بعضه، كما قيل:
كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةً فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا فَتْكَ السِّهَامِ بِلاَ قَوْسٍ وَلاَ وَتَرِ
وَالمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا فِي أَعْيُنِ الغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى الخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ لَا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ
والناظرُ يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه، وهو لا يشعر، فهو إنما يرمي قلبه، ولي من أبيات:
يَا رَامِيًا بِسِهَامِ اللَّحْظِ مُجْتَهِدًا أَنْتَ القَتِيلُ بِمَا تَرْمِي فَلَا تُصِبِ
وَبَاعِثُ الطَّرْفِ يَرْتَادُ الشِّفَاءَ لَهُ تَوَقَّهُ إِنَّهُ يِأَتِيكَ بِالعَطَبِ
- الثاني: أنه يورث القلبَ سرورًا وفرحةً وانشراحًا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، وذلك لِقَهْرِه عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه.
وأيضًا فإنه لما كفّ لَذَّته وحبس شهوته لله وفيها مسرة نفسه الأمارة بالسوء، أعاضه الله سبحانه مسرةً ولذةً أكمل منها، كما قال بعضهم: والله للذة العفة أعظم مِن لذة الذنب، ولا ريب أن النفس إذا خالفتْ هواها أعقبها ذلك فرحًا وسرورًا ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وها هنا يمتاز العقل من الهوى.
- الفائدة الثالثة: أنه يخلص القلب مِن أسْرِ الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه، فهو كما قيل:
طَلِيقٌ بِرَأْيِ العَيْنِ وَهْوُ أَسِيرُ
ومتى أسرت الشهوةُ والهوى القلبَ تَمَكَّنَ منه عدوه وسامه سوءُ العذاب، وصار:
كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرّدَى وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ
- الفائدة الرابعة: أنه يسد عنه بابًا من أبواب جهنم؛ فإنَّ النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل، وتحريم الرب تعالى وشرعه حجابٌ مانعٌ من الوصول، فمتى هتك الحجاب ضري على المحظور، ولم تقفْ نفسه منه عند غاية، فإن النفس في هذا الباب لا تقتع بغاية تقف عندها، وذلك أن لذتها في الشيء الجديد، فصاحب الطارف لا يقنعه التليد، وإن كان أحسن منه منظرًا وأطيب مخبرًا، فغَضُّ البصر يسدُّ عنه هذا الباب الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه.
- الفائدة الخامسة: أنه يقوي عقله ويزيده ويثبته، فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه، وعدم ملاحظته للعواقب، فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب، ومرسل النظر لو علم ما تجني عواقب نظره عليه لما أطلق بصره؛ قال الشاعر:
وَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ سَبَبًا حَتَّى يُفَكِّرَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُهُ
- الفائدة السادسة: أنه يخلص القلب من سكر الشهوة، ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويوقع في سكرة العِشق، كما قال الله تعالى عن عشاق الصور: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، فالنظرةُ كأس من خمر، والعشق هو سكر ذلك الشراب، وسكر العشق أعظم مِن سكر الخمر، فإن سكران الخمر يفيق، وسكران العشق قلما يفيق، إلا وهو في عسكر الأموات، كما قيل:
سُكْرَانِ: سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ وَمَتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرَانِ؟
فاستَعِنْ بالله ولا تعجزْ، ودَعْكَ مِن التفكير في تلك الفتاة، ولا تتعامل معها مطلقًا، وإن اضطررتَ لهذا فليكن في حدود الآداب الشرعية، وانشغلْ بدراستك، ولا تشغلْ نفسك بما ذكرته مِن نظرتها إليك ونظرة الناس، فالكلُّ مُطَالَبٌ بالاستقامة على الشرع ومكلَّفٌ مسؤول.
وفقك الله لكل خيرٍ.