ماتت أحلامي بموت أولادي
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا مُتزوجةٌ منذ سنةٍ، حملتُ مباشرةً بعد الزواج، وتُوُفِّي الجنين وأنا في الشهر الثاني، فتأثَّرتُ قليلًا وحزنتُ.
بعد فترةٍ وجيزةٍ حملتُ مرة أخرى، وتعبتُ جدًّا، وحصل نزيفٌ، وأخبرتْني الطبيبةُ بأني حامل في تَوْءَمٍ وهما بخيرٍ، وظللتُ مدةً كبيرةً وأنا متعبة، قضيتُ أحلى أوقات حياتي، واستقرتْ حالتي، واشتريتُ جميع ملابسهما ولوازمهما، حتى غرفة النوم، ولا أستطيع وصْفَ سعادتي، فكنتُ أحلم بهما، وأنتظرهما بفارغ الصبر، وأحلم بالأوقات السعيدة التي أعيشها معهما.
حصل تعبٌ في أواخر الحمل، وفوجئتُ بأن أحدهما تُوُفِّيَ، فحزنتُ كثيرًا، وقلتُ: إن شاء الله يكون الجنين الثاني خيرَ عوضٍ.
جاءني المخاضُ، وولدتُ ابنتي، وظَلَّتْ 13 يومًا في العناية المُرَكَّزة عشتُها خوفًا وقلقًا، وأنا أدعو ربي أن يُفَرِّج عنها، لكنها ماتتْ، وماتتْ معها أحلامي وفرحتي.
أنا على يقينٍ بأنَّ هذا قضاءُ رب العالمين، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم، وأقول: إن شاء الله سيُعوضني ربي خيرًا، لكني حزينة جدًّا، وقلبي منفطر، وفقدتُ الرغبة في كلِّ شيء، فكل شيء ليس له طعم.
لا أستطيع النوم، وتأتيني ذكريات الأشهُر الماضية، وأجد الدموع لا تتوقف.
فكيف أستطيع الخروج من هذه الحالة والرجوع إلى سابق عهدي؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فإنَّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيءٍ عنده بأجل مسمًّى، فلْتَصْبِري، ولْتَحْتَسِبي، وأنتِ مؤمنةٌ بالله، وتعلمين أنَّ ما أصابك لم يكنْ ليُخطئك، وما أخطأك لم يكنْ ليُصيبك، وأنَّ الحزنَ صورةٌ مِن صور العاطفة، والمشاعر الإنسانية الفطرية؛ قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، والحزنُ شيءٌ فطريٌّ ينتاب كل البشر عندما تُقابلهم متاعبُ ومصائبُ في هذه الدنيا؛ يقول عِكْرمة - رحمه الله تعالى -: "ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرحَ شكرًا، والحزن صبرًا"، والحزنُ الطبيعي عند البشر يقِلُّ شيئًا فشيئًا؛ فهو قضيةٌ وقتيةٌ - بارك الله فيك، وتأمَّلي حالَ الصحبِ الكرام الذين جاوَرُوا أفضل خَلْقِ الله تعالى، وتصوَّري حالهم لما لحق رسول الله بالرفيق الأعلى؛ فقد أخذهم مثل الموت؛ يُبَيِّن هذا حديث أنس بن مالكٍ، قال: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، أضاء منها كل شيءٍ، فلما كان اليوم الذي مات فيه، أظْلَم منها كل شيءٍ، وما نفضنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأيدي، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا"؛ رواه أحمد.
وتأملي أيضًا ما رواه البخاري ومسلمٌ عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وأبو بكرٍ بالسُّنْح"؛ قال إسماعيل: يعني بالعالية، فقام عمر يقول: والله ما مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قالتْ: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله، فليقطعنَّ أيدي رجالٍ وأرجلهم، فجاء أبو بكرٍ فكشَف عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقَبَّلَهُ، قال: بأبي أنت وأمي، طبتَ حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رِسْلك، فلما تكلم أبو بكرٍ جلَس عمر، فحمد الله أبو بكرٍ وأثنى عليه، وقال: ألا مَن كان يعبُد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، قال: فنَشَج الناس يبكون.
ولا يخفى عليك - أختنا الكريمة - أن عقيدتنا نحن المسلمين تمنعنا التسخُّط، وأنت تعلمين أن هذه الفاجعة مِن قدَر الله، فاحتسبي ابنتك ذخرًا عند الله تعالى، فهذا خيرُ البشر محمد - صلى الله عليه وسلم - حزن على وفاة ابنه، وقال: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون».
واقبلي بشارةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: «قال الله تعالى: يا ملك الموت، قبضتَ ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترْجَع، قال: ابنوا له بيتًا في الجنة، وسموه: بيت الحمد»؛ رواه أحمد والترمذي.
وعن معاوية بن قرة، عن أبيه: أن رجلًا كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابنٌ له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتحبه؟»، فقال: يا رسول الله، أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما فعل ابن فلانٍ؟»، قالوا: يا رسول الله، مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه: «أما تحب ألا تأتي بابًا من أبواب الجنة، إلا وجدته ينتظرك؟»، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أله خاصةً أم لكلنا؟ قال: «بل لكلِّكم»؛ رواه أحمد.
والله تعالى إذا أَحَبَّ عبدًا ابتلاه؛ رفعًا لدرجاته، وكلما زاد الإيمان زاد الابتلاء؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه»، ويقول تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، ولتكن قدوتك الخنساء التي ضحَّتْ بأربعةٍ من أبنائها في سبيل الله تعالى؛ إنه الإيمان بالله وباليوم الآخر وبالقضاء والقدر، ورجاء الثواب الجزيل عند الله تعالى، ورغم أنها امرأةٌ كبيرةٌ في السن، إلا أنَّ الصبر والإيمان بالله تعالى هو الذي يفعل فعله في نفوس المؤمنين.
فما عليك - يا أختي - إلا الصبر والاحتساب، وتذكَّري مَن هو أكثر منك مصيبةً، حتى تهونَ عليك مصيبتك، واتركي باب الأمل مفتوحًا، وهذا يبعد عنك الحزن والضيق والاكتئاب، وتذكري أن مع العسر يسرًا، وتصوَّري سرعة زوال هذا الحزن الشديد؛ فإنها لولا كُرَبُ الشدة ما رُجِيَتْ ساعات الرخاء.
واعلمي أنَّ فَقْد مولودتك بلاءٌ كبيرٌ، ولكن الله - تبارك وتعالى - والذي أعطاك إياها، ثم أخَذَها ليختبر صبرك ورضاك - قادرٌ على أن يعطيك ثانيةً وثالثةً ورابعةً وعاشرةً؛ إذا صبرتِ ورضيتِ بقضائه وقدَرِه، والحمدُ لله أنْ صَبَّرك عند الصدمة الأولى، ونسأل الله - تبارك وتعالى - أن يُعَوِّضك خيرًا، وأرجو أن تعطي المسألة حجمها؛ فالجزع لا يَرُدُّ غائبًا، ولا يُحيي ميتًا، ولكنه يفقد الإنسان الثواب، ويمرض النفس، والله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن الممنوع هو التمادي أو الاعتراض على قضاء الله وقدره، وتيقني أنَّ الله سيُعَوِّضك خيرًا، فعليك بكثرة الاستغفار، وصِدْق اللجوء والتوجه إلى رب الأرض والسماوات.
والله أسأل أن يخلف عليك، وأن يرزقك ذُرِّيَّة صالحة.