هل يعتبر هذا الزواج شرعيًّا؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا فتاة مراهقة، وقعتُ في حبِّ شابٍّ عبر الإنترنت، وبالأخص الفيس بوك، وكان متعلقًا بي ويريدني زوجة له، وعرَّفني على أهله، وعرَّفته على أهلي، وطلَب مني الزواج ووافقتُ، وجاء بشهودٍ على ذلك ليشهدوا مُوافقتي على الزواج منه، فاعتقد بذلك أنه أصبح زوجي؛ فأهلي وأهلُه مُوافقان على ارتباطنا، لكن دون علمٍ بموضوع الزواج.
فهل في هذه الحالة أكون آثمة؟ وكيف أتوب إلى الله عز وجل؟
فوالله إنني أبكي كل يوم على ما فعلتُ، وأستغفر ربي.
لكن قلبي يؤلمني، وهو يقول: إنه زوجي، وهذا ليس حرامًا!!
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:
فما حدَث بينك وبين هذا الشابِّ نتيجةٌ حتميةٌ للاستخدام الخاطئ للإنترنت، وللتساهُل المحرَّم، بل والمخزي للأهل، ووالله إن العجَبَ لا يكاد ينتهي أن يُبارك الأهلُ مِن الطرفين هذه العلاقات المحرَّمة، والتي لا تنتهي إلا بالحسرة والندامة؛ فإن كان الابنُ لا يُدرك المصالح والمفاسد كاملةً، فوظيفةُ الأهل الشرعية والعُرفية والاجتماعية أن تأخُذَ على أيدي أبنائها وترعاهم؛ وفقًا لديننا وقيمنا، وليس قيم الغرب الكافر.
أما ما فعلتماه وأطلقتما عليه زواجًا، فليس إلا نوعًا مِن العبَث والمحرَّمات شرعًا التي يستحلها الناسُ، ويُسمونها بغير اسمها؛ فقول كل منكما للآخر: زوجتُك نفسي، وفي حضور بعض المعارف، لا يجعله زواجًا إلا في شريعة الجاهلية، ولا يترتب عليه أي أثرٍ من آثار الزواج؛ لعدم توافر شروط صحة النكاح، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الله المشتكى.
وقد أخبرنا النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم بما سيصل إليه الناسُ من تقحُّم الحُرُمات؛ كما في الحديثٍ الذي رواه البخاري مُعلَّقًا عن أبي مالكٍ الأشعري، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن مِن أمتي أقوامٌ، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوامٌ إلى جنب علمٍ، يروح عليهم بسارحةٍ لهم، يأتيهم - يعني: الفقير - لحاجةٍ فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة».
الحِرَ: هو الفرْج؛ والمعنى: أنهم يستحلون الزنا، ويُسمونها بغير اسمها؛ كزواج الهبة، وزواج الدم، أو غير ذلك مما هو منتشرٌ في المجتمعات - مع الأسف - الإسلامية!
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن ناسًا من أمتي يشربون الخمر يُسمونها بغير اسمها»؛ رواه أحمد، وأصحاب السنن.
أما الزواجُ الإسلامي فشيءٌ وراء ذلك كله؛ فهو عقدٌ سَمَّاه الله ميثاقًا، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله»؛ رواه مسلم وأبو داود.
وأمانةُ الله: أي: عهدُه مِن الرِّفق، وحُسن العشرة، وكلمة الله: أي: بشرعه، أو بأمره، وحكمه؛ من الإيجاب والقبول الذي يكون بين أولياء المرأة والزوج؛ فأين هذا فيما فَعَلْتُماه؟!
والحاصلُ: أن عقد الزواج الصحيح هو العقد المستوفي لأركانٍ خمسةٍ؛ وهي:
الأول: الصيغة، وهي: الإيجاب والقَبول، فيقول الزوجُ لوليِّ المرأة: زوِّجني ابنتك، ويُجيبه الوليُّ: زوَّجتُك ابنتي، والقَبول من الزوج يقول: تزوجتُ.
الثاني: الزوج، ويشترط فيه أن يكون ممن يحل للزوجة التزوُّج به، وذلك بألا يكون من المحرمين عليها، وأن يكون الزوج مُعَيَّنًا، فلو قال الوليُّ: زوجتُ ابنتي على أحدكم، لم يصحَّ الزواج؛ لعدم تعيين الزوج، وأن يكون الزوج حلالًا؛ أي: ليس محرمًا بحج أو عمرةٍ.
الثالث: الزوجة، ويشترط في الزوجة ليصح نكاحها الشروط الآتية:
- خُلُوُّها من موانع النكاح.
- أن تكونَ الزوجة معينةً.
- ألا تكون الزوجة محرمةً بحج أو عمرةٍ.
الرابع: الولي، فلا يجوز للمرأة أن تُزَوِّج نفسها؛ سواءٌ كانت صغيرةً أو كبيرةً، بكرًا أو ثيِّبًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بِوَلِي»؛ رواه أحمد، وأبو داود، وللحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود عن عائشة، قالتْ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأةٍ نكحتْ بغير إذن وليها؛ فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ».
وأحقُّ الأولياء بتزويج المرأة: والدها، ثم الجد، والابن، والأخ .. إلى بقية العصبة.
الخامس: الشهادة عليه؛ لحديث: «لا نِكاح إلا بولي، وشاهدي عدلٍ»؛ رواه ابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، مِن حديث عائشة، وابن عباسٍ، وابن مسعودٍ رضي الله عنهم.
كما يجب المهر للزوجة على الزوج بالنكاح الصحيح، وقد ثبت هذا الوجوب بالكتاب والسنة والإجماع.
- فمن الكتاب: قولُ الله - عز وجل -: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4].
- ومن السُّنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سهل بن سعدٍ، عند البخاري ومسلم في صحيحيهما: «التمِسْ ولو خاتمًا من حديدٍ».
وانعقد الإجماعُ على وجوب المهر على الزوج لزوجته؛ نَقَلَهُ ابنُ قُدامة وغيره.
فإذا وقع العقدُ مُستوفيًا لما ذكرناه، فهو صحيحٌ إن شاء الله.
أما ما تذكُرينه ففضلًا عن كونه مُجافيًا للشريعة فهو أيضًا لِعَبٌ ولَهْوٌ بشرع الله في موضع الجد، وتشبهٌ بالمغضوب عليهم اليهود في استحلال ما حرَّمه الله بالتحايل، فجمع بين الشرين؛ الاستخفاف، والاستحلال.
فالواجبُ عليك - أيتها الابنة الصغيرة التي لم تتجاوز السادسة عشرة - التوبة النصوح إلى الله تعالى؛ يعني: أن تُقلعي عن الذنب، ولا ترجعي إليه ثانيةً، وأكثري من الاستغفار، والأعمال الصالحة، واقطعي علاقتك بهذا الشاب وغيره تمامًا، وغيِّري أيَّ حساب لك على الفيس بوك، وبريدك الإلكتروني، ورقم هاتفك، وغيرها مما يُمكنه الوصول بها إليك، وإن دخلت - بعد ذلك - على مواقع التواصل الاجتماعي، فلتقتصرْ مُشاركاتك على مجموعات الفتيات، وإن كنت تعلمين من نفسك ضعفًا فابتعدي تمامًا عن هذا العالم الافتراضيِّ.
وكوني على ثقةٍ مِن أن الله تعالى غفورٌ رحيمٌ، بَرٌّ كريمٌ، يُقابل التوبة بالمغفرة مهما كان الذنبُ كبيرًا، وتأملي - أيتها الصغيرة - ما سأنقله لك من كلام إمامٍ عليمٍ من أعظم أئمة الإسلام وهو يتكلَّم عن التوبة، وكيف أن الإنسان بعد التوبة الصادقة يكون أفضل منه قبلها، فرُبَّ ذنبٍ يكون أنفع للمؤمن مِن كثيرٍ من الطاعات؛ لكونه يورثه وجلًا، وإنابةٍ، وانكسارًا، وذلًّا، وخضوعًا، واعتذارًا، وندمًا، فهذا هو العبدُ الكيس بخلاف العبد العاجز، وإن عسر عليك فهم بعض العبارات، فأعيدي قراءتها مراتٍ ومراتٍ، وستجدينها سهلةً مفهومةً؛
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (15/51-55): "فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهِّرين، وليست التوبة نقصًا؛ بل هي من أفضل الكمالات، وهي واجبةٌ على جميع الخلْق؛ كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 72، 73]، فغايةُ كل مؤمنٍ هي التوبة، ثم التوبة تتنوع كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
والله تعالى قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار؛ عن آدم، ونوحٍ، وإبراهيم، وموسى، وغيرهم، فقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقال نوحٌ: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقال الخليل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]، وقال هو وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، وقال موسى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 155 - 156]، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
وقد ذكر الله سبحانه توبة داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء، والله تعالى {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وفي أواخر ما أنزل الله على نبيه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في افتتاح الصلاة: «اللهمَّ باعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من الخطايا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدنَس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد»، وفي الصحيح أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفرْ لي ذنوبي جميعًا؛ إنه لا يغفِرُ الذنوب إلا أنت»، وفي الصحيح أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم اغفر لي ذنبي كله؛ دقه وجِلَّه، علانيته وسرَّه، أوله وآخره»، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي، وجدي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفرْ لي ما قدمتُ وما أخَّرت، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّمُ وأنت المؤخِّرُ، لا إله إلا أنت».
ومثلُ هذا كثيرٌ في الكتاب والسنة، وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]؛ فتوبةُ المؤمنين واستغفارهم هو مِن أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجل عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب.
وإذا قال القائل: فالتوبة لا تكون إلا عن ذنبٍ، والاستغفار كذلك، قيل له: الذنب الذي يضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبةٌ؛ فأما ما حصل منه توبةٌ، فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة؛ كما قال بعض السلف: كان داود بعد التوبة أحسن منه حالًا قبل الخطيئة، ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر، فإنَّ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء، وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصًا ولا عيبًا؛ بل لما تابوا من ذلك، وعملوا الصالحات، كانوا أعظم إيمانًا وأقوى عبادةً وطاعةً ممن جاء بعدهم؛ فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية.
وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله يحاسب عبده يوم القيامة فيعرض عليه صغار الذنوب ويخبئ عنه كبارها، فيقول: فعلت يوم كذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب وهو مشفقٌ من كبارها أن تظهر، فيقول: إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئةٍ حسنةً، فهنالك يقول: رب إن لي سيئاتٍ ما أراها بعدُ!»؛ فالعبد المؤمن إذا تاب، وبدل الله سيئاته حسناتٍ، انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسناتٍ؛ ينفعه الله بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرةً له، بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له، والاعتبار بكمال النهاية، لا بنقص البداية، فمن نسي القرآن ثم حفظه، خيرٌ ممن حفظه الأول لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح وقوي، لم يضره المرض العارض.
والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع والخشوع لله والإنابة إليه وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لَم يحصُل بدون التوبة، كمن ذاق الجوع والعطش والمرض والفقر والخوف، ثم ذاق الشبع والري والعافية والغنى والأمن؛ فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته والرغبة فيه وشكر نعمة الله عليه والحذر أن يقع فيما حصل أولًا ما لم يحصُل بدون ذلك.
وقد بسَط الكلامُ على هذا في غير هذا الموضع، وينبغي أن يعرف أن التوبة لا بد منها لكل مؤمنٍ، ولا يكمل أحدٌ، ويحصل له كمال القرب من الله، ويزول عنه كل ما يكره - إلا بها".
وقال تلميذه العلامة ابن القيِّم في "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (1/ 307 - 308): "إن الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنتْ به التوبة من كثيرٍ من الطاعات، وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه، فيُحدث له انكسارًا، وتوبةً، واستغفارًا، وندمًا، فيكون ذلك سبب نجاته، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجبًا وكبرًا ومنةً، فتكون سبب هلاكه، فيكون الذنب موجبًا لترتب طاعاتٍ وحسناتٍ، ومعاملاتٍ قلبيةٍ، من خوف الله والحياء منه، والإطراق بين يديه منكسًا رأسه خجلًا، باكيًا نادمًا، مستقبلًا ربه، وكل واحدٍ من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعةٍ توجب له صولةً، وكبرًا، وازدراءً بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار، ولا ريب أن هذا الذنب خيرٌ عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته، الصائل بها، المانّ بها وبحاله على الله - عز وجل - وعباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك، فالله شهيدٌ على ما في قلبه".
والله أسأل أن يتوب علينا جميعاً.
- التصنيف:
- المصدر: