ارتكاب الفحشاء وقبول الصلاة
سائل يسأل عمن يصلي ويرتكب الفواحش، هل يمكن القول بأن تلك الصلاة غير مقبولة دون تحديد شخص معين، على أساس أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فمن لم تنهَهُ صلاته، فكأنه لم يُصلِّ، هل يمكن القول بذلك؟
السلام عليكم.
لقد تناقشت مع بعض الأصدقاء حول ما إذا أدى المسلم الصلاة المفروضة ثم بعد ذلك مباشرة ارتكب فاحشة أو منكرًا،
أولًا: هل يمكن النقاش حول هذا الموضوع في العموم؛ كأن نقول: إن هذا الفعل من علامات القبول أو عدمه؟
ثانيًا: هل يمكن القول بأن هذا العمل الفاحش والمنكر بعد أداء الصلاة مباشرة من علامات عدم قبول الصلاة بصفة عامة، دون اختصاص بشخص معين، فلا نقول مثلًا: فلان أدى صلاة العصر ثم ارتكب فاحشة أو منكرًا، وإن فعله هذا من علامات عدم قبول صلاته، إنما المقصود هنا هو أن الله تعالى أخبر أن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، فمن أقامها ثم لم ينتهِ عن المعاصي، لم تكن صلاته بالصفة التي وصفها الله تعالى، وإذا لم تكن بتلك الصفة لم تكن صلاة، فإن أدى الفرد الصلاةَ يومًا كاملة تامة مستوفية لشرائطها، وأركانها، وواجباتها، وخشوعها، وحضور القلب فيها - كانت نافعة له ناهية، ومن ثَمَّ تصل إلى المرحلة التي يمكن أن يتقبلها الله إن شاء؛ حيث إن الله يتقبل من المتقين، ومن شروط التقوى الإخلاص، والصلاة الكاملة هي التي تؤدَّى بإخلاص، فهل يجوز القول بأن عدم أداء الصلاة كاملة يمكن أن يؤدي إلى ارتكاب الفحشاء والمنكر، ومن ثَمَّ إمكانية عدم القبول؟ على سبيل المثال: أربعة تلاميذ بالثانوية يريدون أن يصيروا أطباء، ولكي تلتحق بكلية الطب يجب أولًا أن يحصل التلميذ على معدل 16/ 20 كي يجتاز امتحان الدخول لكلية الطب، وبعد ذلك عليه أن ينجح في هذا الامتحان، التلميذ الأول حصل على معدل 17/ 20، والثاني على 18/ 20، والثالث 12/ 20، والرابع على 9/ 20؛ إذًا التلميذان الأول والثاني يمكن أن يُقبلا في كلية الطب، أما الثالث فلم يصل لمرحلة القبول كي يجتاز الامتحان، والرابع الذي رسب لا يمكن قبوله في أي كلية؛ وعليه فإن تأدية الصلاة كما ينبغي توصِّلنا إلى مرحلة القبول، وبعد ذلك إن شاء الله قبِلها وإن شاء لم يقبلها، وعدم تأديتها كاملة لا يمكن حتى أن تصل بها إلى مرحلة القبول (كالتلميذ الثالث والرابع)، أرجو الإفادة، وجزاكم الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
اعلم رحمك الله أنه يُشترط كما قرر أهل العلم لصحة العبادة شرطان أساسيان:
الأول: الإخلاص لله تعالى، وهو مقتضى لا إله إلا الله؛ فيعمل العمل لا يعمله إلا لله وحده؛ قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وجماع الدين أصلان: ألَّا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]"[1]، وروى أبو سعيد رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر الدَّجال، فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من الدجال» ؟ قلنا: بلى، فقال: «الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي فيُزيِّن صلاته لِما يدرك من نظر رجل» [2].
الثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مقتضى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، فيجب أن يكون العمل موافقًا لِما جاء في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ» [3]؛ ومعنى رد: أي: مردود عليه غير مقبول.
قال ابن رجب رحمه الله: "هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يُراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء"[4].
فانظر - يا رعاك الله - إلى كل عبادةٍ تعملها هل تحقق هذان الشرطان فيها أو لا؟
فمتى ما تخلَّف الشرط الأول "شرط الإخلاص"، وقع المتعبد بالشرك أصغر كان أم أكبر، على حسب مخالفته، ومتى ما تخلَّف الشرط الثاني "شرط المتابعة"، وقع المتعبد بالبدعة مكفرة كانت أم مُفسِّقة على حسب مخالفته.
ثم إنَّ ترك العبد للفحشاء والمنكر بعد الصلاة قرينة على قبولها وعلامة على ذلك؛ لصريح الآية: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45].
"ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمِّمَ لأركانها وشروطها وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها، وثَمَّ في الصلاة مقصودٌ أعظمُ من هذا وأكبر، وهو ما اشتملت عليه من ذكر الله، بالقلب واللسان والبدن، فإن الله تعالى، إنما خلق الخلق لعبادته، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة، وفيها من عبوديات الجوارح كلها، ما ليس في غيرها"[5].
وليس معنى ذلك أنَّ من أتى منكرًا بعد صلاته فقد بطلت، إنما المقصود نقصان أجرها وثقلها عليه، نسأل الله السلامة والعافية، وبحسب الإثم والمعاصي يكون ذلك.
[1] مجموع الفتاوى (10/ 234).
[2] رواه ابن ماجه (2/ 1406) برقم 4204، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1/ 509) برقم 2607.
[3] صحيح مسلم (3/ 1343) برقم: 1718.
[4] جامع العلوم والحكم (1/ 176).
[5] تفسير السعدي، سورة العنكبوت آية (45).
- التصنيف: