علمي دعوي لكن غريب

منذ 2018-05-07

والله لا أريد لك إلاَّ الفلاح، ولهذا ضَعْ نصب عينيكَ ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنَّ أوَّل النَّاس يُقْضَى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأتى يعرّفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟

السؤال:

السؤال..

بسم الله الرحمن الرحيم

في الحقيقة أنَّ مشكلتي قد تكون غريبة وفيها بعض الغموض، إلاَّ أنها واقعية، فهدفي في الحياة والذي أصبو إليه وأدندن حوله، هو: ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 46]، فأنا أريد أن أكون داعيةً إلى الله، ولا شكَّ أن كلَّ داعية عالم، فأنا أريد أن أكونَ عالمًا أفيد في الأوَّل نفسي، ثم أفيد الآخرين.

 

لكن مشكلتي أنَّ في الطريق كثيرين جدًّا، (وهذا هو الغموض الذي سوف تفهمونه).

 

فكم هم الذين يسلكون طريق الدَّعوة والعلم!! وهذا هو سبب ضُمورِ هِمَّتِي وانحلال عزيمتي، فلو كان الطَّريق خاليًا أو شبه خالٍ لكان عزمي متوقِّدًا، وكنت شعلةً منَ النَّشاط.

 

في الطَّريق أناسٌ أكثَرُهم متعلمون في هذا الزَّمن يفقهون أبجديَّات الدِّين، ويوجد كثير منَ الدُّروس والمُحاضرات والمُؤتَمرات والمُناقشات والحوارات العِلميَّة الدَّعويَّة، وكم الكتب التي تطبع، وكم عدد المشايخ والمربين وأساتذة الجامعات والطُّلاَّب والمتربّين... إلخ.

 

قد تستغرب هذا السُّؤال، وتقول لي: الحمد لله، هذا خير وبركة...

 

لكن أقول لك هذه سبب مشكلتي، لا أعلم لماذا أحب أن يكون كثير من أصدقائي طلبة العلم والقُرَّاء والمُتابعين جَهَلة.

 

لا أدري أين المشكلة، بدأت أحبُّ أن يكونَ النَّاس جُهَّالاً، وألاَّ يقرؤوا حتى أُفِيدهم.

 

المُشكلة أنَّ كثيرًا منَ النَّاس مثقَّفون وأصحاب قراءة، أعتقد أنِّي بعد طلبي للعلم لن أفيد إلاَّ نفسي والنَّزر اليسير منَ المجتمع، فقدْ أكون خطيبًا وأستاذًا وكاتبًا فقط؛ لكن أريد أكثر، بدأت أحبُّ أن ينصرفَ النَّاس عنِ الدِّيانة والعياذُ بالله؛ حتى أدعو إلى الله وأعلمهم - في الحقيقة لا أعلم.

 

لكن أريد حلاًّ لهذه المشكلة الغَرِيبة.

 

أرجوكم أنا مؤمن إيمانًا كامِل الإيمان أنَّ الله سوف يوفّقكم وتدلّوني على الطَّريق الصَّحيح؛ كما هي عادتكم.

 

وفَّقكم الله وسدَّدكم

الإجابة:

الجواب

مرحبًا بك أخي الكريم، وأهلًا وسهلًا بك في موقع الألوكة..

قرأت رسالتك عدَّة مرَّات لأقف منها على ما تريد، وأستشفَّ ما تقصد؛ فراعني فيها أنَّك تَحمل همًّا كبيرًا، ولديك طموح رائع، لكنَّك تخشى أن تُغبن وتتوجَّس من بُنَيَّات الطريق.

 

تعال بنا نرتّب بعض الأفكار؛

• أوَّلاً: سُمُوّ هَدفِك:

ما أطيبَ هدفَك الذي تسعى إليه! فهو عمل الأنبياء والمُرْسلين، أمر به ربُّنا - عزَّ وجلَّ - نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، فنسأل الله - عزَّ وجل - أن يوفّقك في سَلْكِ سبيل الدعوة، وأن يُيسّر لك أمرك، ويحقِّق لك هدفكَ.

 

ولكن اعلم - أخي - أنَّ مجال الدَّعوة مجال امتحان القلوب، وأصحاب الدَّعوة المشتغلون بها من أشدّ النَّاس معاناةً لهذا الامتحان، فشهوةُ توجيه الآخرين والشُّهرة والتَّعالي على الخلق كلُّها امتحانات قد تجعل الدَّعوة وبالاً على صاحبها - والعياذ بالله، وفتنة النُّكوص عنِ الدَّعوة أو توجيهها إلى غير رضا الله داءٌ عضال.

 

• ثانيًا: بالنِّسبة لمُشكِلَتك:

 

• كثرة الدُّعاة وطلبة العِلْم:

قلتَ في سؤالِك: "لكن مشكلتي أنَّ في الطَّريق كثيرين جدًّا" وهذا ما يؤرّقكَ؛ اعلم يا أخي أن أنسب بيئةٍ لشُهْرَة العالم هي بيئة العلماء، فلو ظهرتَ في بيئة جاهلة لا يوجد فيها عالم أو طالب علم - وأنت عالم - فلن تُعْرَف ولن يُعْرَف قدركَ، فإنَّه لا يعرف قَدْر العلماء إلاَّ العلماء.

 

واعلم أنَّ كثرة الدّعاة الآن - وإن كان أمرًا مَحمودًا - ليس فيها الغناء والكفاية، فكم هي الأبواب الموصدة التي لم يطرقوها، وكم هي مفاسد المجتمع التي تَحتاج إلى دُعاةٍ صادقين لا يَخافون في الله لومة لائم، لم يوجدوا بعدُ.

 

والدَّعوةُ - يا أخي - لم تنقطع منذ كلَّف الله - عزَّ وجلَّ - بها هذه الأُمَّة الخيرة {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ولن تنقطع إن شاء الله، ولكن كلٌّ من الدعاة على ثغرٍ لا يزاحم أخاه ولا يغني عنه.

 

• ضمور همتك وانحلال عزيمتك:

اعلم أنَّ علوَّ الهِمَّة يأتي مِن صلاح النِّية، فإنَّه كلَّما صلَحتْ نيَّتكَ وإخلاصكَ لله تعالى زَاد نشاطُك، وازدادتْ عزيمتُكَ في المُذاكرة والبحث والحفظ وزادتْ بذلك هِمَّتُكَ.

 

أمَّا لو خلا الطَّريق أمامكَ وأصبحت أنت مَنْ يُعَلِّم فقط، فكبّر على العلم أربعًا، فمَن ذا الَّذي يدَّعي أنه ألَمَّ بالعِلْمِ؟

 

مَا حَوَى العِلْمَ جَميعًا أَحَدٌ        لا  وَلَوْ  مَارَسَهُ  أَلْفَ  سَنَهْ

إِنَّمَا  العِلْمُ  كَبَحْرٍ   زَاخِرٍ        فَالْتَمِسْ مِنْ كُلِّ فَنٍّ أَحْسَنَهْ

ولا أخفيك أنَّ في العلم غبنًا كثيرًا، ومريرًا أيضًا:

وَلَيْسَ يَخْلُو  امْرؤٌ  مِنْ  حَاسِدٍ  أضِمٍ        لَوْلا  التَّنافُسُ  فِي  الدُّنْيا   لما   أُضِمَا

وَالغَبْنُ فِي العِلْمِ أَشْجَى مِحْنَةٍ عُلِمَتْ        وَأَبْرَحُ  النَّاسِ  شَجْوًا  عَالِمٌ   هُضِمَا

لكن يزيل عنك ألَم هذا الغبن أن تعلم: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]، فَطِبْ نفسًا ما دُمْت كنزًا نفيسًا فلن تَعْدَم من يُنَقِّب عنك.

 

• حُبُّك لأن يكونَ أصدقاؤك من طلبة العلم جُهَّالاً:

قلتَ في سؤالك: إنك تحب أنْ يكونَ طلبةُ العلم والدُّعاة جُهَّالاً، وقد آلمني هذا كثيرًا، وهذا ما أخاف عليك بشأنه؛ لأنَّنِي أشَمُّ فيه رائحة حُبِّ الظُّهور والشُّهْرة - والعياذ بالله.

 

فإن كنت تريد الشُّهرة والظُّهور بين النَّاس فوسائلها كثيرة أسهل منَ العلم، فلا تُتعبْ نفسكَ في المُذاكرة والمُدَارسة والسَّهر إذا كنت تريد الظُّهور والإشارة إليك بالبنان.

 

هذه أهمّ المشكلات التي في سؤالك والتي أشعر بها معك، وإليك هذه النقاط:\

 

• أوَّلاً: إصلاح النِّية:

كان السَّلفُ - رضي الله عنهم - يطلبون العلم لله فنبلوا، وصاروا أئمَّة يُقتدى بهم، فعليك أن تصلح نيَّتك مِن تعلُّمك للعلم، وتُخلص النِّيَّة لله، فلا يكون طلبك هذا إلاَّ لله وحده، لتبتغي عنده الرضوان، وترجو لديه الثواب، لا لترتفع به في أعين النَّاس، وتعلو به فوق أعناقهم، وتركب به أكتافهم، فمَنْ طَلبَ العِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ العُلَمَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه))؛ رواه مسلم.

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مَن تعلَّم علمًا يُبتغَى به وجه الله - عزَّ وجلَّ - لا يتعلمه إلاَّ ليصيبَ به غرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنَّة يوم القيامة))؛ رواه أبو داود.

 

• ثانيًا: إياك والشُّهرة:

وابتغ بتعبك وجه الله حتَّى تسلم، فقد قال بعض السَّلف: "مَن نجا من الكِبْر والرِّياء وحبِّ الشُّهرة فقد سلم"، وقال بعضهم: "ما صدق عبد أحب الشُّهْرة"، وقالوا: "إذا رأيت الرَّجُل لجوجًا مُماريًا معجبًا برأيه فقد تمَّت خسارته"، ورحم الله الشَّافعي العَلَم إذ يقول: "كلَّما ازددتُ علمًا ازددت علمًا بجهلي". فأين أنت من الشافعي؟!!

 

فلا تكن ذا وجهين وذا لسانين، تظهر للنَّاس ليحمدوك وقلبك فاجِر، فحذارِ حذارِ مِنْ فتنة التَّصدُّر، وطلب الشُّهرة، فإنَّها عمار للنَّار، قتَّالة للقلب مفسدة له، دالَّة على سوء النَّوايا، وإنَّما من ابتلي بذلك صبر، ومن استراح من هذا شكر.

 

• ثالثًا: التواضع:

لتعلم أخي أنَّ العِلْمَ بَحْر لا ساحِلَ له، فقد قيل: "العِلْم ثلاثةُ أشبار، مَن دخل في الشبر الأوَّل: تكبَّر، ومن دخل في الشبر الثاني: تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث: علم أنه ما يعلم".

 

قال الماوردى في "أدب الدنيا والدين": "وقلَّما تَجِدُ بالعلم معجبًا، وبِما أدرَكَ مُفْتخرًا إلاَّ من كان فيه مقلاًّ مقصرًا؛ لأنَّه قد يجهل قدره، ويحسب أنه نال بالدُّخول فيه أكثره، فأمَّا من كان فيه متوجهًا، ومنه مستكثرًا، فهو يعلم مِن بُعْدِ غايتِه والعجْزِ عن إدراك نِهايته ما يصدُّه عن العُجْبِ به".

 

فالمتكبِّر هو الذي عنده قليل علم، فما تكبر إلاَّ جاهل، وما تواضع إلا عالم، وكلَّما ازددتَ في العلم كلَّما ازدادَ تواضُعك، فحذار حذار من فتنة التَّكبُّر والإعجاب بالنَّفس، فإنَّها مهلكة.

 

• رابعًا: حَمْل النَّفس على العمل بمقتضى العلم:

فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3]، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق به أقْتابُه فيدورُ بِها في النَّار كما يدورُ الحِمار بِرَحاه فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك؟ ألم تَكُنْ تأْمُرنا بالمعروف وتنهانا عنِ المنكر؟ فيقول: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنْهاكم عن المنكر وآتيه))؛ رواه البخاري ومسلم. قال الخطيب: "ثُمَّ إنِّي موصيك - يا طالب العلم - بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النّفس على العَمَلِ بِموجبه، فإنَّ العلم شجَرةٌ والعمل ثمرةٌ، وليس يُعَدُّ عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً".

 

• خامسًا: كيف تفيد الناس؟:

قلت في سؤالك:"أعتقد أني بعد طلبي للعلم لن أفيد إلاَّ نفسي والنَّزر اليسير من المجتمع، قد أكون خطيبًا وأستاذًا وكاتبًا فقط؛ لكن أريد أكثر"، وهذه همَّة طيبة؛ ولكن - يا أخي - العلم لم ينتهِ، فبعلمك تستطيع أن تخدم دين الله، فاكتب وأنت تريد وجه الله والدَّار الآخرة، ونفع الأمَّة لا الرِّياء والشُّهرة، ولا مزاحمة الغير، فها هو الإمام مالك لما ألَّف موطَّأه، ألّف النَّاسُ الموطَّآت، فقالوا له: يا أبا عبدالله: كثُرَتِ الموطآت، فقال: ستعلمون ما أريد به وجه الله.

 

فهل تعرف أو تسمع عن موطَّأ غير موطأ الإمام مالك، فالأمور التي يقصد بها غَيْرُ وجه الله - عزَّ وجلَّ - غالبًا ما تكون وبالاً على صاحبها، فما كان لله دام واتَّصل.

 

فلا مانع أن تُؤَلِّف وتنفع إخوانك، ولو أخذتَ كتابًا منَ كتب السلف، وأخرجته للنُّور - تحتسب عند الله الأجر، ويكون لك مثل أَجْرِ مؤلّفه ووفاءً لِحَقِّهم علَيْنا - لكان أجْدَى من هذا الموجود في المكتبات، والذي لا نَحتاجه.

 

وختامًا:

والله لا أريد لك إلاَّ الفلاح، ولهذا ضَعْ نصب عينيكَ ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنَّ أوَّل النَّاس يُقْضَى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأتى يعرّفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتَلْتُ فيكَ حتَّى استُشْهِدتُ، قال: كَذَبْت، ولكنَّك قاتَلْتَ لأنْ يُقَال جريء، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فسُحِبَ على وجهه حتى أُلْقِي في النَّار. ورجلٌ تعلَّمَ العِلْم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نِعَمَه فعرفها، قال: فما عملت؟ قال: تعلمت العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القُرآن، قال: كَذَبْت ولكنَّك تعلَّمت ليُقال: عالم، وقرأتُ القُرآن ليُقال: قارئ! فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وَجْهِه حتَّى أُلْقِيَ في النَّار، ورجل وسَّع الله عليْه وأعْطاه من أصناف المال فأتى فعرَّفه نِعَمَه فعَرَفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: ما تَرَكْتُ من سُبُلٍ تُحِبّ أن ينفق فيها إلاَّ أنفقت فيها لك، قال: كَذَبْت، ولكنَّك فعلْتَ لِيُقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلْقِي في النار))؛ رواه مسلم.

 

فالله أسأل أن يَجعل عمَلَنا خالصًا لوجهه الكريم، إنَّه أكرم مسؤول وجُوده أعظم مأمول، أعاذني الله وإياك من الرِّياء وأهله.

  • 4
  • 0
  • 30,222

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً