علاج الكِبْر
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: استشارات تربوية وأسرية -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أُعاني مِنْ مُشكلة كبيرة، وهي الكِبْر، فأجِد في نفْسي شيئًا منه؛ مثل: الأمْن مِنْ مكْر الله، واحتِقار المُذنبين، وقد جاهدتُ نفسي كثيرًا، ولكنْ بلا جدْوى، وقد كبرتْ مُعاناتي، خاصَّة عندما علمْتُ أنَّه لا يدخل الجنَّة مَنْ كان في قلْبه ذرَّة مِنْ كِبْر.
أُريد أنْ أَتَخَلَّص مِن هذا الشُّعور، ولكنِّي لا أستطيع، أرجوكم ساعدوني قبْل أنْ أهلك.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آلِه وصَحْبه ومَنْ والاه، أمَّا بعدُ:
فالكبر منَ المهلِكات التي لا يخلو أحدٌ منَ الخلْق مِن شيء منه، فالنفسُ البشريَّة معجونة به، وعلى العاقل الناصح لنفسه إذا شعر بتوهُّج نار الكبْر، إدْراكُها بالتواضُع، وليس ذلك بالتمنِّي، بل بالمُجاهَدة والمُعالَجة، واستعمال الأدْوية القامعة التي تزيله، وإزالته فرْض عيْن، مع دفْع العارِض من الأسباب الخاصَّة التي بها يتكبَّر الإنسان على غيره.
ومما يُعين العبْد على اقْتِلاعه أمور كثيرة، نذكر ما تَيَسَّر منها:
- معرفة ذم الله للمُتَكبّرين، كما في مواضع من كتابه؛ قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146]، وقال - عز وجلَّ -: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر: 35]، وقال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [إبراهيم: 15]، وقال تعالى: { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23]، وقال تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]، والآيات في هذا الباب أكثر مِنْ أن يُحاط بها في ذلك الموضع.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصَّغار، حتى يدخلوا سجنًا في جهنم، يقال له: بولس، فتعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار»؛ رواه أحمد والترمذي، مِنْ حديث عبدالله بن عمرو.
وفي الصحيحَيْن عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله إلى مَن جرَّ ثوبه خيلاء».
وروى البخاري عن أبي هريرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى مَن جرَّ إزاره بطَرًا».
وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما رجل يجرُّ إزاره منَ الخُيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»؛ متفق عليه.
الخيلاء: الكبر مع الإعجاب بالنفس، يتجلجل: يتحرك في أعماق الأرض، والجلجلة الحركة مع الصوت.
وروى مسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله - عز وجل -: «العزُّ إزاره، والكبْرياء رداؤه، فمَن يُنازعني عذبته» .
ومنها: معرفة أنَّ التواضُع هو مجامع حسن الخلق، وهو هدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي خير القُرُون، والتواضُع هو لين الجانب، وعدم الترفُّع على الناس؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِن أحبكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا»؛ وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: ((كانت الأمة مِن إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءتْ)).
وروى ابن ماجه عن أبي مسعود قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فكلَّمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال له: ((هوِّن عليك، فإنِّي لستُ بملك، إنَّما أنا ابن امرأة تأكل القديد)).
وقال علي بن أبي طالب: "لا ينقص الرجل الكامل مِن كماله ما حمل مِن شيء إلى عياله"، وكان أبو عبيدة بن الجراح - وهو أمير - يحمل سطلاً له مِنْ خشب إلى الحمام.
وقال ثابت بن أبي مالك: رأيتُ أبا هريرة أقبل منَ السوق يحمل حزمة حطب، وهو يومئذٍ خليفة لمروان، فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك، وعن الأصبغ بن نباتة قال: كأنِّي أنظر إلى عمر - رضي الله عنه - معلقًا لحمًا في يده اليسرى، وفي يده اليُمنى الدرّة، يدور في الأسواق حتى دخل رحله.
وقال بعضُهم: رأيتُ عليًّا - رضي الله عنه - قد اشترى لحمًا بدرهم، فحمله في ملحفته، فقلتُ له: أحمل عنك يا أمير المؤمنين، فقال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل.
روي عن عمر بن عبدالعزيز أتاه ليلة ضيف، وكان يكتب، فكاد السراج يطفأ، فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه، فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدمَ ضيفه، قال: أفأنبِّه الغلام؟ فقال: هي أول نومة نامها، فقام وأخذ البطة وملأ المصباح زيتًا، فقال الضيف: قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين! فقال: ذهبتُ وأنا عمر، ورجعتُ وأنا عمر، ما نقص منِّي شيء.
ومنها: ترك الفاخر من اللباس ولو أحيانًا، إذ يظهر من الملبس التكبُّر والتواضُع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «البذاذة - الدون من اللباس - من الإيمان»؛ رواه أبو داود وابن ماجه، حديث أبي أمامة.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة»؛ أخرجه أبو داود وأحمد، وعلقه البخاري.
وقال ابن عباس: كل ما شئت، والْبس واشربْ ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة.
وروى أحمد وأبو داود: أنَّ رجلاً مِنْ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر، فقدم عليه وهو يمد ناقة له، فقال: إني لَم آتك زائرًا، إنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجوت أن يكونَ عندك منه علم، فرآه شعثًا فقال: ما لي أراك شعثًا، وأنت أمير البلد؟ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، ورآه حافيًا فقال: ما لي أراك حافيًا؟ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا أن نحتفي أحيانًا.
وقال زيد بن وهب: رأيتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى السوق وبيده الدرة، وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة، بعضها من أدم، وعوتب علي في إزار مرقوع، فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب.
وقال طاوس: إنِّي لأغسل ثوبيَّ هذَيْن، فأنكر قلبي ما داما نقيين.
ومنها: أن يتذكرَ الإنسان النِّعَم التي أنْعم الله بها عَلَيْه، وأن مِن شُكْرها أن يتواضع، وأن يحقر نفسه، وألا يتكبر على إخوانه ويترفَّع عليهم؛ فالتكبر يدعو إلى الظلم والكذب وعدم الإنصاف في القول والعمل، يرى نفسه فوق أخيه؛ إما لمالٍ، وإما لجمالٍ، وإما لوظيفة، وإما لنسب، وإما لأشياء متوهمة؛ ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ»؛ يعني: رد الحق إذا خالف هواه، هذا تكبر، وغمط الناس: احتقار الناس يراهم دونه، وأنهم ليسوا جديرين بأن ينصفهم، أو يبدأهم بالسلام، أو يجيب دعوتهم، أو ما أشبه ذلك.
ومنها: تذكر عاقبة التكبُّر والغرور؛ ففي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقالُ حَبَّة مِنْ خَرْدل من كِبْر» .
ومنها: صحبةُ الصالحاتِ المتواضعاتِ المتمسكناتِ؛ فالطبائع سرَّاقة.
قال أبو حامد الغزالي في "الإحياء": "المقام الأول في استئصال أصْله - الكبْر - وعلاجه علمي وعملي، ولا يتم الشِّفاء إلا بمجموعهما، أما العلمي: فهو أن يعرف نفسه، ويعرف ربه تعالى، ويكفيه ذلك في إزالة الكبر، فإنَّه مهما عرف نفسه حق المعرفة، علم أنه أذل مِنْ كُل ذليل، وأقل مِنْ كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضُع والذلَّة والمهانة، وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله.
أما معرفته ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول، وأما معرفته نفسه فهو أيضًا يطول، ولكنَّا نذكر من ذلك ما ينفع في إثارة التواضُع والمذلة، ويكفيه أن يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله، فإن في القرآن علمَ الأولين والآخرين لمن فتحت بصيرتُه، وقد قال تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ } [عبس: 17 - 22]، فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان، وإلى آخر أمره، وإلى وسطه، فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية.
أما أول الإنسان، فهو أنه لم يكنْ شيئًا مذْكورًا، وقد كان في حيِّز العدم دهورًا، بل لَم يكنْ لعدمه أول، وأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم، وقد كان كذلك في القدم، ثم خَلَقَهُ الله مِنْ أرذل الأشياء، ثم من أقذرها، إذ قد خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثُم من مضغة، ثم جَعَلَهُ عظمًا، ثم كسا العظْم لحمًا، فقد كان هذا بداية وجوده حيث كان شيئًا مذْكورًا، فما صار شيئًا مذكورًا إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت؛ إذ لم يخلق في ابتدائه كاملاً، بل خلقه جمادًا ميتًا، لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس ولا يتحرك، ولا ينطق ولا يبطش، ولا يدرك ولا يعلم، فبدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبجهله قبل علمه، وبعماه قبل بصره، وبصممه قبل سمعه، وببكمه قبل نطقه، وبضلالته قبل هداه، وبفَقْره قبل غناه، وبعجزه قبل قُدْرته؛ فهذا معنى قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 18، 19]، ومعنى قوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان: 1، 2]، كذلك خلقه أولاً، ثم امْتَنَّ عليه، فقال: ﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾ [عبس: 20]، وهذا إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت، وكذلك قال: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2، 3]، ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جمادًا ميتًا ترابًا أولاً، ونطفة ثانيًا، وأسمعه بعدما كان أصم، وبصَّره بعدما كان فاقدًا للبصر، وقوَّاه بعد الضعف، وعلَّمه بعد الجهل، وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها، وأغناه بعد الفقر، وأشبعه بعد الجوع، وكساه بعد العري، وهداه بعد الضلال.
فانظر كيف دبَّره وصوَّره، وإلى السبيل كيف يسَّره، وإلى طغيان الإنسان ما أكفره، وإلى جهل الإنسان كيف أظهره؛ فقال: { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس : 77]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم : 20].
فانظر إلى نعمة الله كيف نقله من تلك الذِّلة والقِلَّة، والخِسَّة والقذارة، إلى هذه الرِّفعة والكرامة، فصار موجودًا بعد العدم، وحيًّا بعد الموت، وناطقًا بعد البكم، وبصيرًا بعد العمى، وقويًّا بعد الضَّعف، وعالمًا بعد الجهل، ومهديًّا بعد الضلال، وقادرًا بعد العجز، وغنيًّا بعد الفقر، فكان في ذاته لا شيء، وأيُّ شيءٍ أخسُّ مِن لا شيء؟! وأي قِلَّة أقل من العدم المحض؟! ثم صار بالله شيئًا، وإنما خَلَقَه منَ التُّراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام، والنُّطفة القذرة بعد العدم المحض أيضًا؛ ليعرفه خِسَّة ذاته فيعرف به نفسه، وإنما أكمل النعمة عليه؛ ليعرف بها ربَّه، ويعلم بها عظمته وجلاله، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به - جل وعلا - ولذلك امْتَنَّ عليه، فقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد : 8 - 10].
وعرف خِسَّته أولاً، فقال: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} [القيامة : 37 - 38]، ثم ذكر مِنَّته عليه، فقال: {فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة : 38 - 39]؛ ليدوم وجوده بالتناسل، كما حصل وجوده أولاً بالاختراع، فمن كان هذا بَدْؤه، وهذه أحواله، فمِن أين له البطر والكبرياء، والفخر والخيلاء؟! وهو على التحقيق أخسُّ الأخِسَّاء، وأضعف الضعفاء، ولكن هذه عادة الخسيس إذا رُفِع من خِسَّته، شمخ بأَنْفِه وتعظَّم؛ وذلك لدلالة خِسة أوله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نعم، لو أكمله وفوَّض إليه أمره، وأدام له الوجود باختياره، لجاز أن يطغى، وينسى المبدأ والمنتهى، ولكنه سلَّط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة، والآفات المختلفة، والطباع المتضادة؛ من البلغم، والريح، والدم، يهدم البعض من أجزائه البعض، شاء أم أبى، رضي أم سخط، فيجوع كرهًا، ويعطش كرهًا، ويمرض كرهًا، ويموت كرهًا، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا خيرًا ولا شرًّا، يريد أن يعلم الشيء فيجهله، ويريد أن يذكر الشيء فينساه، ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه، فلا يغفل عنه، ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمُّه، فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار، فلا يملك قلبه قلبه، ولا نفسه نفسه، ويشتهي الشيء وربما يكون هلاكه فيه، ويكره الشيء وربما تكون حياته فيه، يستلذ الأطعمة وتهلكه وترديه، ويستبشع الأدوية وهي تنفعه وتحييه، ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يُسْلب سمعه وبصره، وتُفْلج أعضاؤه، ويُختلس عقله، ويُختطف روحه، ويُسْلب جميع ما يهواه في دنياه، فهو مضطر ذليل، إن تُرِك بَقِي، وإن اختطف فَنِي، عبد مملوك لا يقْدر على شيء مِن نفسه، ولا شيء مِن غيره، فأيُّ شيء أذلُّ منه لو عرف نفسه؟! وأنَّى يليق الكبر به لولا جهله؟! فهذا أوسط أحواله فليتأمَّله.
وأما آخره ومورده، فهو الموت المشار إليه بقوله - تعالى -: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس : 21 - 22]، ومعناه أنه يسلب روحه، وسمعه وبصره، وعلمه وقدرته، وحسه وإدراكه، وحركته، فيعود جمادًا كما كان أول مرة، لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته لا حس فيه ولا حركة، ثم يوضع في التراب فيصير جِيفةً مُنْتنة قذرة، كما كان في الأول نطفة مذرة، ثم تَبْلى أعضاؤه، وتتفتت أجزاؤه، وتنخر عظامه، ويصير رميمًا رُفاتًا، ويأكل الدودُ أجزاءه، فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما، وبخديه فيقطعهما، وبسائر أجزائه فيصير رَوَثًا في أجواف الديدان، ويكون جِيفة يهرب منه الحيوان، ويستقذره كلُّ إنسان، ويهرب منه لشدة الإنتان، وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان، فيصير ترابًا يعمل منه الكيزان، ويعمل منه البنيان، فيصير مفقودًا بعد أن كان موجودًا، وصار كأن لم يغن بالأمس حصيدًا كما كان في أول أمره أمدًا مديدًا، وليته بَقِي كذلك، فما أحسنَه لو تُرك ترابًا! لا بل يحييه بعد طول البِلى؛ ليقاسي شديد البلاء، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة، ويخرج إلى أهوال القيامة، فينظر إلى قيامة قائمة، وسماء مشققة ممزقة، وأرض مبدلة، وجبال مسيَّرة، ونجوم منكدرة، وشمس منكسفة، وأحوال مظلمة، وملائكة غِلاظ شِداد، وجهنم تزفر، وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسَّر، ويرى صحائف منشورة، فيقال له: اقرأ كتابك، فيقول: وما هو؟ فيقال: كان قد وُكِّل بك - في حياتك التي كنت تفرح بها، وتتكبر بنعيمها، وتفتخر بأسبابها - ملكان رقيبان يكتبان عليك ما كنت تنطق به أو تعمله من قليل وكثير، ونقير وقطمير، وأكل وشرب، وقيام وقعود، قد نسيت ذلك وأحصاه الله عليك، فَهَلُمَّ إلى الحساب، واستعد للجواب، أو تساقَ إلى دار العذاب، فينقطع قلبه فزعًا من هول هذا الخطاب قبل أن تنتشر الصحيفة، ويشاهد ما فيها من مخازيه، فإذا شاهده، قال: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف : 49].
فهذا آخر أمره، وهو معنى قوله - تعالى -: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس : 22]، فما لمن هذا حاله والتكبر والتعظم؟! بل ماله وللفرح في لحظة واحدة؟! فضلاً عن البطر والأشر، فقد ظهر له أول حاله ووسطه، ولو ظهر آخره - والعياذ بالله تعالى - ربما اختار أن يكون كلبًا، أو خِنزيرًا؛ ليصير مع البهائم ترابًا، ولا يكون إنسانًا يسمع خطابًا، أو يلقى عذابًا، وإن كان عند الله مستحقًّا للنار، فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع؛ إذ أوله التراب وآخره التراب، وهو بمعزل عن الحساب والعذاب، والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق، ولو رأى أهل الدُّنيا العبد المذنب في النار، لصعقوا من وحشة خِلْقته وقبح صورته، ولو وجدوا ريحه لماتوا من نَتنه، ولو وقعتْ قطرة من شرابه الذي يُسْقى منه في بحار الدنيا، لصارتْ أنتن من الجيفة، فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من العفو، كيف يفرح ويبطر؟! وكيف يتكبَّر ويتجبَّر؟! وكيف يرى نفسه شيئًا حتى يعتقد له فضْلاً؟! وأيُّ عبدٍ لَم يذنب ذنبًا استحق به العقوبة، إلا أن يعفو الله الكريم بفضله، ويجبر الكسر بمنِّه والرجاء منه؛ ذلك لكرمه وحسن الظن به، ولا قوة إلا بالله، أرأيت من جنى على بعض الملوك؟! فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط، فحبس إلى السجن، وهو ينتظر أن يخرج إلى العرض، وتُقام عليه العقوبة على ملأٍ من الخَلق، وليس يدري أيُعْفى عنه أم لا، كيف يكون ذله في السجن؟! أفترى أنه يتكبر على من في السجن؟! وما من عبد مذنب إلا والدنيا سجنه، وقد استحق العقوبة من الله - تعالى - ولا يدري كيف يكون آخر أمره، فيكفيه ذلك حزنًا وخوفًا، وإشفاقًا ومهانةً وذلاًّ، فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر.
وأما العلاج العملي، فهو التواضع لله بالفعل، ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين، كما وصفناه وحكيناه من أحوال الصالحين، ومِن أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه كان يأكل على الأرض ويقول: «إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبد»، وقيل لسلمان: لَم لا تلبس ثوبًا جديدًا؟ فقال: إنما أنا عبدٌ، فإذا أُعتقت يومًا لبست جديدًا، أشار به إلى العتق في الآخرة، ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل". اهـ. مختصرًا.
أما الأمْن مِنْ مكْر الله، فمن أمراض القلب الواجب قلعها، فالمسلم لا ينبغي له أن يكون آمنًا على ما معه من الإيمان، بل لا يزال خائفًا وجلاً أن يسلب منه، حيث يستدرجهم الله من حيث لا يعلمون، ويملي لهم، إن كيده متين؛ ولذلك كان أكثر دعاء سيد الخلق – صلى الله عليه وسلم -: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، مع العمل والسعي لكل ما يخلصه من ذلك، قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
أما احتِقاركِ للمُذنبين، فعلاجه الناجع أن تتذكري أن الله - تعالى - هو الذي مَنَّ عليك بالطاعة، ووفقكِ لها، بل إن معتقد أهل السنة أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله، وأنه لو شاء لترككِ لنفسكِ الأمارة بالسوء؛ قال – تعالى -: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات : 96]، وقال – سبحانه -: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فمن نفسك} [النساء: 79]، وقال {مَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل : 53].
فينبغي لكِ إذا أحسستِ بميلٍ لاتباع الهوى، أن تتذكري عظيم منَّة الله عليكِ، وتتذكري قديم حالكِ؛ كما قال تعالى: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء : 94]، ولتكوني على حذر ووجل من الحور بعد الكور، والغي بعد الرشد؛ ولتتدبري قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران : 8].