تفضيل الأب في المساعدة والعطية لأبنائه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نحن ستة إخوة؛ ثلاثة مِن الذكور، وثلاث مِن الإناث، اثنان من الذكور مستواهم المادي جيد، والثالثُ عملُه متوسط، ويعيش مع والدي ومُعفى مِن كل المصاريف.
أما الإناثُ فاثنتان منهنَّ مستواهما جيدٌ، والثالثة مطلقة، وليس لديها أولادٌ، وتعمل في مدينةٍ بعيدة عن المنزل، ومستواها المادي ضعيف!
أرادت الثالثةُ شراء شقة، وطلبت المساعَدة مِن الوالد، على أساس أنه سيكون مالاً غير مردودٍ! لكن الوالدَ رفَض؛ بدعوى أنه سيكون غيرَ عادلٍ بين أبنائه، وسيكون بمساعدته لها مُتحيزًا على حسابِ الباقين، فإن أرادتْ أخْذ المال فعليها أن تسدّه، ويكون على سبيل القَرْضِ.
فهل بالفعل يكون والدي في هذه الحال غيرَ عادل؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:
فما دام الحالُ كما ذكرتِ أيتها الأخت الكريمة أنَّ خمسة مِن الإخوة في حالة جيدةٍ، ولا يحتاجون لمساعدة الوالد، بخلاف تلك الأخت المطلَّقة، والتي لا تملك بيتًا، بخلاف جميع إخوانها الذكور والإناث - فيجوز لوالدِها في تلك الحال أن يُعْطِيَها دون إخوتها بقدْرِ حاجتها، ولا يُعَدُّ ذلك مِن التفضيل المحرَّم؛ فقد نصَّ الأئمةُ المتبَعون أن الأب إن وَجَد في بعض أبنائه ما يدعو إلى التَّفضيل أو التَّخصيص بالمال دون إخوته، جاز له تفضيله عليهم؛ ليسدَّ حاجته، وقد أشار إلى ذلك الإمامُ أحمدُ في تخصيص بعضهم بالوقْف، كما سنذْكُره في كلام ابن قُدامة.
فالعدْلُ بين الأبناء في العطيَّة واجبٌ، ولا يجوز تفْضيل أحدٍ على أحدٍ، وهو مذهبُ الحنابلة، وأبي يوسف مِن الحنفيَّة، وهو قولُ ابن المبارَك، وطاوس، وهو روايةٌ عن الإمام مالكٍ - رحمه الله - قالوا جميعًا بِوجوب التَّسوية بين الأولاد في الهِبَة؛ واحتجُّوا بما ثبت في "الصَّحيحَين" وغيرِهِما: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال لبشيرٍ - لمَّا جاءَه ليُشْهِده على هبةٍ وهبَها لابنِه النُّعمان - قال له: «يا بشيرُ، ألك ولَدٌ سوى هذا؟»، قال: نعم، فقال: «أكلُّهم وهبتَ له مثل هذا؟»، قال: لا، فقال: «فلا تُشْهِدني إذًا؛ فإنِّي لا أشهَد على جَوْر»، وفي روايةٍ أنَّه قال له: «أيسرُّك أن يكونوا إليك في البرِّ سواء؟» قال: بلى، قال: «فلا إذًا».
ولكن كما ذكرنا، إن وُجد مِن الأبناء من يستحقُّ العطاء دون إخوته فجائزٌ؛ قال ابن قُدامة في "المغني" (6/ 53): "فصل: فإنْ خَصَّ بعضُهم لمعنى يقتضي تخصيصَه، مثل اختصاصه بحاجةٍ، أو زمانةٍ، أو عمى، أو كثرةِ عائلةٍ، أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل، أو صرَف عطيَّتَهُ عن بعض ولدِه لفسْقِه، أو بدْعتِه، أو لكونه يستعين بما يأخُذُه على معصية الله، أو يُنفقه فيها، فقد رُوِيَ عنْ أحمدَ ما يَدُلُّ على جَواز ذلك؛ لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف: لا بأسَ به إذا كان لحاجةٍ، وأكْرَهُه إذا كان على سبيل الأثرة، والعَطِيَّةُ في معناه، ويحتمل ظاهرُ لفْظِه المنع من التفضيل أو التخصيص على كلِّ حال؛ لكونِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَسْتَفْصِلْ بشيرًا في عطيته.
والأولُ أولى إن شاء الله؛ لحديث أبي بكر، ولأنَّ بعضَهم اختصَّ بمعنًى يقتضي العطيَّة، فجاز أن يخْتَصَّ بها، كما لو اختصَّ بالقرابة، وحديث بشير قضيَّةٌ في عين، لا عُموم لها". اهـ.
وحديثُ أبي بكر الذي أحْتَجُّ به رواه مالكٌ في الموطأ (ص: 286) عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالتْ: إنَّ أبا بكر كان نَحَلَها جُذاذَ عشرين وَسقًا مِن ماله بالعالية".
قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في الفتاوى الكبرى (5/ 435): والآثارُ تدُلُّ على وُجُوبِ التعديل بينهم في غير التمليك أيضًا...، ثمَّ هنا نوعان:
- نوع يَحتاجون إليه مِن النَّفقة في الصِّحَّة والمرَض ونحو ذلك، فالعدْلُ فيه أن يُعطِي كلَّ واحدٍ ما يحتاج إليه، ولا فرْقَ بين مُحتاج قليل أو كثيرٍ.
- ونوع تَشترِك حاجتُهم إليه، مِن عطيَّةٍ أو نفقةٍ أو تزْويجٍ، فهذا لا ريبَ في تَحريم التَّفاضُل فيه.
وينشأ من بيْنِهما نوعٌ ثالثٌ، وهو أن ينفرِدَ أحدُهم بحاجةٍ غير معتادة، مثل أن يقْضيَ عن أحدِهم دينًا وجَب عليه مِن أَرْشِ جنايةٍ - وهي عقوبة ماليَّة تُدفع مقابل كلِّ جناية بدنيَّة - أو يُعطي عنه المهر، أو يُعطيه نفقة الزَّوجة، ونحو ذلك، ففي وجوب إعطاء الآخَر مثل ذلك نظر". اهـ. مختصرًا.
رَزَقَنا الله جميعًا العلم النافع والعمل بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
- التصنيف:
- المصدر: