علاج التكبر بسبب العلم
فتاة تعلمت العلم، لكنه أورَثها الكبر والعُجب بنفسها، وأصبحت لا تريد مجالسة أو مناصحة الناس، وتسأل: ما الحل؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لطالما دعوتُ الله عز وجل أن يرزُقني علم الدين والدنيا، وقد أكرَمني ربي بكثيرٍ من العلم ولله الحمد والمنة، لكن الكبر وجَد طريقه إلى قلبي، فأصبحتُ أحتقِر أهلي وأصدقائي لقلة علمهم، وأصبحت أُبغض مجالستهم ومناصحتهم؛ لِما أرى فيهم من جهلٍ، وقد دخل الكبر قلبي منذ فترة ليست بالبعيدة، ولا أدري ماذا أصنع لأتجنَّب ذلك الشعور، وأقلِّل من حِدَّته، أرشدوني وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكِ أيتها الأخت الفاضلة، ونسأل الله لنا ولكِ الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: الحمد لله أنْ بصَّرَكِ بهذا الداء الخطير الذي يهدم البنيان، فيذَرُهُ قاعًا صَفْصَفًا، ويقدَح في الإخلاص، ويُبطل العمل، ووُفِّق من عَلِم عيوبَ نفسه فزكَّاها.
ثالثًا: ما مِنْ داءٍ إلا وله دواء، لكنَّ كِبْرَكِ سبقه العُجْبُ بالنفس، فما تكبَّر إلا معجبٌ، فأدَّاه العُجب إلى احتقار من حوله والتكبر عليهم.
ودواء الكِبْر؛ كما قال الغزالي: "اعلم أن الكبر من المهلكات، ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته فرض عين، ولا يزول بمجرد التمني، بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له، وفي معالجته مقامان؛
أحدهما: استئصال أصله من سِنْخِهِ، وقلع شجرته من مغرسها في القلب.
الثاني: دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره.
المقام الأول في استئصال أصله وعلاجه علميٌّ وعملي، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما؛ أما العلمي، فهو أن يعرف نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر؛ فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علِم أنه أذلُّ من كل ذليل، وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذِّلَّةِ والمهانة، وإذا عرف ربه، علِم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله ... وما من عبدٍ مُذنبٍ، إلا والدنيا سِجنُهُ، وقد استحق العقوبة من الله تعالى، ولا يدري كيف يكون آخر أمره، فيكفيه ذلك حزنًا وخوفًا وإشفاقًا ومهانة وذُلًّا؛ فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكِبر.
وأما العلاج العملي، فهو التواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين كما وصفناه وحكيناه من أحوال الصالحين، ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ..."؛ [إحياء علوم الدين: (5/ 161 - 165)، بتصرف واختصار].
لذا واجبٌ عليكِ أيتها الأخت الفاضلة أن تنشغلي بمعرفة عاقبة المتكبرين؛ ففي الحديث عن عمرو بن العاص مرفوعًا: «يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّرِّ في صور الرجال، يغشاهم الذلُّ من كل مكان، فيُساقون إلى سجن في جهنم، يسمى: بُولَسَ، تعلوهم نار الأنْيَارِ، يُسقَون من عصارة أهل النار طِينةَ الخَبال» [الترمذي: (2492)، وقال: هذا حديث صحيح، وحسنه الألباني].
وعليكِ بمعرفة ثواب المتواضعين، وأن من صفات المؤمنين الرحمة واللين لأهل الإيمان.
وعليكِ بمطالعة سِيَرِ السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن سار على نهجهم، واتَّبع آثارهم؛ ففيهم الأُسوة والاقتداء، وكيف كان الواحد منهم لا يتكبر ويتواضع بعلمه.
وعليكِ بمعرفة أن التكبر صفة قبيحة، يتصف بها إبليس وجنوده من أهل الدنيا، ممن طمس الله تعالى على قلوبهم.
وعُجْبُ المرء بنفسه، وشعوره بالعلو عمن حوله، آفةٌ من آفات القلوب المريضة، ومنها يتولَّد الكِبر، فكيف يُعجب بنفسه من هو مخرجه والبول سواء، ونهايته بجوار الجِيَفِ في التراب؟!
ومن أخلاق أهل العلم التواضع وترك العُجب، ودواء العُجب احتقارُ النفس ومعرفة قدرها، والعمل بالعلم؛ فالعلم يورث التواضع، وبمصاحبة أهل العلم والفضل؛ قال الماوردي: "فأما ما يجب أن يكون عليه العلماء من الأخلاق التي بهم ألْيَقُ، ولهم ألْزَمُ، فالتواضع ومجانبة العجب؛ لأن التواضع عَطوفٌ والعُجب منفِّر.
وهو بكل أحد قبيح، وبالعلماء أقبح؛ لأن الناس بهم يقتدون، وكثيرًا ما يُداخلهم الإعجاب لتوحُّدهم بفضيلة العلم.
ولو أنهم نظروا حق النظر، وعمِلوا بموجب العلم، لكان التواضع بهم أولَى، ومجانبة العجب بهم أحرى؛ لأن العجب نقصٌ ينافي الفضل"؛ [أدب الدنيا والدين، (ص: 81)].
وقد قيل: "من تكبر بعلمه وترفَّع، وضعه الله به، ومن تواضع بعلمه، رفعه به".
وانظري إلى من فوقكِ في العلم؛ وصدق ابن العميد:
من شاء عيشًا هنيئًا يستفيد به *** في دينه ثم في دنياه إقبالا
فَلْـيَنْظُـرَنَّ إلـى مـن فوقـه أدبًـا *** ولينظرن إلى مَن دونه مالا
وأخيرًا: أنصحكِ بالاستزادة من العلم؛ لأن العُجب من أسبابه قلةُ العلم، وعدم الاستزادة منه؛ قال الماوردي: "وقلما تجد بالعلم معجبًا وبما أدرك مفتخرًا، إلا مَن كان فيه مُقلًّا ومقصرًا؛ لأنه قد يجهل قدره، ويحسب أنه نال بالدخول فيه أكثره.
فأما من كان فيه متوجهًا، ومنه مستكثرًا، فهو يعلم من بُعد غايته، والعجز عن إدراك نهايته، ما يصدُّهُ عن العجب به"؛ [أدب الدنيا والدين، (ص: 82)].
وحسْبُكِ هذا الوعيد؛ عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقالُ ذرة من كِبْرٍ» [مسلم: (147)].
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
- التصنيف:
- المصدر: