طريقة التخلص من الرغبة في الحرام
خالد عبد المنعم الرفاعي
شابٌّ يريد أن يُقيمَ علاقات محرمة، ويُفكِّر في السفر لإقامة علاقة محرمة لكنه يخاف، ويرى الهُرُوب والانطواء هو الحل الوحيد للمشكلة.
- التصنيفات: تزكية النفس - الطريق إلى الله - استشارات تربوية وأسرية -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شابٌّ أريد أن أقيمَ علاقةً مع أيِّ فتاة، فإحساسي وتفكيري في الحرام لا يُفارقني، وأفكِّر في السفر دائمًا لعمَل الحرام لكنني أخاف، أفكِّر في الذَّهاب لأداء العمرة، لكنني لا أستطيع، ولا أستطيع أن أصلِّي.
طبعي الجلوس في البيت، من بيتي لعملي، متزوِّج، ولا أستطيع أن أقيمَ صداقةً مع أي شخصٍ، بل أُحب الجلوس وحدي، ولا أستطيع مواجَهة أو حل أية مشكلة تعترضني في حياتي، والحل الوحيد عندي هو الهُرُوب والانطواء.
لديَّ وقت فراغ كبير في حياتي، وأكره الرياضة، كل وَقتي ملَل، جادٌّ في عملي وأحبُّه.
أرجو أن تساعدوني في حل مشكلتي.
وجزاكم الله خيرًا.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فالموقف الذي اتَّخذتَه مِن المجتمع المحيطِ بك؛ مِن الانفراد عن النَّاس، وتفادي الاحتكاك بهم، والهروبِ من أيِّ مشكلةٍ - هو نوعٌ مِن الانطِواء، أو مَظهرٌ مِن مَظاهر عدم التكيُّف الاجتماعي، وأنت تحتاج لبعض الإرشادات لتمرَّ مِن تلك الأزمة بأمانٍ.
لذا أنصحك بالآتي:
أولاً: حاوِلْ أن تكتشفَ إمكاناتك الدَّاخليَّة، وكل جميلٍ في شخصيَّتك، وستجد أوجهًا كثيرةً كنتَ ذاهلاً عنها؛ فهذا ممَّا يساعِد على بناء الثِّقة بالنَّفس، ودَعم عوامل النَّجاح فيها.
ثانيًا: تجنَّب النِّزاعَ والشِّقاق مع أسرتك، وتغلَّب على أيِّ شعورٍ نفسيٍّ بالحرمان أو الظُّلم، أو غير ذلك من المشاعر السلبيَّة.
ثالثًا: في بعض الأحيان يكون الانطواءُ ناتجًا عن بعض الأمراض النفسيَّة التي تحتاج لعَرْضٍ على طبيبٍ نفسانيٍّ لتحديد دواء مناسِب، والأدويةُ الطبِّيَّة في هذا المجال قد حقَّقَتْ طفْرةً علاجيَّة مشهودَة في القضاء على ذلك العَرَض.
رابعًا: ابذلْ وُسعك للانْصِهار في الدَّوائر الاجتماعيَّة المحيطَة بك، والاختلاط بها، ولكن برويَّة وعدم تعجُّل للنَّتيجة السَّريعة، فأنتَ تَحتاج مساعدةَ غيرك لتَخرج مِن عالَمك الخاص، وقد يكون ذلك الغير هو زوجتك أو زميلَ عملٍ أو قريبًا أو غير ذلك، المهم أن تكون شخصيَّة عاقلة واجتماعيَّة.
خامسًا: الحياة بها كثيرٌ مِن مَظاهر الجمال، ولكن تحتاج لِمَنْ يتأمَّلها، ويستمتع بالمباح منها، وهذا من التفكير الإيجابيِّ الذي يُعتبر ركيزةً أساسيَّة في العلاج.
سادسًا: أحْسِنْ إدارةَ وقتك، واكتبْ ما تريد تنفيذه في يومك، مع مراعاة التنوُّع في الوظائف والأنشطة التي ستقوم بها.
سابعًا: للصُّحبة الطيِّبة والقدوةِ الصَّالحة تأثيرٌ فاعِل، متى اتبعتَه سوف تَخرج سريعًا من حالتك، فاجعل الصَّالحين أخلاَّء وقرناء لك، وتقرَّب منهم، وحاول التفاعلَ معهم، وهذا بلا شك يَرفع من مهاراتك الاجتماعيَّة، وستقابل بعضَ هؤلاء بعدَ المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد.
ثامنًا: ممارسَة الرياضة لها أهميَّة كبيرة كما أشارَت لهذا دراساتٌ كثيرة؛ فقد أفادت أنَّ الرِّياضة تعمل على تَغيير المنظومة الكيميائيَّة الدَّاخليَّة في الجسم، وهذا يُزيل الإحباط والاكتئاب، فكن حريصًا على ممارستها، ولكن مع العلم أنَّ المداومة عليها تَحتاج لمجاهَدة النَّفس حتى تصبح جزءًا من برنامج الحياة اليومي.
هذا، وقد آثرتُ أن أرجِئ العلاجَ الأخير؛ لِما له من تأثيرٍ ناجِع في اجتثاث ذلك العَرَض من أصلِه، وهو الفرارُ إلى الله بالتوبة الصَّادقة والعملِ الصالح، فالسعادةُ والنَّعيم والرَّاحة تكون بالقرب من الله تعالى والأُنس به؛ فالقربُ منه سبحانه يعطيك سعادةً في القلب وطمأنينةً في النفس وانشراحًا في الصدر، لا مكان فيه للقلَق ولا الانطواء لأنَّه قلب سليم؛ قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]، والقلب السَّليم هو القلب القريبُ من الله تعالى، العاملُ بطاعته.
احرِصْ مِن الآن على العمل بطاعة الله، والالتزامِ بسائر الشَّعائر التعبُّديَّة - تجد السَّعادة والطمأنينة والشِّفاء من كلِّ ما تعانيه، ومِن أوجب ما تحافِظ عليه الصَّلاة لوقتها؛ فقد أجمع السَّلَف من الصَّحابة والتابعين على كُفر تارك الصلاة.
أمَّا ما يُراودك من خَطرات شيطانيَّة من فِعل الحرام أو مُصاحبةِ امرأة أجنبيَّة عنك، فأنت تعرف أنَّ هذا مما لا يُجيزه الشَّرع، ومِن المحال أن يكونَ فِعل الحرام علاجًا لأدواء النَّفس، وكونك لم تَستجِب لتلك الخطرات مع إلحاحِ النَّفس وضغطِ الواقع - دليلٌ على مدى الخير الكبير الذي بنفسِك، وعلى خوفك من الله، فاستثمِر ذلك الخوف في الاستقامة على شَرع الله ليَكمل لك النُّور والرَّاحة، وبهجة النفس واستقرار العيش، واستعِن بالله ولا تعجزْ، وتضرَّع إليه بالدُّعاء، وتوسَّلْ إليه بالإنابة والعملِ الصَّالح، وخاصَّة الصلاة؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 153].
وما أجمل ما قال الإمام قال ابن القيم في كتاب الفوائد (ص: 139): "الصَّبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ فإنَّها إمَّا أن توجِبَ ألمًا وعقوبةً، وإمَّا أن تقطعَ لذَّة أكمل منها، وإما أن تضيِّع وقتًا إضاعته حَسرة وندَامة، وإمَّا أن تثلم عرضًا توفيره أنفع للعبد مِن ثلمه، وإمَّا أن تُذهب مالاً بقاؤه خيرٌ له مِن ذهابه، وإمَّا أن تضع قدرًا وجاهًا قيامُه خير مِن وَضْعه، وإمَّا أن تَسلب نعمةً بقاؤها ألذُّ وأطيب مِن قضاء الشَّهوة، وإمَّا أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكنْ يجدها قبل ذلك، وإمَّا أن تجلبَ همًّا وغمًّا وحزنًا وخوفًا لا يقارِب لذَّة الشَّهوة، وإمَّا أن تُنسِي علمًا ذِكرُه ألذُّ مِن نيل الشَّهوة، وإمَّا أن تشمتَ عدوًّا وتُحزن وليًّا، وإمَّا أن تقطعَ الطريقَ على نِعمة مقبِلة، وإمَّا أن تحدِث عيبًا يَبقى صفةً لا تزول؛ فإنَّ الأعمال تورِث الصِّفات والأخلاق".
ولْتعلمْ رعاك الله أنَّ السَّعادة إنَّما تنبع مِن داخِل النَّفس، ثمَّ تنعكس على الخارج، فأكثِر من ذِكر الله تعالى ومن العملِ الصَّالح.
وأنقُل لك شيئًا يسيرًا من بديع العِلم لتدركَ أثَر العبادات البالغ في علاج النَّفس؛ قال ابن القيم في شفاء العليل (1 / 226 - 229): "فأوامرُ الربِّ تعالى رَحمةٌ وإحسان، وشفاء ودواء، وغذاء للقلوب، وزينة للظَّاهر والباطن، وحياة للقلب والبدَن، وكم في ضمنه مِن مَسَرَّة وفَرحة ولذَّة وبَهجة ونعيمٍ وقرَّة عين، فما يسمِّيه هؤلاء تكاليف إنَّما هو قرَّة العيون وبَهجة النُّفوس، وحياة القلوبِ ونور العقول، وتكميل للفِطَر، وإحسان تامٌّ إلى النوع الإنساني أعظَم من إحسانه إليه بالصحَّة والعافية، والطعامِ والشراب واللباس، فنعمتُه على عباده بإرسال الرُّسل إليهم وإنزالِ كتبه عليهم وتعريفهم أمرَه ونهيَه وما يحبُّه وما يبغضه - أعظم النِّعم وأجلُّها، وأعلاها وأفضلها، بل لا نِسبة لرحمتهم بالشَّمس والقمر والغيث والنَّبات، إلى رحمتهم بالعِلم والإيمان، والشرائع والحلالِ والحرام... وهل قامت مصالِح الوجود إلاَّ بالأمر والنَّهي وإرسالِ الرسل وإنزال الكتب؟ ولولا ذلك لكان النَّاس بمنزلة البهائم يتهارَجون في الطُّرقات، ويتسافدون تسافُد الحيوانات، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى صواب!
وأنت ترى الأمكنةَ والأزمنة التي خفيَت فيها آثارُ النُّبوة كيف حال أهلها وما دخل عليهم من الجَهل والظُّلم، والكفرِ بالخالق والشِّرك بالمخلوق، واستحسانِ القبائح وفساد العقائد والأعمال؛ فإنَّ الشَّرائع بتنزيل الحكيم العليم، أنزلها وشرعها الذي يَعلم ما في ضمنها من مصالِح العباد في المعاش والمعاد وأسبابِ سعادتهم الدنيوية والأخروية، فجعلها غذاء ودواء، وشفاء وعصمة، وحصنًا وملجأ، وجُنَّةً ووقاية.
وشرائعُ الربِّ تعالى فوق ذلك وأجلُّ منه، وإنَّما هو تمثيلٌ وتقريبٌ؛ فلا أحسن مِن أمره ونهيِه، وتحليله وتحريمه، أمرُه قوت وغذاء وشفاء، ونهيُه حمايةٌ وصيانة، فلم يأمرْ عبادَه بما أمرهم به حاجةً منه إليهم ولا عبثًا؛ بل رحمة وإحسانًا ومصلحة، ولا نهاهم عمَّا نهاهم عنه بُخلاً منه عليهم؛ بل حماية وصيانة عمَّا يؤذيهم ويعود عليهم بالضَّرر إن تناولوه.
ويكفي العاقل البصير الحي القلب فِكرة في فرعٍ واحد من فروع الأمر والنَّهي، وهو الصَّلاة، وما اشتملَت عليه من الحِكَم الباهرة، والمصالحِ الباطنة والظاهرة، والمنافع المتصلة بالقلب والرُّوحِ والبدن والقوى، التي لو اجتمع حُكماء العالَم قاطبة واستفرغوا قواهم وأذهانَهم لما أحاطوا بتفاصيل حِكَمها وأسرارِها وغاياتها المحمودة؛ بل انقطعوا كلُّهم دون أسرار الفاتحة وما فيها من المعارِف الإلهيَّة والحِكَم الربانيَّة، والعلومِ النافعة والتوحيد التامِّ، والثناءِ على الله بأصول أسمائه وصفاته، وذِكر أقسام الخلقة باعتبار غاياتهم ووسائلهم، وما في مقدِّماتها وشروطها من الحِكَم العجيبة؛ من تطهير الأعضاء والثياب والمكان، وأخذ الزِّينة، واستقبالِ بيته الذي جعله إمامًا للنَّاس، وتفريغ القلب وإخلاصِ النيَّة، وافتتاحها بكلمة جامعة لمعاني العبوديَّة دالَّة على أصول الثَّناء وفروعِه، مخرجة من القلب الالتفات إلى ما سواه والإقبال على غيره، فيقدم بقلبه الوقوفَ بين يدَي عظيمٍ جليل أكبر من كلِّ شيء، وأجل من كلِّ شيء وأعظم من كلِّ شيء.
ثمَّ أخذ في تسبيحه وحمدِه وذِكره تبارك اسمه وتعالى جدُّه وتفرده بالإلهية، ثمَّ أخذ في الثَّناء عليه بأفضل ما يُثنى عليه به؛ من حمده وذِكر ربوبيَّته للعالم، وإحسانِه إليهم ورحمته بهم، وتمجيده بالملك الأعظَم في اليوم الذي لا يكون فيه مَلِك سواه، حتى يَجمع الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد ويدينهم بأعمالهم، ثمَّ إفراده بنوعَي التوحيد؛ توحيد ربوبيَّته استعانة به، وتوحيد إلهيَّته عبوديَّة له، ثمَّ سؤاله أفضل مسؤول وأجل مَطلوب على الإطلاق؛ وهو هداية الصِّراط المستقيم الذي نصبه لأنبيائه ورسلِه وأتباعِهم، وجعله صراطًا موصلاً لمن سلكَه إليه وإلى جنَّته، وأنَّه صراط مَن اختصَّهم بنعمته بأن عرَّفهم الحقَّ، وجعلهم متَّبعين له دون صراط أمَّة الغضَب الذين عرفوا الحقَّ ولم يتَّبعوه وأهل الضلال الذين ضلُّوا عن معرفته واتِّباعه.
ثمَّ يأخذ بعد ذلك في تلاوة رَبيع القلوب وشفاءِ الصُّدور، ونور البصائر وحياةِ الأرواح، وهو كلام ربِّ العالمين، فيَحل به فيما شاء من روضاتٍ مونقات وحدائق معجبات، زاهية أزهارُها، مونقة ثمارها، قد ذلِّلَت قطوفُها تذليلاً وسهلتْ لِمتناولها تسهيلاً، فهو يجتني من تلك الثِّمار خيرًا يؤمَر به، وشرًّا يُنهى عنه، وحِكمة وموعظةً، وتبصِرة وتذكرة وعبرة، وتقريرًا لحقٍّ ودحضًا لباطل، وإزالة لشُبهة وجوابًا عن مسألة وإيضاحًا لمشكل، وترغيبًا في أسباب فلاحٍ وسعادة، وتحذيرًا من أسباب خسرانٍ وشقاوة، ودعوة إلى هدًى وردًّا عن ردى، فتنزل على القلوب نزولَ الغَيث على الأرض التي لا حياة لها بدونه، ويحل منها محلَّ الأرواح من أبدانها.
ثمَّ يعود إلى تكبير ربِّه عزَّ وجلَّ، فيجد ربه عهد التذكرة؛ كونه أكبر من كلِّ شيء بحقِّ عبوديته وما يَنبغي أن يعامَل به، ثمَّ يرجع جاثيًا له ظهرَه خضوعًا لعظمته، وتذلُّلاً لعزَّته، واستكانةً لجبروته، مسبِّحًا له بِذكر اسمه العظيم، فنزَّه عظمته عن حال العبد وذلِّه وخضوعِه، وقابَل تلك العظَمَة بهذا الذلِّ والانحناء والخضوع، قد تطامَن وطأطَأ رأسَه وطوى ظهرَه، وربُّه فوقَه يرى خضوعَه وذلَّه، ويسمع كلامَه، فهو ركنُ تعظيمٍ وإجلال؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «أمَّا الركوع فعظِّموا فيه الربَّ»، ثم عاد إلى حاله من القيام حامدًا لربِّه مثنيًا عليه بأكمل محامده وأجمعِها وأعمِّها، مثنيًا عليه بأنَّه أهل الثَّناء والمجد، ومعترفًا بعبوديَّته، شاهدًا بتوحيده، وأنَّه لا مانع لما أعطى ولا معطِيَ لما منعَ، وأنَّه لا ينفع أصحاب الجدد والأموال والحظوظ جدودهم عنه، ولو عظمَت.
ثمَّ يعود إلى تكبيره، ويخرُّ له ساجدًا على أشرف ما فيه؛ وهو الوجه، فيعفِّره في التراب ذلاًّ بين يديه ومسكنةً وانكسارًا، وقد أخذ كلُّ عضو من البدن حظَّه من هذا الخضوع حتى أطراف الأنامِل ورؤوس الأصابع، وندب له أن يسجد معه ثيابه وشعره، ويكون رأسه أسفلَ ما فيه تكميلاً للخضوع والتذليل لمن له العزُّ كله والعظمة كلها، وهذا أيسرُ اليسير من حقِّه على عبده، فلو دام كذلك من حين خُلق إلى أن يموت لما أدَّى حقَّ ربِّه عليه.
ثمَّ أمر أن يسبِّح ربَّه الأعلى، فيذكر علوَّه سبحانه في حال سفولِه وهو وينزِّهه عن مِثل هذه الحال، وأنَّ من هو فوق كلِّ شيء وعالٍ على كلِّ شيء يُنَزَّه عن السُّفول بكلِّ معنًى، بل هو الأعلى بكلِّ معنًى من معاني العلوِّ، ولما كان هذا غاية ذلِّ العبد وخضوعه وانكساره كان أقرب ما يكون الربُّ منه في هذه الحال، فأُمر أن يَجتهد في الدُّعاء لقربه من القريب المجيبِ، وقد قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
ولمَّا كان أشرف أذكار الصَّلاة القرآن شرع في أشرف أحوالِ الإنسان؛ وهي هيئة القِيام التي قد انتصَب فيها قائمًا على أحسن هيئة، ولمَّا كان أفضل أركانها الفعليَّة السُّجود شرع فيها بوصف التكرار، وجعل خاتمةَ الرَّكعة وغايتها التي انتهَت إليها مطابقًا لافتتاح الرَّكعة بالقرآن واختتامها بالسُّجود - أول سورة افتتَح بها الوحي فإنَّها بُدئت بالقراءة، وخُتمَت بالسُّجود، وشرع له بين هذين الخضوعين أن يَجلس جلسةَ العبيد، ويسأل ربَّه أن يَغفر له ويرحمه ويرزقه ويَهديه ويعافيه، وهذه الدَّعوات تَجمع له خيرَ دنياه وآخرته، ثمَّ شرع له تكرار هذه الرَّكعة مرَّةً بعد مرَّة، كما شرع تكرار الأذكار والدَّعوات مرَّة بعد مرة؛ ليستعدَّ بالأول لتكميل ما بعدَه، ويجبرَ بما بعده ما قبله، وليشبع القلب من هذا الغِذاء، وليأخذ رواه ونصيبَه وافرًا من الدَّواء ليقاومه؛ فإنَّ منزلة الصَّلاة من القلب منزلة الغِذاء والدَّواء.
ثمَّ لَمَّا أكمل صلاته شرع له أن يقعد قعدةَ العبد الذَّليل المسكين لسيِّده، ويثني عليه بأفضل التحيَّات، ويسلِّم على من جاء بهذا الحظِّ الجزيل، ومن نالَته الأمَّة على يديه، ثمَّ يسلِّم على نفسه وعلى سائر عباد الله المشارِكين له في هذه العبوديَّة، ثمَّ يتشهَّد شهادة الحقِّ، ثمَّ يعود فيصلِّي على من علَّم الأمَّةَ هذا الخير ودلَّهم عليه، ثمَّ شرع له أن يسأل حوائجَه، ويدعو بما أحبَّ ما دام بين يدي ربِّه مقبِلاً عليه، فإذا قضى ذلك أذِن له في الخروج منها بالتَّسليم على المشاركين له في الصلاة"؛ اهـ. موضع الشاهد منه مختصرًا.
هذا وأسأل اللهَ العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيك.