كبرت سني وتأخر الزواج
- التصنيفات: فقه الزواج والطلاق -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ازدادتْ حالتي سُوءًا بعد فَسْخِ خطبتي، فقد تجاوزتُ الأربعين، ولم أتزوَّج بعدُ، الأمرُ الذي أثَّر عليَّ كثيرًا، وإن كنتُ لا أُظْهِره للناس، وقد تقدَّم لي شابٌّ في سنِّي تقريبًا، فوافقتُ عليه بعد إلحاحٍ مِن صديقاتي، رغم أنه يُدَخِّن، ومُستواه العلمي والمادي أقل بكثيرٍ مني، ولكن ما كان يشغل بالي هو أنه مُدخِّن، وقد طلبتُ منه أن يَعِدَني بالإقلاع عنه، لكنه أخبرني أنه لا يستطيع أن يَعِدَني؛ لأنه ليس مُتأكدًا مِن قدرته على الوفاء بوعدِه.
وبعد الخِطْبَة اكتشفتُ أنه يَكذِب، كما أنه يَنطِق ببعض الكلمات الغير مُؤدَّبة، والتي أجد صعوبةً في تقبُّلِها، فأنا أرتجف ويحمرُّ وجهي خجلًا عند سماعي لبعض الكلمات النابية مِن شخص غريبٍ، فكيف إن كان الأمر مِن خاطبي؟!
بعد تفكيرٍ قرَّرتُ ترْكَ هذا الخاطب، وقلتُ لنفسي: الأرزاقُ بيد الله، ولو كان مقدَّرًا لي أن أتزوجَ فسيرزقني الله بزوجٍ صالحٍ.
ولكن لا أخفيكم فأنا حزينة جدًّا، ومما زاد مِن حُزني هو كلام العائلة وصديقاتي؛ فكلُّهم يُلْقُون باللائمة عليَّ، ويقولون: إنني في سنٍّ حرجة لا تحتمل الاختيار، وعليَّ القبول بأيِّ زوج، وربما يتغيَّر بعد الزواج ويُقْلِع عن التدخين.
باللهِ عليكم أفيدوني، هل أنا مُخطئة في تصرُّفي هذا؟ وهل ما زال هناك أملٌ في الزواج، علمًا بأنني لستُ على مُستوًى عالٍ مِن الجمال؟!
"لَا تَـأْتِيَنَّ نَـذَالَـةً لِـمنَــالَــةٍ *** فَـلَـيَـأْتِـيَـنَّـكَ رِزْقُـكَ المَـقْدُورُ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ آخِذٌ كلَّ الَّـذِي *** لَكَ فِي الْكِتَابِ مُحَبَّرٌ مَسْطُورُ
وَاللهِ مَا زَادَ امْرَأً فِي رِزْقِهُ *** حِـرْصٌ وَلَا أَزْرَى بِهِ التَّقْصِيـرُ
قاله الغلابي كما في (رَوْضة العقلاء ونُزهة الفضلاء).
"قال أبو حيان: كان يختلف إلى مجلس أبي سعيدٍ عليُّ بنُ المستنير، وكان أبو سعيدٍ يَعرِف له تقدُّمَه على كثيرٍ من أصحابه، وكان يرجع إلى وطأة خُلُق، وحُسن عشرة، وحلاوة كلام، وفقر مُدْقع، وضر ظاهر، وحالة سيئة، وأمر مختل، ومعيشة ضيقة، وكثرة عيال، ومؤونة مع نشاط القلب، وثبات النفس، وطلاقة الوجه، وكثرة المرح والارتياح.
وقرأ يومًا على أبي سعيدٍ ديوان المرقش، وعجَّل الانصراف مِن عنده، فقال له أبو سعيد: أين عزمتَ؟ قال: أذهب لأُصلِح أمر العيال، فدعا له بالرزق والسعة والمعونة والكفاية، وهو مع ذلك ضاحكُ السنِّ، قريرُ العين، فلما انصرف قلنا له: هذا الرجل مع ما فيه، لا يعرف الحزن في وجهه، ولا يشتد همه، ويقدر على دفعه، فالتفتَ بعضهم فقال: أيها الشيخ، وراءه حالٌ يخفيها عنا، ويطويها منا؟ قال: ما أظن الأمر على ذلك، لكن الرجل عاقل، والعاقلُ يعلو على همِّه وحزنه، فيقهرهما بعقلِه وعلمِه، والجاهل يشتد همه وحزنه، ويرى ذلك في وجهه، ولا يقدر على دفعه لجهلِه، فاستحْسَنا ذلك وأثبتناه"؛ (معجم الأدباء).
فلا عليكِ مِن كلام الناس، ولا تُنصِتي لمشورتهم، ولا يَحزُنكِ قولُهم، ولا تَيْئَسي على أمرٍ تركتِه لله؛ فقد تكفَّل برزقكِ وكافَّة البشر ربي وربُّك وربُّ البشر، واعلمي أن رزقكِ إن لم تبغيه بغاك؛ كما يقول أبو العتاهية.
الحاجةُ إلى الزواج حاجةٌ فطرية، والرغبةُ فيه جِبِلِّيَّة، ومَن تُصِرُّ على تشدُّدها في صفات الخاطب، أو تسعى للكمال؛ فهي مخدوعةٌ بعيدة عن الصواب، أو أنها تغالط نفسها وتُرضِي غرورها، وأما مَن تطلب الدين وترجو الخُلُق الحميد، فحالُها لا يقبل التنازل، ولا يحتمل التفاوض؛ إذ يقبل التنازُل في أيِّ مجال إلا مجال الدين والخُلُق، ولا يُقبل مِن مثلك أن تتنازَل فيهما حتى لو تجاوزت الأربعين.
قد يكون مِن حِرْص الأهل عليكِ ورغبتهم في سعادتكِ ما يدفعهم لمثْلِ هذا القول، إلا أنَّ ذلك لا يَعنِي بالضرورة أنهم على صوابٍ، أو أن عليكِ طاعتهم؛ فالعاقلةُ تعلم ما تَجتَبِي مِن النصح، وما لا يستحق أن توليَه اهتمامها، وأنتِ ما تركتِه لأجل التدخين فحسب، وإنما حَمَلَك على ذلك ما لا تُطِيقه نفسُكِ الأبيَّة وروحك النقيَّة مِن فاحش القول، وبذيء الكلام الذي لا يدلُّ إلا على فسادِ قلب صاحبه، ومَن فسد قلبُه لا يستقيم حاله، ولا يصْلُح لكِ زوجًا و لا لأبنائكِ أبًا، فلا تبكي عليه، ولا تحزني على فواته، واحمدي الله أنْ هداكِ لفعل هذا، رغم حاجتكِ للزواج، وتذكَّري أنَّ مَن يُؤْثِر رضا الله ويرجو فضلَه لا يردُّه ربُّه خائبًا مخذولًا.
وأما عن ضعْف أَمَلكِ في الزواج لكبرِ سنِّك، وقلة زادك من الجمال، فتعلمين - أخيتي - أن الزواج رِزْقٌ كسائر الأرزاق، وأنه قد تتوافر كافة مقوِّمات الزواج السعيد للفتاة - مِن جمالٍ، ومالٍ، وحَسَبٍ، وغيرها مِن الصفات الدينية أو الدنيوية التي تُرَغِّب كلَّ شاب فيها - ثم تبقى حياتها بلا زوج، وقد تحمل اليسير من صفات يَرْغَب فيها الشباب، ثم يتهافَت عليها الخاطبون، ويتوافَد عليها الصالحون مِن الرجال، والواقع خيرُ شاهدٍ على ذلك.
نعم، هناك أملٌ في الزواج ما بقي في قلبكِ إيمانٌ بالله، وأملٌ في رحمته، وما بقي يقينكِ بقدرته - عز وجل - ورضاك بقضائه وقدره، عقيدة راسخة لديك، لا يُزحزحها كلامُ الأهل، ولا يغيرها لَوْم الصديقات، ولا يبدِّلها تقريع الجارات.
اللهُ أَكْـبَــرُ، آمَـالِـي يُـحَـقِّقُهَـا *** فِيهِ يَقِينِي وَحُسْنُ الظَّنِّ بِـاللهِ
اللهُ أَكْبَرُ، شَيْطَانِي غُلِبْتُ بِـهِ *** مَـا مُنْقِذِي مِنْـهُ إِلَّا عِصْمَـةُ اللهِ
تذكرة أخيرة أبثُّك إيَّاها قبل أن أُنهِي الحديث:
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "اعلمْ أنَّ دعاء المؤمن لا يُرَد، غير أنه قد يكون الأَوْلى له تأخير الإجابة، أو يعوَّض بما هو أولى له عاجلًا أو آجلًا، فينبغي للمؤمن ألا يترك الطلب من ربه؛ فإنه متعبد بالدعاء كما هو متعبد بالتسليم والتفويض".
فالدعاءُ مِن الأخْذِ بالأسباب مع التوكُّل على الله، فتذكريه في كلِّ سجدة، واحرصي عليه، متحرِّية أوقات الاستجابة، ومِن الأخذ بالأسباب السعي لتحصيل الرزق، كالاشتراك في مواقع الزواج الإسلامية الثقة؛ كمشروع ابن باز الخيري، ولديهم خصوصيَّة وأمانة، أحسبهم على خير، ولا أزكِّيهم على الله.
ومنه التعرُّف إلى مَن حولك، وتلبية الدعوات، وحضور المناسبات، والتجمُّل بالمباحات.
وثقي أن الله لن يضيع قلبًا تعلَّق به، ورَجَا رحمته، ولن يَرُدَّ يَدَينِ ارتفعتا في تضرع وخشوعٍ بأمل ويقين.
والله الموفِّق، وهو الهادي إلى سواء السبيل