أصبحت التجارة في قلبي غاية لا وسيلة
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: أعمال القلوب - الطريق إلى الله -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شابٌّ في مُقتبل العمر، أُحِبُّ التجارة بشكلٍ كبيرٍ، ولديَّ طموحاتٌ كثيرة في هذا المجال، وأحلم أيضًا أن أكون رجل أعمال، أُساعد الفقراء، وأنفق في وجوه الخير والعمل الدعوي؛ لأنني أُدرك جيدًا أن المال قوةٌ عظيمةٌ؛ خاصة إذا تمَّ استخدامها بشكل جيدٍ!
لكن المشكلة تكْمُن في عشقي لمجال التجارة، هذا العشق يُحَوِّل مجال التجارة في قلبي مِن وسيلةٍ إلى غايةٍ؛ فبعد أن كانتْ وسيلةً لأرضي بها الله، وأنفق في وجوه الخير، أصبحتْ غايةً، حتى وصل الأمر إلى أنني عندما أبدأ في الصلاة، أجدني غير خاشع بسبب تفكيري في المشاريع المستقبلية التي أودُّ أن أبنيها في هذا المجال!
كذلك انشغالي بها عن طلب العلم، فبعد أن كنتُ أنوي التعمُّق في طلب العلم والدعوة وخدمة الدين، أصبحتُ لا أدرس من العلم الشرعي إلا ما يكفيني؛ مثل: أحكام الصلاة، والطهارة، والعقيدة، وأصبح كل تفكيري في تحقيق النجاحات والطموحات الدنيوية، ولا أتذكر الآخرة إلا في أوقات الصلاة!
فما نصيحتكم؟ هل أستمرُّ في المجال الذي أحببتُه؟ وكيف أجعله وسيلة لا غاية؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:
فمما لا شك فيه أيها الابن الكريم أن الدنيا مَطِيَّةٌ للآخرة؛ كما قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]
ورُوِيَ عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: « احرزْ لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعملْ لآخرتك كأنك تموت غدًا»؛ رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده.
ورُوِيَ - أيضًا - عن ابن عمر أنه قال: «اعملْ لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعملْ لآخرتك كأنك تموت غدًا»؛ رواه الشجَري في ترتيب الأمالي الخميسية.
فالهدفُ الأعظمُ مِن خلْقِ الإنسان هو طاعة الله وعبادته، والعبادةُ كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه ربنا ويرْضاه؛ فيدخل فيها عمارة الأرض بلا شك، فالإيمانُ بالله ليس كلمةً وتصديقًا للقلب وحسب، وإنما هو قولٌ واعتقادٌ وعملٌ، ويدخل في العمل الشعائر التعبُّدية، وعمارة الأرض، وطلب العلوم الشرعية، وأيضًا العلوم الدنيوية؛ كالطب، والهندسة، وعلوم التكنولوجيا، وغير ذلك، بل وتعلُّم جميع الصناعات والمِهَن مِن فُروض الكفايات؛ نصَّ على هذا جميعُ الأئمة المتبَعين، فليست العبادة التبتُّل، والعُكوف في المساجد، وصيام النهار، وقراءة القرآن فقط، وإنما هي مع كل ذلك عمارة الدنيا، وبهذا الفهم الذي لم يخالفْ فيه إلا بعض المنحرفين عن المنهج الإسلامي مِن غُلاة الصوفية.
والشعائرُ ما هي إلا مظهرٌ واحدٌ مِن مَظاهر الدينونة، والخضوع لله سبحانه لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها؛ فالعبادةُ تشمل كل جهدٍ يُنفقه مَن يدينون لله وحده في عمارة الأرض، وترقيتها، وترقية الحياة فيها، واستغلال ثرواتها، والانتفاع بطاقاتها، والنهوض بتكاليف خِلافة الإنسان في الأرض، فمِن سُنة الله الكونية أنَّ مَن يستخلفهم في الأرض مَن يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح، والإبداع في الأرض؛ لعمارتها، وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمةٍ، فهي الوارثة للأرض في أي فترةٍ من فترات التاريخ.
الإيمانُ الصحيحُ يدْفَع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلينا، ولا يكون الاستخلافُ إلا بالنشاط الإنساني.
ولو تأملتَ أيها الابن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين، وقرأتَ في تاريخ عصور الإسلام المزدَهِرة، لعلمتَ أنَّ ما أقوله كان بدهيًّا عندهم، وليست العبادة قسيمًا لعمارة الأرض والخلافة، وإنما العبادة اسمُ جنسٍ يأتي تحته أنواعٌ لا حصر لها من العبادات؛ منها: الشعائر المحضة؛ كالصلاة، ومنها: الدنيوية المحضة؛ كعمارة الأرض، ويؤجر عليها المسلمُ إن فعلها استجابةً لأمر الله بعمارة الأرض، ومنها أيضًا: الخلافة، ولها تعلقٌ بالدنيا وعمارتها، وتعلقٌ بالعبادة بالحكم بالعدل، وبما يوافق ما شرعه الله، إذًا فالكلُّ مِن العبادة، ومن ثَم تجد الأئمة المتبَعين نصُّوا على وجوب تعلم العلوم الدنيوية بجانب العلوم الشرعية، وعلى وجوب تعلم الصناعات... إلى آخره؛ فالفارقُ بين إبداع المسلم وإبداع غيره: أن المسلم يفعل ذلك عبادةً لله، واستجابةً لأمره باستخلاف الإنسان في الأرض، والذي يلزم منه الإبداع والتفنُّن فيها، فيكون كل هذا مِن المعنى الشامل للعبادة.
والمسلمُ الحقُّ يجعل رضوان الله هو الغاية، ويستطيع أن يحتسبَ حياته كلها لله؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه -: "والله إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"؛ يعني: أجرًا وثوابًا على نومه وقيامه؛ لأنه لا يفعل شيئًا إلا بنيةٍ وهدفٍ؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى».
وخلافةُ الله في أرضه تكون بعمارتها، وصناعة النهضة والحضارة فيها، ولكنها نهضةٌ وحضارةٌ موصولةٌ بالله تعالى، يزيد هذا المفهوم العظيم وضوحًا في ربط الصلة في أن الكل عبادةٌ قوله صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلةٌ، فإن استطاع ألا يقومَ حتى يغرسها، فليفعل»؛ رواه أحمد في المسند.
فهذا الحديثُ المُعْجِزُ لا يصدر إلا عن نبي الله حقًّا وصدقًا؛ لأن القيامةَ لو قامتْ على أحدٍ يتوقع أن يوصى بالتوبة والاستغفار ونسيان الدنيا، والإقبال على الآخرة، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - صحَّح هذا المفهوم المغلوط بما أوحاه الله إليه؛ أن غرْس فسيلة النخل عبادةٌ كالتوبة؛ ليعلمنا - صلى الله عليه وسلم - أن طريق الآخرة هو طريق الدنيا، بلا اختلافٍ ولا افتراقٍ، وأنهما ليسا طريقين منفصلين، ولا قسيمين، وإنما هو طريقٌ واحدٌ يشمل هذه وتلك، والكلُّ اسمُه العبادة، ولكن ما أورث تلك الشبهة أن العبادة جنس (عموم) يندرج تحتها أنواعٌ؛ نوعٌ للدنيا وعمارتها اسمه: العمل، ونوعٌ اسمه: شعائر، ثم ينتظم الجميع في طريقٍ واحدٍ؛ أوله في الدنيا، وآخره في الآخرة، وهو طريقٌ لا يفترق فيه الأمر الدنيوي عن العبادة، ولا العبادة عنه، كلاهما شيءٌ واحدٌ في نظر الإسلام، وكلاهما يسير جنبًا إلى جنبٍ في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن كانت له أرضٌ فليزرعها، فإن لم يزرعها، فليُزرعها أخاه»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلمٍ يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقةٌ»؛ رواهما البخاري ومسلمٌ.
فاعملْ في التجارة أو في غيرها وفق هذا المنظور الشرعي، واعلمْ أن بعض الصحابة كانوا أغنياء، ولكن الدنيا فشلتْ في أن تدخلَ إلى قلوبهم، ومن هنا يتضح لنا أن الإسلام لا يمنع العمل والكسب والسعي.
وقد قيل لسعيد بن المسيب: ما رأينا مثل دين هؤلاء، فقال: ماذا يفعلون؟ قالوا: يصلي أحدهم الظهر فلا يخرج حتى يصلي العصر، ويصلي العصر فلا يخرج حتى يصلي المغرب، وهكذا، فقال رحمه الله: "ما هذا بدينٍ إنما الدين في السعي؛ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، وكان في السلف مَن يخرج من المسجد ثم يقول: "أي رب، جئتُ إذ دعوتني، وصليتُ كما أمرتني، وانتشرت كما وجهتني، فارزقني كما وعدتَني".
وقال رسولك صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَ المال الصالح مع الرجل الصالح»، وقال أيضًا: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحب إلى الله مِن المؤمن الضعيف».
فكن أنت العبد الصالح صاحب المال الصالح، وكن أنت المؤمن القوي الذي يخدم الإسلام بعلمه، وماله، وعمله، وجاهه، وسلطانه، واجعلْها في يدك، ولا تجعلها في قلبك تكن مِن الفائزين، وبالله التوفيق.
وأرجو أن تعلمَ أن المسلم إذا أدَّى فرائض الله، وانشغَلَ بعد ذلك بالأعمال المباحة فإنها على خيرٍ، مع ضرورة أن يحتسبَ الإنسان كل ما يفعله، ويبتغي بعمله وجه الله، وليس في الدين ما يمنع مِن البحث عن المال وتمنيه، ثم استخدامه في الصلة للأرحام، ومعاونة الأيتام بعد كف النفس عن الآثام والحرام.
ولتحذرْ أيها الابن الكريم أن تنشغلَ بالتجارة أو غيرها عن طاعتك مولاك، فهي وسيلة، وليستْ غايةً، وإلا سنكون من طلاب الدنيا، وعباد الشهوات الذين يجعلون جمع الدنيا وحطامها غايةً في حدِّ ذاته، وقد عناهم رسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «تَعِس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعطَ لم يرضَ»؛ رواه البخاري.
فراقِب الله تعالى في كل أوقاتك، واحذرْ ألا تقع في المعصية أوقات الانشغال بالكسب، وحاسبْ نفسك عند حصول الخطأ، ولا تدعْ تجارتك تشغلك عن المهمة التي خلقنا لأجلها؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث في رُوعي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستوفي رزقها؛ فأجملوا في الطلب».
وأنصتْ لنصيحة العلامة ابن القيِّم - رحمه الله -: "وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك في المال، فكما أنه لا يتم مقصودُ الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولًا، ثم بمطالعة ما يعمل والإشراف عليه ومراقبته ثانيًا، ثم بمحاسبته ثالثًا، ثم بمنعه من الخيانة إن اطلع عليها رابعًا، فكذلك النفس يشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك؛ فمن ليس له رأس مالٍ كيف يطمع في الربح؟
وهذه الجوارح السبعة هي: العين، والأذن، والفم، واللسان، والفرْج، واليد، والرجل هي مركب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها؛ فحفظها أساس كل خيرٍ، وإهمالها أساس كل شرٍ؛ قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]
وقال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح، وانتقل منها إلى مطالعتها، والإشراف عليها، ومراقبتها فلا يهملها، فإنه إنْ أهملها لحظةً وقعت في الخيانة ولا بد، فإنْ تمادى على الإهمال تمادتْ في الخيانة؛ حتى يذهب رأس المال كله؛ فمتى أحس بالخسران وتيقنه، استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه من الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في المستقبل، ولا مطمع له في فسخ هذه الشركة مع هذا الخائن، فليجتهدْ في مُراقبته ومحاسبته، وليحذرْ مِن إهماله، ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدًا إذا صار الحسابُ إلى غيره، وكلما أهملها اليوم، اشتد عليه الحساب غدًا". انتهى.
وختامًا إن لم تستطعْ رغم أخْذِ النفس بالشدة ومُراقَبة قلبك، وترك الاسترسال مع الدنيا - لم تستطع مع كل هذا ترك تعلق القلب بالتجارة، فدعْها لله، وسيُخلف الله عليك خيرًا منها؛ فالسلامة في الدين لا يعدلها شيءٌ.
وأسأل الله أن يُلْهِمَك رشدك، ويعيذك من شر نفسك.