ازدواجيتي، وانهزاميتي

منذ 2020-08-20
السؤال:

الكذب والازدواجية في الشخصية.

الفكر يطمح للمثالية، وتقديرِ الآخرين، والسرعةِ في نجدة الضعفاء والمنكسرين، وحبِّ رؤية السعادة على من أقدم لهم يد العون.


الالتزام بشعائر الإسلام والتمسك بالسنة في الظاهر، مع ضعفٍ وخللٍ وضمورٍ في الداخل.


إنني متزوِّج، ولكنني عندما أخلو مع النفس الشرِّيرة، وأفر كالتيس الفار من سكِّين الجزار، وأنغمس في معاكسةِ البنات على الماسنجر، أو رؤية ما يُغضِب الجبار القهار المنتقم، والتعرُّفِ على هذا العالم المظلم.


لا أبحث عن الزنا؛ فأنا باحث عن النظرية لا تطبيقها فعليًّا، وحقيقةً هذا هو الذي جنَّني.


إن عندي حبَّ الفضول، وهذا الذي قتلني ودمرني وسيقتلني، لا أندمِج مع من أحدثهم، بل أريد أن أتعرَّف عن غموض هذا العالم.


بالله عليكم دلُّوني: هل أنا مراهقٌ متأخرٌ؟  أو مريضٌ نفسيٌّ؟


أو مفتونٌ قد غضِب الله عليَّ وبلاني بذلك؟


أو أني تربَّيْت على مالٍ حرامٍ، مهما حرصتُ على طاعة الله فسأعصيه بسبب ما أُطْعِمْت؟

الإجابة:

للنفس البشرية ثلاث صور: نفس مطمئنة، ونفس أمارة بالسوء، ونفس لوَّامة، وأنت لديك نفسٌ لوامة متضخمة جدًّا ومتورِّمةٌ، تعمل عمل الجلاد في داخلك، فتجرِّمك، وتحقِّر ذاتك، وتولِّد لديك مشاعر الانهزامية والدونية هذه، كما تثير في عقلك وتفكيرك تلك الأفكار السلبية عن نفسك، على الرغم من أنك رجل حنون وكريم، يسرع في نجدة الضعفاء والمنكسرين، ويحب رؤية السعادة على من يقدم لهم يد العون، وبالرغم من أنك أيضًا رجل ملتزم بشعائر الإسلام ومتمسك بالسنن.


ترفَّق بنَفسِك، فأنت لست ملاكًا من نورٍ، ولست شيطانًا من نارٍ، بل أنت بشرٌ من طينٍ، فيك ما فيك من نورانية الملائكة، حين تجنَح إلى الفضيلة والخلق والعمل الصالح، وفيك ما فيك من نِيرانية الشياطين، حين تعصي الله وتَرتَكِب ما يُغضِبه، ومَن فينا لا يرتكب الخطايا والذنوب؟!


عن أبي أيُّوب؛ أنه قال حين حضرته الوفاة: "كنت كتَمْت عنكم شيئًا سَمِعْتُه مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَمِعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول«لولا أنكم تُذْنِبون، لخلق الله خلقًا يُذنبون، ويَغفِر لهم»؛ رواه مسلم.


لقد قرأتُ رسالتك مرات عديدة، وشعرت بأنني أقرأ لرجل شديد العاطفية والإحساس، فيلسوف، ومفكر، يمتلك إحساس الفنان، وموهبة الأديب، بأسلوب رمزي مستتر للتعبير عما يجيش في داخله من معانٍ وتجارب ومشاعر، ولكنك مشتَّت كثيرًا بسبب صراعاتك الداخلية ما بين نفسك الأمارة بالسوء، ونفسِك اللوامة؛ ولذلك امْنَح نفسك بعض الوقت، واسترخِ، وتأمل بهدوء؛ لتفهم بعض أسرار الله في نفسك قبل أن تراها في أي شيءٍ آخر.


لا أدري لمَ ذكَّرتني بقصة الطفل الذي أضاع ساعته، هل تعرفها؟

إنها قصة رمزية ذات مغزًى، ولنسمي هذا الطفل مجازًا بـ(طلال):

اشترى والد طلال لابنه طلال ساعةً ثمينةً رائعةَ الجمال بمناسبة نجاحه، وكانت من ذلك الطراز القديم الجميل الذي يوضع في الجيب، وليس على المعصم، ومن شدة فرح طلال بهذه الساعة أصبحت لا تفارق جيبه، ويأخذها معه إلى كل مكان حتى أثناء لعبه في الحقول، وذات يوم من أيام الشتاء المثلجة، ذهب طلال إلى الحقل المغطى بالثلج ليتزلَّج، و ما إن انتهى من اللعب قبيل الغروب حتى أسرع بالعودة إلى المنزل قبل أن يحل الظلام الدامس، وبعد عودته وأثناء ما كان يبدل ملابسه تَفَقَّدَ الساعة الثمينة في جيبه فلم يجدها، فتَّش في كل الجيوب، ولم يعثر لها على أثرٍ، فراح يبكي ويصيح مستنجدًا بوالدته، فهدَّأت الأم من روع ابنها، وطلبت منه أن يفتش عن الساعة في الحقل المثلِج صباح الغد؛ كي يتسنَّى له رؤية الساعة في وَضَحِ النهار، وما إن أشرقت الشمس على وجه طلال حتى ذهب مسرعًا إلى الحقل الجليدي؛ مفتشًا عن الساعة، ودموعه تسيل على خدَّيه، وهو يصيح ويبكي بأعلى صوته؛ أملاً في العثور على ضالَّته الثمينة.


غابت الشمس في الأفق واضطر طلال للعودة إلى البيت، وهو في حالة يرثى لها، فكفكفت الأم دموع ابنها، وطلبت منه ألا ييأس ويفتش عنها في اليوم التالي.


وبالفعل ذهب طلال باكيًا متشنِّجًا من الحزن على ضَياع هديته، لكنه عادَ مرَّة أخرى بِخُفَّيْ حُنَيْن.


وفي اليوم الثالث كرَّر طلال محاولته في البحث، لكنه كان أكثر هدوءًا من قبل، فتَّش بهدوءٍ وصبر، لكنه لم يعثر على شيءٍ، فشعر بقواه تخور على الأرض فاستلقى بظهره فوق الجليد وراح يقلب بصره في السماء.


كان الصمت مخيمًا بالمكان ويكاد طلال ألا يسمع شيئًا سوى صوت تنفُّسه، حتى تناهى إلى سَمعِه صوت جميل قادم من مكان قريب، وقف طلال في مكانه وأصغى السمع:

تِك، تِك، تِك، تِك!

أعرفتَ الصوت؟

إنها دقات الساعة.

قلَّب طلال الثلج في نفس المكان الذي سمع عنده الصوت، وإذا بالساعة تتلألأ أمام عينيه بين الثلوج.


هكذا يجب أن نكون نحن حين تُثْقِل كاهلَنا المشكلاتُ والصراعات الداخلية؛ إذ لن يحلها لنا البكاء والصراخ والتشنُّج، بل الهدوء النفسي والتأمل والتفكُّر والدعاء، وحتمًا سنجد الحلول ماثلةً أمام أعيننا وبين أيدينا، ونحن لا ندري.

أنت تقول: (لا أبحث عن الزنا، فأنا باحث عن النظرية لا تطبيقها فعليًّا).


ومن قال لك بأن الزنا هو فقط الممارسة الجنسية المحرمة؟

اقرأ هذا الحديث المعجز، وتأمل الفلسفة الإسلامية الرائعة لمثل هذه الأمور:

عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللَّمَم مما قال أبو هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -«إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا، أدرَك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللِّسان المنطِق، والنفس تتمنَّى وتشتهي، والفَرْج يصدق ذلك كله أو يكذبه»؛ رواه البخاري في باب: "زنا الجوارح دون الفرج".


من المعروف فسيولوجيًّا أن الرجل يستجيب جنسيًّا عبر مراحل متعددة تبدأ بمرحلة الرغبة (الشهوة)، وهي مرحلة نفسيَّة تشتمل على الخيال والرغبة، وهذا الخيال يحركه في النفس مثيرات حسية مختلفة، يختلف تأثيرها من رجل لآخر، إما بالنظر أو بالكلام أو بالسمع، وهذا ما وضَّحَه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي»، فمتى أثيرت هذه الحواس تحرك في الداخل شعورًا عارمًا باللذة والمتعة، وعندئذٍ يأتي تطبيق النظرية، أو كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه».


أنت رجل متزوِّج، ولكن: كيف هي علاقتك الحميمة بزوجتك؟ هل ترضيك جنسيًّا؟


ما الذي يدفع برجل متزوِّج إلى البحث عن أمورٍ كهذه مع نساء أخريات؟ هل بدافع الفضول فقط؟


أظن أن السبب الحقيقي يكمن في كونه رجلاً محبطًا جنسيًّا، ولا يشعر بذلك الارتواء الذي يجب أن تقوم عليه العلاقة الزوجية.


أنا لا أسمي ذلك مراهقةً متأخرةً أبدًا، ولكنه نوع من الإدمان، والإدمان على الشيءِ لا يتمُّ إلا لأن هذا الشيء المدمن عليه يحقِّق في النفس الشعور باللذة، بعض الناس يتلذذ بالتعذيب، والبعض يتلذذ بالقراءة، وهكذا.


لتتوقَّف لدقائق مع ذاتك، ولْتَسأل نفسك هذا السؤال:

ما الذي يحقق في داخلي الشعور باللذة الجنسية؟

هناك بعض الانحرافات الجنسية عند بعض الرجال والنساء؛ لتحقيق هذه اللذة بواسطة حاسة النظر وذلك بطريقتين:

أ. التطلع الجنسي (لذة المشاهدة) voyeurism؛ أو scopophilia، أي: من خلال مشاهدة الناس وهم يمارسون سلوكًا جنسيًّا، أو الاكتفاء بمشاهدة مفاتن النساء في الصور الخليعة.

ب. قراءة المطبوعات المثيرة جنسيًّا pormography: كالرسائل الجنسية أو القصص والروايات الرخيصة.


والبعض يصل إلى اللذة الجنسية بواسطة حاسَّة السمع عبر طريقتين أيضًا:

أ. عمل اتصالات تليفونية فاحشة.

ب. سماع الأغاني الماجنة التي تعتمد على التأوُّه بطريقة مثيرة.


عليك أن تَتَتَبَّع أغوار نفسِك، وتجعل دافع الفضول ينصَب عليك بدلاً من الآخرين، ومتى ما اكتشفتَ السر الذي يدعوك إلى التحدث مع النساء أو تصفُّح مواقع يفترض أن تكون محجوبة، فسيَسهل عليك معالجة هذا النوع من الإدمان.


إن كنت من النوع البصري الذي تثيره الصور والمشاهد، فاطلب من زوجتك أن تشبع لديك هذه الرغبة، ومعروفة لدى كثير ممن خالط المدنية التي يعيشها الناس الآن.


أما إن كنت سمعيًّا وتثيرُك الأصوات المبهمة، فبإمكانك ترك البيت والاتصال بزوجتك وأنت بمكان هادئ كالبحر مثلاً، وهكذا.


والله - عز وجل - يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].


وبذلك تشبع رغباتك من دون أن تأثم، بل وأُبَشِّرك بأنك ستؤجر على ذلك.


عن أبي ذر: أن ناسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون بفضول أموالهم، قال: «أوَليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرًا»؛ رواه مسلم.


بالطبع لابد من تعاون زوجتك في هذا الموضوع، اجلس معها، وتحدث إليها كصديقة، وشاركها أفكارك ورغباتك، لا بد من الحوار معًا في هذه المواضيع للوصول إلى الاكتفاء والإشباع دون إثمٍ، وإن لم تستطع أن تتحدث إليها وجهًا لوجهٍ، فاكتب لها رسالة عاطفية بأسلوبك الجميل هذا لتفصح لها فيها عن مكنونات نفسك، وما تحب وتشتهي، وإن لم تتفهَّم زوجتك هذه الأمور فالأفضل أن تتزوج بأخرى بدلاً من الوقوع في الحرام مع أخريات، فالله - عز وجل - أباح لك مثنى وثلاث ورباع؛ حتى يتحقق لك الشعور بالاكتفاء، وهذه واحدةٌ من حِكَم التعدد في الإسلام.


لا شك أن هذا ابتلاء، ولا بد من الصبر على ذلك، فأنت رجل متزوِّج ويجب أن تخاف الله - عز وجل - ومتى ما شعرت بأنك متجه نحو هذا الطريق المظلم، أشعل في نفسك شمعتين:

الأولى: الخوف من مقام الله.

والأخرى: نهي النفس عن الهوى.

وستكون نهاية الطريق: الجنة؛ قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].


اجعل قصة النبيِّ يوسف - عليه السلام - كالجرس يدُق كلما زَيَّن الشيطان لك ذلك؛ {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].

{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33].


تجنَّبْ خلوات النفس مادامت تثير فيك تلك النزعات المنحرفة، وبدلاً من اللجوء إلى فتيات الماسنجر، فرِّغ طاقاتك المتوترة في شيءٍ نبيل وهادف كالرسم المباح شرعًا مثلاً أو الكتابة الأدبية أو القراءة المفيدة.


العلاج النفسي بالفن Art Psychotherapy يعد واحدًا من طرق العلاج الحديثة، التي تعمل على إعادة التوازن الداخلي للفرد من خلال طرح المكبوتات النفسية المؤلمة باللون والتشكيل بالرسم واستبدالها بمشاعر نفسية أفضل، وهذا العلاج لن تحتاج فيه إلى زيارة طبيب نفسي، بل ستحتاج إلى كراسة للرسم وفرشاة وألوان.


كذلك يساعد العلاج بالقراءة Bibliotherapy بطريقةٍ غير مباشرة في تحقيق التوافق النفسي للشخص وشغل وقت فراغه بما يفيد، قد يحظى أسلوب الرافعي الفلسفي بإعجابك؛ لذا اقرأ له أجمل ما كتب (وحي القلم) بأجزائه الثلاثة، كذلك كتابيه الرائعين: (أوراق الورد)، و(السحاب الأحمر).


أما فيما يتعلق بقولك: (أو أني تربيت على مال حرام مهما حرصت على طاعة الله فسأعصيه بسبب ما طعمت)، فأنت مخطئ ولا شك؛ لأن الله - عز وجل - يقول: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].


ولكن لابد على أية حال من تطهيرِ أموالنا وأرواحنا دائمًا، تَصَدَّقْ من خير مالك، وانوِ عند التصدق أن يرفع عنك الله هذا الابتلاء، ويحصنك من كيد الشيطان، ويحفظ لك بيتك وزوجتك في صحة وعافية وسلامة وإسلام، وادعُ لوالديك بالمغفرة ودخول الجنان.


حفظك الله، وأعانك على تجاوز ذلك وغفر لنا ولك ولجميع المسلمين.

  • 7
  • 0
  • 1,387

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً