زوجي مدخن فكيف أتعامل معه؟
سيدة متزوجة من رجل مدخن، تكره التدخين ورائحته، كلَّمتْهُ كثيرًا فلم يسمع، حتى وصل بها الحال إلى كُرهِه وكُرْهِ الاجتماع به في مكان واحد.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا سيدة متزوجة مِن رجل مدخنٍ، حاولتُ نُصحه بترْك التدخين، لكرهي له ولضياع الأموال بغير فائدة، لكن باءتْ محاولاتي بالفشل، ولم أيئسْ.
تأثرتْ حياتي كثيرًا بسبب عصبيَّته على أتْفَهِ الأسباب إذا لم يُدَخِّنْ، وإذا دَخَّن تَحَسَّن مزاجُه.
وصل بي الحال إلى أني كرهتُه، وكرهتُ اجتماعي به في مكان واحدٍ، بسبب البَلْغَم والسُّعال والنفس ورائحة الفم، فلم أعُدْ أتحمَّله!
أشيروا عليَّ ماذا أفعل؟
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فقبل الشروع في جواب استشارتك أيَّتها الابنةُ الكريمة، أحبُّ أن أذكر لك مقدِّمة ضروريَّة وهي بمثابة النَّصيحة:
إنَّ استقرار الحياة الزوجيَّة والمحافظَة عليها من التصدُّع، وإقامتها على أساسٍ من المودَّة والرَّحمة، غرضٌ شرعيٌّ يتحقَّق من ورائه أهداف كثيرة للأسرة والمجتمع، من أجل هذا حرَص الإسلامُ على توفير السَّكن والطمأنينة والسترِ للأسرة، كما حرص على توفير ضمانات البَقاء والاستقرارِ، والهدوء في جوِّها، والمحافظة عليها من زعازِع الأهواء والخلافات، وأمَر كلاًّ مِن الزَّوجين باتِّقاء عناصر التهديم والتدمير، ومن ثمَّ أمرَنا الله تعالى بمجرَّد ما يلوح شبَح الخطر على الأسرة وقبل أن تظهر بوادِر النُّشوز والشِّقاق - أمرنا بالسَّماح بدخول أطرافٍ خارجيَّة من أصحاب العقول الرَّشيدة لإنقاذ الأسرة من الانهيار؛ فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
"هكذا لا يدعو المنهجُ الإسلاميُّ إلى الاستسلام لبوادر النُّشوز والكراهية، ولا إلى المسارَعة بفَصم عُقدة النِّكاح، وتحطيم مؤسَّسة الأسرة على رؤوس مَن فيها من الكبار والصغار - الذين لا ذنب لهم ولا يد ولا حِيلة - فمؤسَّسة الأسرة عزيزةٌ على الإسلام بقَدر خطورتها في بناء المجتمع، وفي إمدادِه باللَّبنات الجديدة، اللاَّزمة لنموِّه ورقيِّه وامتداده.
إنَّه يلجأ إلى هذه الوسيلة الأخيرة - عند خوف الشِّقاق - فيبادر قبل وُقوع الشقاق فعلاً؛ يُبعث حكَمٌ مِن أهلها ترتضيه، وحكَمٌ مِن أهله يرتضيه، يَجتمعان في هدوء، بعيدين عن الانفعالات النفسيَّة، والرَّواسب الشعوريَّة، والملابسات المعيشيَّة، التي كدَّرَت صفوَ العلاقات بين الزَّوجين، طليقين من هذه المؤثِّرات التي تفسِد جوَّ الحياة، وتعقِّد الأمور، وتبدو - لقربها من نفسَي الزوجين - كبيرة تغطِّي على كلِّ العوامل الطيِّبة الأخرى في حياتهما، حريصين على سُمعة الأسرتين الأصليَّتين، مُشفِقين على الأطفال الصِّغار، بريئين من الرَّغبة في غلبَة أحدهما على الآخر - كما قد يكون الحال مع الزَّوجين في هذه الظُّروف - راغبين في خير الزَّوجين وأطفالِهما ومؤسَّستهما المهدَّدة بالدَّمار...، وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزَّوجين، لأنَّهما من أهلهما، لا خوف من تشهيرِهما بهذه الأسرار؛ إذ لا مصلَحة لهما في التَّشهير بها، بل مصلحتهما في دَفنها ومُداراتها.
يجتمع الحكَمان لمحاولة الإصلاح، فإن كان في نفسَي الزَّوجين رغبةٌ حقيقيَّة في الإصلاح، وكان الغضَب فقط هو الذي يحجب هذه الرَّغبة - فإنَّه بمساعدة الرَّغبة القويَّة في نفس الحكَمين، يقدِّر الله الصَّلاحَ بينهما والتوفيق: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]"؛ قاله حكيم الإسلام سيد قطب في الظلال (2/ 656).
إذا تقرَّر هذا أيَّتها الابنة الكريمة، فابدئي بتقديم النُّصح لزوجك بتَرك السَّجائر؛ لأنَّها محرَّمة أولاً، وتسبِّب أضرارًا كثيرة على البدَن ثانيًا، وثالثًا لتعدِّي ضررها إليكِ، وإلحاق الأذى بالمسلِمين من الأمور المحرَّمة شرعًا؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58]، والقاعدة الشرعيَّة: "لا ضرر ولا ضرار"، وعن ابن عمر قال: صعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المنبرَ فنادى بصوتٍ رفيع، فقال: «يا معشر من أسلَم بلسانِه ولم يفضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تُؤذوا المسلمين»، الحديث؛ رواه أحمد والترمذي.
واستعيني بالله على نصيحتِه، واستخدمي الأسلوبَ الحسَن والكلامَ الحاني والرَّقيق، وعليكِ بالرِّفق والرويَّة والتمهُّل ومشاورةِ العقلاء من أهلك.
هذا، وسألخِّص لكِ بعضَ النِّقاط تستعينين بها في نُصح زوجك:
أولاً: أنتِ وزوجك متَّفقان على أنَّ للدخان رائحة خبيثة، يبقى أثرها في فم المدخِّن وجسده وملابسِه وأسنانِه وشفتيه ولثته، فضلاً عن الأعراض الجسديَّة الأخرى من السُّعال والبَصق، والزَّوج بلا تردُّد لا يَقبل ولا يرضى من زَوجته أن تكون على تِلك الصِّفة والهيئة عندما يَقربها، والزَّوجة كالزوج تمامًا في هذا الباب؛ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228]، وقال سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
قال ابن كثير رحمه الله: "ولهنَّ على الرِّجال من الحقِّ مثل ما للرِّجال عليهنَّ، فليؤدِّ كلُّ واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف".
ثانيًا: قد نصَّ الفقهاء على أنَّ للزَّوج مَنع زوجته من أكلِ ما يتأذَّى من رائحته؛ كبصلٍ وثوم، ومن أكلِ ما يخاف منه حدوث المرَض، والزَّوجة كذلك، ولذلك لكِ أن تُطالبيه بالامتناعِ من الدُّخان لما يلحقكِ من التأذِّي برائحته المنتِنة، أو التضرُّر مِن دخانه.
عن ابن عباس قال: "إنِّي أحبُّ أن أتزيَّن للمرأة، كما أحبُّ أن تتزيَّن لي؛ لأنَّ الله تعالى ذِكرُه يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]"؛ رواه الطبري في تفسيره.
ثالثًا: احرصي على أداء حقِّه، واستمرِّي في نُصحه، وإظهار الشَّفقَة عليه، لكن مع أداء حقِّه، ولا تُعيني الشيطانَ عليه أو تضجريه؛ بحيث يَنفر منكِ ومن فراشِك؛ فإنَّ مثل ذلك غير مأمون العاقِبة في حقِّه، وربَّما أحدث ضررًا ومفسدةً فوق ما تطلبينَه من امتناعه من التدخين، ولكن أظهري كراهيتك بتأفُّفكِ من الرَّائحة الكريهة، ومطالبته بإزالتها وتنظيف فمه، وإظهار التغضُّب، ولكن بقَدر، وتحمُّل ما تجدينه من الأذى.
رابعًا: ممَّا يعينه على الإقلاع عن التدخين أمورٌ احرصي على تذكيره بها، وإعانته على العمَل بها.
منها: إخلاص النيَّة لله وصِدق الرغبة؛ فإنَّ من صدَق مع الله صدَقه اللهُ وأعانه، وترك العوائد لله سهلٌ مَيسور، ويصعب على من تركها لغير الله.
قال الإمام ابن القيم في كتاب الفوائد (ص: 107): "فائدة جليلة: إنَّما يجد المشقَّة في ترْك المألوفات والعوائد من تركَها لغير الله، فأمَّا مَنْ تركها صادقًا مخلصًا من قلبه لله فإنَّه لا يجد في تَركها مشقَّة إلاَّ في أول وَهلة؛ ليُمتحن أصادِق هو في تَركها أم كاذب، فإن صبَر على تلك المشقَّة قليلاً استحالَت لذَّة، قال ابن سيرين: "سمعتُ شريحًا يَحلف بالله: ما ترك عبدٌ لله شيئًا فوجد فَقْدَه"، وقولهم: "من ترك لله شيئًا عوَّضه الله خيرًا منه" حقٌّ، والعوض أنواع مختلِفة، وأجلُّ ما يعوَّض به الأُنس بالله ومحبَّته، وطمأنينة القلب به، وقوَّتُه ونشاطه، وفرحه ورضاه عن ربِّه تعالى".
ومنها: استحضار عظَمَة الله وهو يقَع في تلك المعصية، فقد قال أحد السلَف: "لا تَنظر إلى صِغَر الذَّنب، ولكن انظر إلى عظَمَة من عصيتَ".
ومنها: تذكُّر سوء عاقِبة المعصية في الدنيا والآخرة، لا سيما أنَّ الإصرار على الصَّغيرة يقلِبها كبيرة؛ كما صحَّ عن حبر الأمَّة ابن عباس رضي الله عنهما.
ومنها: معرفةُ أضرار التدخين؛ من الإصابة بالسَّرطانات، وأمراضِ الصَّدر، وتصريح الأطباء بأنَّ التدخين انتحارٌ بطيء، وفي ذلك عِبرة لمن يَعتبر من الخوف من سوءِ عاقِبة التدخين في الدُّنيا.
وختامًا: إن استشعرتِ بعد كل هذه المحاولات صدودًا من زوجكِ، أو عدم اكتراثٍ بمشاعرك، فلا تتردَّدي في السَّماح بدخول أطرافٍ خارجيَّة من عقلاء الأقارب؛ لرأب الصَّدع، ووضع حلول للمشكِلة.
ونسأل اللهَ أن يوفِّقك وزوجَكِ لكلِّ خير، وأن يتوب عليه من تلك العادَة السيئة.
- التصنيف:
- المصدر: