فتاة عشقت داعية
فتاة تطلب العلم على يد داعية، ونظرًا لنشأتها في بيئة صعبة لا تعترف بقيمتها، فقد أحسَّت بتعلُّق بتلك الداعية؛ لأنها تَمدحها وتُثني على جمالها، وقد أرَّقها ذلك التعلق، فأخبرت الداعية به، فما كان منها إلا أن ردت عليها ردًّا باردًا، ولم تناقشها في شيء، وتسأل: ما النصيحة في مثل هذا التعلق؟
- التصنيفات: استشارات تربوية وأسرية - استشارات نفسية -
تعرَّفت على داعية منذ ثلاث سنوات تقريبًا، ولازمتها كثيرًا، وكنت لا أتخلف عن درسٍ لها إلا لظرف قهري، كنت أسالها يوميًّا عن كل ما يخطر في بالي، كنت أُسَرُّ إذا ما أخبرتني أنني جميلة، فلم أكن صراحة أرى أن غيرها يراني جميلة، وربما السبب في ذلك أني نشأت في بيئة صعبة غير متدينة، كنت أشعر أنه لا أحدَ يحبني أو يهتم برأيي، فرأيي في بيتي لا قيمة له، دائمًا كنت أقول: هل سيأتي مَن يحبني يومًا ما؟ فلما كانت تقول لي أني جميلة، كنت أشعر بأنها صادقة.
مؤخرًا عرفت جانبًا أثَّر فيَّ كثيرًا، وهنا بدأت المشكلة، فقد كنت أراها دائمًا ناقلةً لِما تعلمته على يد شيوخها، ولم أكن أظن أنها ستكتب يومًا شيئًا بيدها من بنات أفكارها، لكن صدمني هذا الأمر، وجدتها كتبت تدبرًا في أمر ما، لا أدري لماذا عندها اشتعلت شرارةٌ في قلبي، لا أخفيكم سرًّا أني شككتُ في أمر التعلق بسبب هذا الشعور، فقد جربت ذاك الشعور مرات، يبدأ بشرارة في القلب، ثم كلما ذُكر هذا المحبوب، اشتعلت نيران في القلب، ولا تكاد لحظة تخلو من التفكير فيه، فكانت هذه كلها إشارات غير مُطَمْئِنة، فقلت في دخيلة نفسي: لا بد لي من التحقق من هذا الشعور، وإن أردتُ التخلص منه، فعليَّ أن أبتعد وأدعوَ الله عز وجل حتى يزولَ، ولا أسألها كما كنت أفعل يوميًّا، وقد فعلت ذلك، لكن سَرعان ما رجعت وسألتها سؤالًا في أمر ما، حتى أحسست بشعور في قلبي لم يُعجبني، وهي تلك النيران وتلك الحرارة التي لطالَما جرَّبتها في أمر التعلق، فبدأتُ بالدعاء والاهتمام بصلاتي، ولكني عدت لسيرتي الأولى من التقصير والتفكير فيها كثيرًا، فقلت في نفسي: سأختصر الأمر وأخبرها، فهي داعية، وإن أخبرتها فسوف تأخذ حذرها مني، ولن تَمدحني أو تتكلم معي كلامًا لينًا، وستنتبه لردود أفعالي، فأخبرتها بأنني أشعر أن هناك تعلقًا، وقد تطلَّب الأمر وقتًا لأتأكَّد، وطلبتُ منها ألَّا تردَّ على رسائلي، حتى أدعوَ وأجتهدَ ويزول ما في قلبي، فوافقتُ، ومرت الأيام وقلت لها: إنني قلِقَةٌ من ألَّا أتمكن من علاج التعلق قبل عودة دروسها مرة أخرى، فأجابتني بقولها: هل أنتِ تحضرين لطلب العلم أو لرؤيتي؟ قلت لها: لطلب العلم، لكن أَوَدُّ الفصل بينهما، فشعرت أنها لم تُصدقني عندما أخبرتها بأن هناك تعلقًا، وقالت لي: طبيعيٌّ أن يَميل القلب، وإن شاء الله يميل لزوج المستقبل، لا أخفيكم سرًّا، فهذا ما فكرت فيه أنه إذا تقدم لي شخص، فسأسعد بذلك كثيرًا، وغالبًا سأنسى هذا التعلق، وقالت لي أيضًا: طلب العلم لذيذ، اطلبيه، يذهب الذي في نفسكِ، فما الحل؟
معطيات المشكلة حسب ما ورد في النص المرسل:
١- التربية في بيئة صعبة غير متدينة.
٢- ظروف تربية في المنزل خَلَتْ من العطف والحنان، والقيمة الإنسانية؛ ما سبَّب فراغًا عاطفيًّا كبيرًا.
٣- توفيق الله تعالى للفتاة في التعرف على داعية، وطلب العلم على يديها، وحضور وملازمة دروسها بانتظام.
٤- ثناء الداعية على تلك الفتاة ومدحها بجمالها؛ ما جعلها تشعر بقيمتها، وأنها الوحيدة التي تحبها وتراها جميلة.
٥- فِقدان عاطفي لدى الفتاة أُشبِعَ بأسلوب الداعية في التعامل معها.
٦- شعور الفتاة بأن قلبها تعلَّق بالداعية بالإعجاب والحرص على سماع مديحها وثنائها.
٧- مدافعة الفتاة لهذا الشعور بالبعد عن كثرة السؤال كالمعتاد عند اللقاء بها.
٨- الحصانة العلمية التي اكتسبتها الفتاة جعلتْها تدافع هذا المرض بالإخلاص والصلاة، والحذر من الانخراط في طريقه الشائك.
٩- مصارحة تلك الداعية بشعور التعلق الشخصي والإعجاب.
١٠- لم تتفاعل الداعية مع القضية، ولم تناقشها بأسلوب مقنع للفتاة، واكتفت بالنصيحة، وأن القلب يتعلق بزوج المستقبل بإذن الله، وكان الرد بسؤال ربما دلَّ على الاستغراب: حضوركِ للدرس أم لرؤية ملقي الدرس؟
هذه أبرز معطيات المشكلة، وتسأل السائلة: ما رأيكم في التعامل الأمثل مع هذا الشعور؟ وكيف أتخلَّص منه؟
ولعلنا نطرح بعض المقترحات والتوصيات على ضوء تلك المعطيات، والعلاج الأول والأخير بيد صاحبة المشكلة؛ فهي التي تتعامل مع قضيتها، وما المستشار إلا مساعدٌ لفتح آفاقٍ جديدة حول الحلول المناسبة، يستفيد منها المعنيُّ لعلاج مشكلته.
وهذه بعضٌ من التوجيهات والتوصيات:
١- على الأخت السائلة أن تحمد الله تعالى أولًا أن وفَّقها لهدايته، واتباع سبيله في طلب العلم والتفقه في الدين، ولا تغيب عنها البشرى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله به طريقًا إلى الجنة»؛ [رواه مسلم]، ومن حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يُرِدِ الله به خيرًا، يفقهه في الدين»؛ [رواه البخاري].
٢- يبدو - والعلم عند الله - أن إعجاب الفتاة بشيختها إعجاب احترام وتقدير لِما تتحلى به من خُلُقٍ، وتقدير لها في مدحها والثناء عليها، ولا يتعدى الأمر أكثر من ذلك، وإنما هو ارتياح فقط، فهذا أمر لا محظورَ فيه ولا تُمنع الفتاة منه، والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وكثير من العلاقات بين الناس مبناها على الاحترام والإعجاب، والتوافق في الظاهر والباطن.
٣- أمَّا إن كان تعلق القلب بالمعنية تصحبه مشاعرُ من الحب والعشق المؤدي إلى أمنية فعل الحرام، والهُيام والحزن، والبكاء والولاء، فهذه المشاعر قد تؤول بصاحبها إلى أمورٍ لا تُحمَد عقباها، وهو من عمل الشيطان، وسلوك ناشئ عن ضعف الإيمان، ومن الحرمان العاطفي، فلا يحلُّ لها إبداء هذه المشاعر إلا مع زوجها الذي ارتبطت به وَفق شرع الله.
٤- بيَّنتِ الأخت أنها لازمت الداعية وحضور دروسها منذ ٣ سنوات، وهذه كفيلة بأن حظيَتْ بقسط لا بأس به من العلم والفقه، والحلال والحرام، فهي أدرى بمشاعرها تجاه هذه المعجبة بها، وما هو تعلقها به: هل هو مجرد احترام وتقدير طبيعي بين الناس، أو وصل الحد إلى أكثر من ذلك في دائرة المحذور؟ فلتنتبه لذلك، ولتحذر الانزلاق.
٥- وضحت السائلة في رسالتها أن بيتها غير متدين، ونشأت في بيئة صعبة التعامل، فما أدري ماذا تعني بغير متدين: أهي الذنوب والمعاصي - ومَن يسلم مِن ذلك إلا مَن حفظه الله ووفقه ورعاه - أم أكبر من ذلك بالإشراك بالله وترك الصلاة؟ على العموم أنتِ مسؤولة بداية عن دعوة أهل بيتكِ، ما دام الله عز وجل وفَّقكِ، وعرَفتِ الحق، وتفقَّهتِ في دين الله؛ قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن رأى منكم منكرًا، فليغيِّرْهُ بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، فعليكِ أن تسعي في صلاح أهل بيتكِ والصبر على أذاهم، واحتساب الأجر في ذلك، ولا تأسي ولا تقنطي، بل أكثِري من الدعاء في صلاحهم، فنوح عليه السلام دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ومع ذلك ما آمَن معه إلا القليل.
٦- جميل من العبد إذا رأى من نفسه الأمَّارة بالسوء أيَّ انخراط في أيِّ وسيلة قد تؤدي به إلى المهلكة، وخشيَ على نفسه الزيغ والهلاك - أن يدافعها ويشد خِطامها، ويأطرها على الحق أطرًا؛ قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53].
٧- على المربي، والأب والأم، والداعية والشيخ، إذا وثق به تلميذه أو ولده، وفتح له قلبه وشكا له همومه ومشاعره - فعليه أن يأخذَ ذلك بالجِدِّ، وأن يسمع شكواه، وألَّا يستعظمَ أمرًا همَّ به أو فعله، ويغلق الحوار بالتجاهل أو بالصدِّ: (كيف فعلت؟ ولماذا فعلت؟ ولا يليق بك هذا الفعل)، بل لا بد من فتح القلب له، ومحاورته حوارًا أبويًّا، حوارَ رحمةٍ وشفقة وعطف وتفهُّمٍ، نعم، ولنا في رسولنا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فمن حديث أبي أمامة قال: ((إن فتًى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: «مَهْ مَهْ»، فقال: «ادْنُهْ»، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمِّكَ»؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتحبه لابنتك»؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: «أفتحبه لأختك»؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمَّتِكَ»؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك»؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فَرْجَهُ»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء))؛ [قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه أحمد بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح].
ها هو صلى الله عليه وسلم يمد يده الشريفة يمسح على صدر الفتى المستعر بالشهوة، ويخاطب عقله بتربيتٍ رحيم، مراعيًا تلك العواطف ومستشعرًا تلك المشاعر؛ ليكتمل خطاب المنطق مع ملامسة الفطرة، ويهدأ قلب الغلام، وترتاح نفسه، ويذهب ما يجد من وساوس الشيطان.
٨- الواجب على مَن ابتُلي بالعشق الذي مآله إلى الحرام، أن يتقيَ الله عز وجل، وأن يراقب الله في أقواله وأفعاله، وأن يسأله العفو والعافية من هذا الداء، وأن يجتهد في طاعة ربه، وأن يحرص على صحبة الأخيار الذين يعينونه على الخير، ويحذرونه من الشر، وأن يسعى الفتى في عفة نفسه بالزواج، أو يصبر على عبادة الصوم، فإنه له وجاء؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابًا لا نجد شيئًا، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشرَ الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء»؛ [متفق عليه].
وعلى الفتاة أن تسارع في قبول مَن جاءها خاطبًا ممن يُرضَى دينه وخلقه، ولا تضع الأمور المادية عائقًا أمام تحصينها وسعادتها بالزوج الصالح؛ فهو الغنيمة في الدنيا بتوفيق الله تعالى.
٩- وصيتي لهذه السائلة بأن تصبر وتصابر على طلب العلم، وأن تكثر من قراءة القرآن، وذكر الله تعالى، وأن تعمل بما تعلمته من علم، وإذا أُتيحت لها الفرصة أن تُعلِّمَ غيرها، وإن هيَّأ الله لها زميلة صالحة تتدارس معها هذا العلم بالحفظ والمراجعة، فهذا فضل وخير من الله؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [آل عمران: 200].
١٠- وأخيرًا: احرصي على تجديد إيمانكِ، وتوبتكِ، وتوحيد ربكِ، وإقامة فرضكِ، وعلى كثرة الدعاء والتضرع لله تعالى بأن يصرف قلبكِ عن كل سوء ومكروه، وأن يثبته على الحق والطاعة، وأن ينيره بالتقوى والصلاح، واليقين والثبات.
أسأل الله العلي القدير أن يصلحَ قلبها، وأن يثبتها على الحق، وأن يزيل عنها كلَّ سوء ومكروه؛ إنه جواد كريم.
والحمد لله، وصلى الله على نبينا محمد