علاج الرياء والعجب في العبادات
سائلة تعاني وسواسًا قهريًّا في العبادات، ولا سيما في الرياء والعُجب، فهي لا تستطيع أن تؤديَ العبادات المفروضة بأريحية، وتسأل عن كيفية التخلص من الرياء والعُجب.
عانيتُ الوسواس القهري في العبادات بجميع أشكاله وألوانه، والآن أنا مصابة بوسواس فيما يتعلق بالرياء والعُجب وسوء الظن، فلا أستطيع الصلاةَ أمام أحدٍ، وبمجرد سماعي صوت أحدٍ يقترب من غرفتي، فإنني أرْتَبِكُ وأقوم بأشياءَ غريبة كإعادة قراءة الفاتحة في الصلاة السرية، وكإطالة السجود، وإذا ما كنت غافلة في صلاتي، فإنه ينبِّهني، فألتزم الخشوع، وأدعو في السجود، ولا أدري أهذا صحيح لكوني قد انتبهت في صلاتي، أو خطأ لكونه رياءً؟ وأيضًا في العجب، لا أدري: متى أفرح بعملي، ومتى لا أفرح به؟ أرشدوني وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ثانيًا: نحمَد لكِ حرصكِ على معرفة الحق، ومجاهدة نفسكِ والشيطان في وساوسهما، فبها يعالج المرء الرياء والعُجْبَ، فلا بد من المجاهدة ودفع الخواطر والشواغل، وعدم الالتفات لوساوس الشيطان، وطردها بذكر الله وكثرة الاستغفار، والخوف من عدم القبول، فخيرُ خِتامٍ للصالحات الوَجَلُ والاستغفار، فالوجلُ - وهو الخوف من عدم القبول - يُورِث الانكسار وعدم الاستكبار، والاستغفار يجبُرُ النقص والتقصير الذي يعتري الأعمال، وهذا حال المؤمن يُخلص العمل ويخاف من عدم القبول؛ فيدلُّه العمل الصالح على غيره من الصالحات، فبعد صلاته، يستغفر الله، وبعد حَجِّهِ يذكر الله، وبعد صدقته يدعو الله بالقبول، فالطاعة تدل على أختها، وعلامة قبول الطاعةِ الطاعةُ بعدها، فالعبدُ الصادق في عبوديته يجتهد في طاعة ربه تعالى، ويستفرغ وُسْعَهُ في ذلك، ثم يرى أنه مُقصِّرٌ مفرِّط، وأنه مفتقرٌ إلى عفو ربه كي يتداركه برحمته، وقد كان هذا حال السلف؛ يجتهدون في الطاعات، ويشهدون التقصير، ولا يأمنون مكر الله، ولذلك فازوا وأفلحوا، وقد سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، ((أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر ويخاف الله؟ فقال لها: «لا يا ابنة الصديق، بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخشى ألَّا يتقبل الله منه» [الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وأحمد (25705)، وصححه الألباني].
وإذا زلَّ وعصى، يتوب ويستغفر من الذنوب والزَّلَّات؛ قال ابن القيِّم: "وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تَخْدَعَهُ ذنوبه عند الموت، فتَحُولُ بينه وبين الخاتمة الحُسْنى"؛ [الجواب الكافي: (ص: ١٦٧)].
قال أبو حامد الغزالي في الإحياء عن علاج الرياء والمجاهدة: "فلا ينفك أحد عن الحاجة إلى هذه المجاهدة، ولكنها تشق أولًا وتخفُّ آخرًا، وفي علاجه مقامان؛ أحدهما: قلعُ عُرُوقِهِ وأصوله التي منها انشعابُهُ، والثاني: دَفْعُ ما يخطر منه في الحال ..."؛ [إحياء علوم الدين: (1/ 378)].
ثالثًا: الرياء هو نظر المرء للناس وتحسينه العمل من أجلهم، والعُجْبُ نظر المرء لنفسه، فيرى أنه بذل وقدَّم وأجاد؛ فتتعاظم نفسه، فالرياء للخَلْقِ، والعُجب للنفس، وعلاجهما بالإخلاص والخوف من سوء العاقبة، وأن الفضلَ والمِنَّة من الله، ومجاهدة النفس، والعلم الشرعي، وكثرة الاستغفار، والاستعاذة بالله منه، فقولي: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لِما لا نعلمه، وقولي: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لِما لا أعلم.
ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري قال: ((خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: « يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل» ، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتَّقِيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لِما لا نعلمه» [رواه أحمد: (19250)، وحسَّنه الألباني].
وروى البخاري في الأدب المفرد (716) عن معقل بن يسار قال: ((انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا بكر؛ لَلشِّرْكُ فيكم أخفى من دبيب النمل»، فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا مَن جعل مع الله إلهًا آخر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، أَلَا أدلُّك على شيء إذا قلته، ذهب عنك قليله وكثيره» ؟ قال: قل: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لِما لا أعلم» [صححه الألباني].
ولعلاج العُجب استحضار المرء دائمًا أن الفضل كله لله، فهو الذي وفَّقه للعمل الصالح، وأن القبول بيد الله، فهو الذي يقبل التَّوْبَ ويغفر الذنب، والتوفيق أن يتعلق قلب المؤمن بحول الله وقوته، وأن يتبرأ من حَوْلِ نفسه وقوتها، وهذا معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ قال ابن القيم: "فإن العارفين كلهم مُجمِعون على أن التوفيق ألَّا يَكِلَكَ الله تعالى إلى نفسك، والخِذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك، فمن أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه، ورحمته وجُوده، وبِرِّه وغِناه وحمده، فالعارف سائرٌ إلى الله تعالى بين هذين الجَناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنَّة، ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أَبُوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»؛ فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي)) مشاهدةَ المنة، ومطالعة عَيبِ النفس والعمل.
فمشاهدة المنة تُوجِب له المحبة والحمد والشكر لوليِّ النِّعَمِ والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار والتوبة في كل وقت، وألَّا يرى نفسه إلا مفلسًا، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالًا ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به، ولا وسيلة منه يمُنُّ بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرْفِ والإفلاس المَحْضِ، دخولَ مَن كَسَرَ الفقر والمَسْكَنَةُ قلبَهُ، حتى وصلت تلك الكسرة إلى سُوَيْدَائه فانصدع، وَشَمِلَتْهُ الكسرة من كل جِهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فَاقَتِهِ وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقةً تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلَّى عنه طرفة عين، هَلَكَ وخسِرَ خسارةً لا تُجبَر، إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.
ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظُ من الدعوى، والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حبٌّ كامل، وذلٌّ تامٌّ، ومنشأ هذين الأصلين عن ذَينِكَ الأصلين المتقدمين، وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين، لم يظفر عدوه به إلا على غِرَّةٍ وغِيلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل، ويجبره ويتداركه برحمته"؛ [الوابل الصيب: (ص: 1 - 6)].
- التصنيف:
- المصدر: