مقاطعة الأهل بسبب سوء الخلق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بارك الله فيكم على هذه الشبكة الرائعة، وجعل ما تُقَدِّمونه في ميزان حسناتكم.
وقعتْ بين أختي وأهل زوجها مشكلة، واعتدى نساء أهل زوجها عليها، وذهبنا معها لإرجاعها إلى بيتها، وحصلت مشكلات بيننا وبينهم؛ مما أدى إلى أنهم اعتدوا عليَّ وعلى والدي؛ لولا أن الله سلَّم.
بعد تدخُّل أهل الخير تَمَّ الصلح بيننا وبين مَن قاموا بالاعتداء علينا، لكن لم يتم الصلح بيننا وبين صاحب المشكلة الأساسية من أهل زوج أختي؛ أي: لا يكلم أحدنا الآخر، فهل لنا أن نقاطع الرجل وألا نلقي عليه السلام لما سببه لنا من أذى.
علمًا بأننا لا نرى المصلحة في الحديث إليه.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فشكر الله لك ولوالدك تحمُّل أولئك الناس، وحِرصكم على معرفة حُكم الشرع في قطيعة الشخص المذكور.
فلا يخفى علينا - جميعًا - أنَّ الإسلام أمَر جميع المسلمين أن يتعامَلوا فيما بينهم مُعاملة الإخوة، وأن تكونَ مُعاشرتهم بالمودة، والرِّفق، والشَّفَقة، والمُلاطَفة، والتعاوُن في الخير، ونحو ذلك، مع صفاء القلوب، والنصيحة لكل مسلمٍ؛ فعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغَضوا، ولا تَحاسَدوا، ولا تدابَروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلمٍ أن يهجرَ أخاه فوق ثلاثٍ»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟»، قالوا: بلى، قال: «صَلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تَحْلق الدين»؛ رواه أحمد، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثَل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى»؛ رواه مسلم.
وعن أبي أيوب الأنصاري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمسلمٍ أن يهجرَ أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان، فيُعرض هذا، ويُعرض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام»؛ متفقٌ عليه.
فحرَّم الله الهجْرَ أكثر من ثلاثٍ، وإنما رخص فيه عند الحاجة؛ كالزوج أن يهجرَ امرأته في المضجع إذا نشزتْ، وكذلك هجر مَن عُرِف بالبدعة، أو الوُقوع في الكبائر؛ لأن الهجْر - حينئذٍ - لحق الله، وليس لحق نفسه.
كما أنه ليس لأحدٍ أن يعتدي على الآخر؛ فضلًا عن أن يؤذيه بقولٍ أو فعلٍ، ولا يتعدى عليه لأجل هواه، فكلُّ هذا من الظلم الذي حرَّمه الله ورسوله، وتوعَّد فاعِلَه بالعقاب؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (24/ 174 - 175): "صح عنه أنه هجر كعب بن مالكٍ وصاحبيه - رضي الله عنهم - لما تخلَّفوا عن غزوة تبوك، وظهرتْ مَعصيتهم، وخيف عليهم النفاق، فهجرهم، وأمر المسلمين بِهَجْرِهم؛ حتى أمرهم باعتزال أزواجهم مِن غير طلاقٍ خمسين ليلةً، إلى أن نزلتْ توبتُهم من السماء.
وكذلك أمر عمر - رضي الله عنه - المسلمين بهجر صبيغ بن عسلٍ التميمي؛ لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب، إلى أن مضى عليه حَوْلٌ، وتبين صِدْقه في التوبة، فأمر المسلمين بمراجعته؛ فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا مَن ظهَرَتْ عليه علامات الزيغ مِن المظهرين للبِدَع الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما مَن كان مُستَتِرًا بمعصيةٍ، أو مُسرًّا لبدعةٍ غير مكفرةٍ، فإن هذا لا يُهْجَر، وإنما يُهجر الداعي إلى البِدْعة؛ إذ الهجرُ نوعٌ مِن العقوبة، وإنما يعاقب مَن أظهر المعصية؛ قولًا، أو عملًا، وأما مَن أظهر لنا خيرًا، فإنا نقْبَل علانيته، ونَكِل سريرته إلى الله تعالى".
فالهجرُ في الله من جنس الجهاد في سبيل الله، وإنما يُفعل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، والمسلمُ الحق يُوالي في الله، ويُعادي في الله.
وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيميَّة الأحوال التي يجوز فيها الهجر، وما يحرم الهجر فيها؛ فقال في "مجموع الفتاوى" (28/ 206):
"الهجرُ يختلف باختلاف الهاجرين؛ في قوتِهم وضعفِهم، وقلتِهم وكثرتهم؛ فإن المقصودَ به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مِثْل حاله؛ فإن كانت المصلحةُ في ذلك راجحةً بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مَشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرْتَدِع بذلك، بل يَزيد الشرَّ، والهاجرُ ضعيفٌ؛ بحيث يكون مفسدةُ ذلك راجحةً على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع مِن الهجر، والهجرُ لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتألَّف قومًا، ويهجر آخرين؛ كما أنَّ الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرًا مِن أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادةً مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثيرٌ، فكان في هَجْرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارةً، والمُهادَنة تارةً، وأخْذ الجِزْية تارةً، كلُّ ذلك بحسب الأحوال والمصالح". اهـ.
والله نسأل أن يؤلِّفَ بين قلوبنا، ويُصلح ذات بيننا، ويَهدينا سُبُل السلام، ويُخرجنا مِن الظلُمات إلى النور.
- التصنيف:
- المصدر: